أعتقد أن سر النجاح والإعجاب الكبير الجماهيري والفني الذي أحاط بالفنان المتألق أحمد حلمي كان يرجع بالدرجة الأولي إلي قدرته علي خلق التوازن بين ما هو فني وتجاري في أفلامه.. وحرصه الشديد علي البعد عن الابتذال السوقي الذي أصاب الكثير من الأفلام الكوميدية المصرية.. وجنح بها نحو أفق ضيق.. ربما عاد بالمنفعة المادية علي منتجها.. ولكنه أصاب بالعقم الحقيقي مبدعيها وفنانيها.. في (كده رضا) واحد من آخر أفلام أحمد حلمي.. وصل أسلوب هذا الفنان الشاب إلي أوجه.. سواء في اختيار الموضوع الذي يناسبه.. سواء في رسم الشخصية التي يجسدها وسواء في الاعتماد علي كل العناصر الفنية المصاحبة له والتي بدا لي أنه كان حريصًا جدًا علي اختيارها بعناية وفهم وذوق فني حقيقي. لم يكن هناك في أفلام أحمد حلمي السابقة.. أي مباشرة فجة.. أو أي خلل في تركيبة الفيلم واتجاهه لذلك حققت هذه الأفلام موجة إعجاب حقيقية امتدت من الجماهير الكثيرة إلي أقلام النقاد كافة. هذا التوازن الذي بتنا (نحسد) أحمد حلمي عليه.. ونتمني لو استطاع أن يذهب به عمقًا وأن يستمر في عطائه وتحديد موجة الأفلام الضاحكة الهابطة التي بدأت تهطل علينا كأمطار الخريف.. ولكن يبدو أن موسم الربيع لا يمكن أن يستمر إلي الأبد.. وأن علامات تثير القلق قد بدأت تظهر في هذا الأسلوب الكوميدي المتقن الذي سار عليه أحمد حلمي.. والذي بدأت بفعل ظواهر.. تطل برأسها من خلال فيلمه الأخير (عسل إسود). عسل إسود.. كتبه كاتب شاب هو خالد دياب.. وأخرجه مخرج شاب أيضًا اعترفنا بتمكنه وقدرته علي فهم أسلوب أحمد حلمي.. والسير به قدمًا وبطريقة متقنة وهو (خالد مرعي). الفيلم كما يبدو من موضوعه يريد أن يطرح نقدًا اجتماعيًا مباشرًا.. يدخل في صميم الحياة المصرية وشخوصها.. من خلال شاب هاجر إلي أمريكا ونجح فيها.. ثم قرر العودة إلي مصر بعد عشرين عامًا من الغياب حاملاً حقيبته الصغيرة وأحلامه الكثيرة وطموحات شتي. فما الذي سيراه ويكتشفه في هذا البلد الذي تركه صغيرًا ولكنه حمله في قلبه إلي بلاد الغربة.. محاطًا بالكثير من الذكريات الحلوة والمواقف الرقيقة التي لا يمكن أن يزول تأثيرها عن النفس مهما طال الغياب. إنه يحمل جوازي سفر.. جواز أمريكي بحكم إقامته هناك .. وجوازه الأصلي المصري الذي لم يرغب في هجره.. لأن الروابط التي تربطه ببلده لا يمكن أن تنقطع رغم البعد والمسافات.. ومنذ أن يضع قدمه في المطار.. يحس (بطلنا) حالاً.. بالفوارق الرسمية في الاستقبال بين المواطن المصري والمواطن الأمريكي.. وموقف السلطات منهما.. الأول يعامل بقسوة واستهانة ولا مبالاة وتعسف والثاني يعامل وكأنه موفد من السماء. الفيلم إذن يبدأ بنوع من النقد اللاذع الحقيقي.. الذي يشتد رويدًا رويدًا مع تقدم الأحداث.. هناك سائق التاكسي النصاب الذي يستغل جهل السائح الأمريكي..فيسرقه ويبيعه بعشرة أضعاف الثمن.. إلي الأشياء التي يرغب بها (زجاجة الماء المعدني بثلاثين جنيهًا وسندويتش الفول بمائة جنيه، والدولار الأمريكي يصرف بجنيهين فقط). وفي الفندق تتكرر هذه المعاملة السيئة.. وفي كل مكان تطأ قداماه.. يفاجأ بأن الأمور تتغير كليا.. ما إن يعرف أصحابها ممن يتعاملون معه أنه مصري.. وليس أمريكيًا وهو ما يبدو من مظهره. ويسير الفيلم طويلاً علي هذا المنوال.. بل إن المواقف تتصاعد.. عندما يحاول (بطلنا) واسمه المصري (في مباشرة فجة لا تليق بأفلام أحمد حلمي) أن يعود إلي جوازه الأمريكي لينقذ نفسه من الاستغلال.. ويستطيع الحصول علي حقوقه.. وأن يدافع عن حقوق الآخرين.. وأن يدخل في حوار مع رجال البوليس أمام انتفاضة شعبية وتظاهرة كبيرة ضد أمريكا.. تضربه الجموع الناخبة.. ويضيع جواز سفره الأمريكي.. ويصبح بلا هوية (لأنه كان قد رمي جوازه المصري في النيل اعتراضًا علي سوء المعاملة التي لقاها) ويودع السجن وهناك أيضًا يتعرض للكثير من المشاكل وينقذه سائق التاكسي النصاب وهو الإنسان الوحيد الذي يعرفه والذي حاول الوقوف إلي جانبه.. عندما أوقفه رجال البوليس حماية لمسئول تجني عليه ظلمًا وأصاب سيارته بأضرار فادحة. ويهيم المصري في الطرقات.. وتساعده (دينا) الراقصة التي توزع لحمًا علي الفقراء.. ويحاول الحصول علي هوية جديدة.. ويواجه بالرشوة والفساد واستغلال النفود. مبالغات كثيرة في السيناريو.. قد تقبل بعضها وقد ترفض بعضها الآخر لكنها تسير في سياق خاص بها، ويصور (القهر) الذي يعانيه المواطن المصري من حكومته ومن أفراد شعبه والهالة الخاصة التي تحيط بالأجنبي الذي يكرم في بلادنا علي حساب المواطن الأصلي البسيط الذي تتنحي أبسط حقوقه الإنسانية. قد تلجأ الكوميديا إلي هذا النوع من المبالغات لتأكيد وجهة نظرها.. فهذا أسلوب متبع ولا غبار عليه.. رغم أننا نفضل بكثير الأسلوب الآخر، الذي يتبعه كبار كتاب وممثلي الكوميديا الذين يعتمدون علي الإيحاء واللامباشرة والتأكيد بفنية عالية علي العيوب دون صراخ كثير ومباشرة فجة. حتي هذا الموقف نحن أمام سيناريو مكون من اسكتشات صغيرة تتوجه إلي الكثير من مواقف الحياة اليومية.. الزحام في الأوتوبيس موائد الرحمن، الروتين الإداري، وسواه.. البعض منها.. لا يخلو من خفة تثيرها شخصية أحمد حلمي.. تراوحت في هذا الفيلم من الكاريكاتورية الفجة.. (سواء في طريقة اللبس أو تسريحة الشعر أو طريقة الكلام المختلط بإنجليزية ركيكة.. وبمسحة فاحشة تتكرر باستمرار باللغة الإنجليزية. ولكن فجأة ودون سابق إنذار يتجه الفيلم والسيناريو إلي إطار آخر.. مختلف تمامًا في سياقه وأسلوبه وطريقته عن الأحداث التي شهدناها حتي منتصف الفيلم. إذ يكتشف المصري.. أنه كان يسكن في حارة شعبية وإن له شقة هناك يذهب إليها فيجدها فارغة ويعتقد الجيران عندما اقتحمها عنوة أنه لص.. يشبعونه ضربًا ولكنهم عندما يعرفون هويته الحقيقية يستقبلونه كابن لهم عاد بعد غياب طويل. وتظهر في الفيلم.. شخصيات جديدة.. وأحداث جديدة.. بينما يختفي تمامًا.. سائق التاكسي (راضي) الذي كان الشريك الأكبر في النصف الأول من الفيلم لمغامرات المصري في بلده. الأسرة مكونة من الابنة المتزوجة التي لا تستطيع إتمام زواجها بسبب عدم وجود شقة تأويها مع زوجها المتعصب دينيًا، وهناك ابن العائلة (إدوار) الخريج الجامعي والذي لم يجد عملاً يعيش عليه رغم تخرجه منذ سنوات عديدة.. ويعيش علي حساب أمه الحاجة والجار البائس والذي مازال يحلم بمصر أخري سعيدة وذات كبرياء.. ومدرسة الإنجليزي التي لا تجيد الإنجليزية. وبعرض الفيلم هنا في خطين جديدين وكأنه فيلم مختلف تمامًا.. ونعيش مع المصري الأمريكي مآسي هذه الأسرة المتوسطة التي تمثل في الفيلم غالبية الأسر المصرية المستورة بمشاكلها وأحلامها المجهضة وتعصبها وحنانها. وهنا.. يترنح الفيلم بإيقاعه ويصل إلي درجة من التكرار والاملال.. ولا يخلو الأمر من تصوير النواحي السلبية في هذه الأسرة.. كشخصية الطفل الذي تعود منذ الطفولة علي الغش والخداع والسرقة.. والذي يعطيه المصري مالاً.. ليجلب له زجاجة ماء معدنية.. ولكن الطفل يسرق المال، ويملأ «زجاجة المعدنية من ماء الحنفية»!! لم أجد أي سبب واحد يقنعني بهذه النظرة المتشائمة التي يلقها الفيلم.. ويدين فيها براءة الأطفال، وربما كانوا هم الأمل الوحيد الذي بقي لنا في تغيير قادم ملييء بالآمال الطيبة ومشهد شم النسيم.. وأكل الفسيخ.. في الحدائق العامة.. ومرض بطلنا المصري، وما تتبع وذلك من أمور، تطيل من أحداث الفيلم بلا مبرر.. وتسقط بإيقاعه إلي الحضيض وعندما يعود جواز السفر الأمريكي بعد طول مدة وحافظة النقود كاملة إلي المواطن المصري (بلفته مجاملة إلي البوليس المصري).. يقرر المصري العودة إلي أمريكا.. تاركًا أسرته الجديدة وشقته التي تنازل عنها للزوجين الذين يتمنيان العثور علي سرير شرعي يضمهما وواهبا مبلغًا كبيرًا من المال لربة الأسرة. ويعود إلي المطار.. يقله راضي سائق التاكسي الذي عاد للظهور مرة أخري. ولكنه في المطار يسترجع كل ما مر به في مصر.. ويراه رغم سواده القاتم.. قريبًا من قلبه أكثر من البلاد الباردة العواطف التي سيذهب إليها. لذلك يستغل جوازه الأمريكي للمرة الأخيرة.. لإجبار الطائرة التي أقلته علي إعادته إلي مصر.. كي يحيا بها آخر أيامه. الفيلم يريد أن يصور القهر الذي يعانيه المواطن المصري في شتي مجالات حياته.. واحتقار النظام لأبنائه.. والركوع أمام الجنسيات الأخري.. وانعدام التوافق في مجتمع مهتز تخلخلت أركانه، وأصاب الفساد حتي استمالة الأبرياء. نيات حسنة.. لم يعرف كاتب السيناريو الشاب كيف يترجمها بشكل درامي مقنع، ولم ينجح أحمد حلمي،، كعادته في رسم أبعاد شخصيته التي ترسخت أكثر من مرة في أكثر من اتجاه، خالد مرعي.. حاول أن يجمع شتات هذه الأوراق المتناثرة.. وأن يعطيها بعدًا فنيًا معقولا.. وهو قد نجح في إعطاء حميمية حلوة لبعض المشاهد.. بينما أفلتت منه مشاهد أخري بدت لي كاسكتشات التليفزيون التي تقدم في بعض البرامج العابرة. (عسل إسود) يقدم شارات خطر واضحة لمسيرة أحمد حلمي الفنية الرائعة التي وقفنا إلي جانبها منذ البداية مشجعين مصفقين ومهللين. وكم أخشي أن يجرف التيار السطحي الهزلي الصاخب واحدًا من أكثر فنانينا الشبان حساسية وموهبة وذكاء، وأن يعيده إلي مصاف الكوميديانات ذوي الشعبية الجارفة رغم هزال أفلامهم.. بعد أن وضعنا كل أمالنا حوله بأنه سيكون منقذنا من هذا المستنقع الكئيب الذي تسبح به الكوميديا المصرية المعاصرة.