يبدو أن المسميات والشكليات والشعارات التى استخدمها التقدميون من أقطاب الفكر الليبرالى أو الماركسى الحديث فى القرن العشرين لم تكن نافعة أبدا فى عملية التغيير فى كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وقد سبق أن نشرت فى كتاب لى عنوانه: العولمة والمستقبل: استراتيجية تفكير!!! جملة من العلل التاريخية التى تختفى وراءها الذهنية المركبة التى لا يمكنها أن تتغير أبدا مهما بلغ العالم من الحداثة والتجديد.. ذلك لأن كل الأقطاب وكل الحركات والأفكار والانبعاثات ولدت فى رحم التخلف الذى لم ينتج إلا مجموعة آليات متخلفة لها عاهات مستديمة. ومع احترامنا لكل الأفكار المجددة على امتداد قرنين كاملين: التاسع عشر والعشرين سابقا، إلا أن وطأة التأخر وانعدام التفكير والانغلاق الذهنى والحضارى قد زاد كله عن الحد الذى كان موجودا فى القرنين السابقين. كما ازدادت حدة التناقضات والثنائيات بعيدا عن استمرارية المذهب الجدلى الديالكتيكى وعن حقائق المناهج العلمية التى لا يمكننا أبدا أن نربطها بغير الحقائق العلمية والتجريبية.. إن الجميع يتحدث باسم العلم والعلوم بطرق تبسيطية ساذجة من دون التمكن منه وتوظيفه فى الحياة الحديثة والحداثة أو المنطق الثقافى والسياسى. نلاحظ أيضا، أن زمنا ثمينا قد افتقدناه لأن كلا من الدولة والمجتمع لا يعرفان حجمهما اليوم بين الأمم، وما دامت هناك ملايين البشر تؤمن إيمانا متحجرا باليا بالمطلقات من دون أى تفكير نسبى، وبالتواكليات لا اتخاذ القرارات، وبالقدريات من دون التغيير.. وما دام هناك من يوهم الملايين بأن الشعارات والخيالات مجموعة حقائق ووقائع، فستبقى مجتمعاتنا متأخرة وستبقى دولنا كسيحة عرضة للانقسام والتهرؤ والزوال! فمن ذا الذى يمكنه أن يتخذ موقفا مضادا من واقع مكابر لا يؤمن بالنسبة والتناسب وليس فى قاموسه إلا خلط الأمور وقلب الحقائق وتمويه الأشياء ومزاولة النقائض وإعدام التفكير وغلق باب العقل وقراءة التاريخ بالمقلوب وإضاعة الزمن وقتل الحريات وأدلجة العقائد الدينية وتقديس الزعماء والمومياوات القديمة.. فإن فلسفة الحداثة لا يمكننا أن نؤسسها فى عالمنا المنكود بكل أوجه القباحة والتخلف والسوء والدمامة والبلادة.. على عكس ما نجده فى مجتمعات ودول أخرى فى آسيا وأوروبا وأمريكا الجنوبية غدوا من أوائل الذين يتعلمون كيفية صناعة مستقبلهم والإبداع فى تاريخهم المستحدث بعيدا عن إعادة إنتاج ما كان قد مضى زمنه. وعليه، فلابد أن يبدأ وعى من نوع جديد يهدف إلى التعلم من حالة المعرفة فى المجتمعات المتقدمة الأكثر تطورا، وقد دعوت هذه الحالة بحالة إسدال الستار على الماضى فى كتابى عن العرب والأتراك: الانبعاث والتحديث "من العثمنة إلى العلمنة". المشروعات الفاشلة فى القرن العشرين سيأتى زمن على أجيالنا الثلاثة القادمة فى القرن الواحد والعشرين، يكتشفون فيه كم جرت من موبقات وخطايا من قبل آبائهم فى القرن العشرين تحت مسميات شتى، وكانت كلها مزيفة وكاذبة ومفبركة.. إننى أكتب ذلك للتاريخ وللناس من بعدنا بعد أن أوهمونا نحن الذين ولدنا وتربينا وعشنا فى النصف الثانى من القرن العشرين بكل تلك الأكاذيب والمهاترات تحت عناوين مختلفة باسم المبادئ والقيم التى تبدو اليوم لثلة من الذين يفكرون ويتأملون ويقارنون كم كانت مكابرة ومزيفة وبليدة.. لم يحدث فى التاريخ أن استعيرت شعارات، وسرقت أفكار، واختلست نصوص، واستوردت إيديولوجيات، وغمرتنا التكنولوجيات.. من دون أن نفكر لحظة واحدة.. من نحن؟ وما مهمتنا؟ وما صنعتنا؟ وما طموحنا؟ وما أحلامنا؟ وما تراثنا؟ وهل سنكون يوما أم لا نكون؟ ما الحداثة؟ ما الذى تعنيه هذه الكلمة؟ إنها تعنى الحالة التى توصلت إليها الثقافة وصنعة الإبداع بعد التحولات التى طرأت على قواعد اللعبة التى تتحكم بالعلم والأدب والفنون منذ نهاية القرن التاسع عشر، وكثيرا ما ذهب الناس فى مجتمعاتنا يدينون العرب وحدهم، وكأنهم وحدهم من المتخلفين فى هذا العالم الفسيح، من دون أن يسألوا أنفسهم يوما: وماذا عن بقية شعوب آسيا وأفريقيا؟ ماذا عن شعوب وريثة حضارات أو ثقافات هى الأخرى؟ أين المجتمع الهندى وأين الإيرانى وأين التركمانى وأين التركى وأين الكردى وأين الأفغانى وأين شعوب القوقاز وأين شعوب البلقان.. أين الشعوب الأخرى التى يضمها العالم الإسلامى؟ نحن والآخر والواقع أن فلسفة الاستنارة وحياة التنوير لم تمارسها عدة مجتمعات آسيوية وأفريقية.. فإذا لم تعرفها عن كثب، فكيف لها أن تخصب أية حداثة؟ وكيف لها أن تقبل التغيير؟ وكيف لها أن تقبل مجرد نقد الواقع؟ إن فلسفة الحداثة والتغيير التى تبلورت فى أوروبا بدءا من عصر التنوير فى القرن الثامن عشر واستمرت طوال القرن التاسع عشر قد ساعدت على تبلور فلسفة متفائلة للدنيا والعمل من أجل مستقبل الإنسان وتطوير الحضارة البشرية من دون توقع ما الذى تنطوى عليه نزعات الإنسان الشريرة! عندما توقع فلاسفة أوروبا أن التقدم مستمر إلى ما لا نهاية بفضل العلم والصناعة والتكنولوجيا، كان هناك مواز له استعمار الشعوب الضعيفة واستنزاف قواها الطبيعية والبشرية.. وبقى الإنسان يتغنى بجملة "مبادئ" ومنها تلك التى أذاعها ولسن فى أمريكا حول تقرير المصير، ولكن بعد حصول الحربين العالميتين والمجازر الاستعمارية وهيروشيما وناجازاكى، ومن ثم فيتنام وكمبوديا.. إلخ، فإن الثقة بالحداثة اختلت وتزعزعت وعندئذ ظهرت فلسفة ما بعد الحداثة لكى تتجاوز سلبيات الحداثة، ولكى تقول ما تشاء على لسان ممثليها كليوتار وسواه، فيجيبهم فريدريك جيمسون بضرورة التنوير والحداثة والتقدم والعقلانية بديلا عن الطوباويات والعودة إلى القرون الوسطى! إن ما يعنينا نحن فى مجتمعاتنا التنوير أساسا ومشاركة العالم كله اليوم كيفية الإنتاج والإبداع، وإلا نكون عالة على الآخرين، فلقد أسهمنا فى تدمير أنفسنا طوال نصف قرن مضى، ويكفى جدا أن نكون وقودا للآخرين، ويكفينا انسحاقا ونزعات عدمية وسوداوية من الحياة الدنيا.. ويكفينا ازدواجية التصرف والتفكير، فلا نحن بقادرين على أن نكون مثل الآخرين، ولا يمكننا من طرف آخر الاستغناء عما ينتجه الآخرون! إن كان الغرب والاستعمار قد دمرنا طوال قرنين من الزمن، فلقد أسهمنا نحن أيضا - بتدمير ذاتنا وتفكيرنا وأذواقنا ومؤسساتنا وكل حياتنا بسوء تفكيرنا وهوس شعاراتنا وتبدد أحلامنا.. وصياحنا فى خطاباتنا وصراعاتنا السياسية على السلطة.. بل وانتقلنا إلى مرحلة المروق والتخلى عن القيم المسالمة.. فمورس التكفير والقتل والإرهاب بشتى صنوفه.. وأصبحت مجتمعاتنا بين سندان الهيمنة الخارجية ومطرقة سلطات المجتمع الداخلية! إن مجتمعاتنا اليوم تمارس ازدواجية المعايير فى كل تصرفاتها، فهى تهاجر إلى الغرب الذى تدعى كراهيته، وهى تضحى بإيجابيات الحداثة بحجة سلبياتها، ولكن ليس باستطاعتها أن تنفصم عن منتجاتها.. إنها تمتلك عقلية متهورة أو غير مسئولة، كونها لا تحسن الرؤية البعيدة.. إنها بهذا المعنى قد فقدت ضرورتها وأصبحت مجردة ولاغية لا معنى لها، إلا إذا كان يعنى ما يقوله البعض القليل من أصحاب العقل الذين يدركون سلبيات ما نعانى منه. هنا أتذكر الموقف العقلانى الذى يتخذه الفيلسوف الألمانى المعاصر يورغين هابرماس فى نقداته لتفكير الطوباويين الغربيين أيضا. ما العمل؟ إننا بحاجة إلى نقد وفلسفة فى تشخيص الحاضر، ومعالجة همومه وقضاياه الأساسية، كما قال الفيلسوف الفرنسى ميشال فوكو فى محاضرته الشهيرة التى ألقاها فى الكوليج دو فرانس، وقد حلل فيها إجابته عن سؤال: ماهو التنوير؟ وأعيد وأكرر أن تهمة تشخيص مشاكل الساعة الراهنة، إذا كانت النخب سابقا تربأ بنفسها عن الاهتمام بالأحداث الجارية أو النزول إلى معمعة الحياة اليومية، فلم يعد أمامنا زمن ومجال كى نعالج قضايا تجريدية أو طوباوية أو خيالية أو أوهام قديمة أو قصصا أسطورية، أو مرويات ميتافيزيقية، أو حكايات تليفزيونية أو عنتريات ثورية، أو بطولات قومية، أو مواعظ منبرية.. إلخ علينا التفكير بالواقع وضجيجه، بالأزمات وأحوال الناس، بالأطفال وتربوياتهم، بالشباب ومستلزماتهم.. بالجامعيين ومناهجهم، بالمرأة ووظائفها، بالمؤسسات وتطويرها، بالأرض وثرواتها، بالإنسان وحرياته، بالمواطن وحقوقه ووواجباته.. بالإعلام وأدواره .. إلخ. كفانا ندمر ذاتنا بأيدينا.. كفانا نوجه كل اهتمامنا نحو الماضى ولم نلتفت أبدا نحو المستقبل.. كفانا نتهتك سياسيا من أجل مصالح فئوية أو طائفية أو حزبية أو أيديولوجية... كفانا نقدم الطاعة والخضوع لمن سيطر على مجتمعاتنا من قوى بليدة وماضوية وتكفيرية.. كفانا لا ننفصل عن تناقضاتنا ومزدوجاتنا.. كفانا نشعل الصراعات بين مواطنينا لأسباب دينية أو طائفية أو سياسية، وقد فقدنا قيمنا فى التعايش والمحبة والسلام.. كفانا من شعارات القوى الراديكالية والثورية التى لم تعد تقوى على الحياة.. وكفانا من أوهام الأحزاب الشوفينية والدينية والطائفية.. كفانا من التعصب والشقاقات والتشظيات التى زرعها مصدرو الثورات الدموية ومروجو النزعات التكفيرية كفانا نتكلم باسم جامعات الغرب وفضائيات ناسا.. كفانا كفانا. على كل مجتمع من مجتمعاتنا أن ينقلب على نفسه، وسيكون أمره مدهشا حقا، ولكنه سيكون مثلا أو نموذجا حقيقيا فى التغيير نحو الأفضل، فمن سيبدأ التمرد؟ من ذا الذى يخرج عن المألوف؟