فى البداية... لقد كان الحفظ (أو الاستظهار) المرتبط بالتدبر والعمل هو المنهج الذى سار عليه الصحابة رضى الله عنهم بعد أن تلقوا كتاب الله عن رسول الله [. وفى هذا السياق مدحهم الله ضمناً عند مدح عباد الرحمن فقال فيهم سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} (الفرقان: 73). لكن الأكثرية العظمى من المسلمين منذ قرون- للأسف الشديد- تقرأ القرآن أو تسمعه دون أن تتجاوب مع معانيه. وبالتالى لا تكون من الذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً. لقد حفظ صحابة رسول الله رضى الله عنهم القرآن الكريم فى صدورهم وذاكرتهم. بينما حفظ أكثرهم- على تفاوت- بعض آيات وسور كتاب الله حسب طاقتهم. وكانوا جميعاً يؤمنون بأهمية (الاستظهار والحفظ).. لكنهم يربطون به- بدرجة الأهمية نفسها- التدبّر والعمل.. وذلك بيقين مطلوب لتحقيق وعد الله الذى لا يتخلف بأن يحفظ- وحده سبحانه وتعالى- القرآن الكريم، ولا يكله إلى البشر كما ترك الكتب السابقة.. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9). وقال سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} (المائدة: 44). ولهذا وجدنا إذاعات معادية تحدد فترات لإذاعة القرآن، فإذاعة لندن تقدم تلاوة صباحية يومية للقرآن وتذيع إسرائيل أيضاً القرآن فى فترات متعددة. ليقينها أن المسلم يسمع ولا يعى! كان الصحابة- ومن سار على دربهم- يقرأون القرآن فيرتفعون إلى مستواه.. أما نحن فنقرأ القرآن فنشده إلى مستوانا.. وهذا ظلم للكتاب.. إن المجمع عليه أنّ أثر القرآن فى المسلم يجب أن يُشاهد فى سلوكه؛ فالنبى عليه الصلاة والسلام "كان خلقه القرآن" كما وصفته السيدة عائشة رضى الله عنها (رواه مسلم). ومعروف أن ذلك يوجب أن يعيش المسلم فى مناخ قرآنى، وأن ينبع سلوكه من قيم القرآن.. وذلك عندما يعتبر بالماضى فى التفاته إليه، ويعيش الحاضر، ويستشرف آفاق المستقبل الدنيوى القريب، والأخروى الذى يبدو له بعيداً.. إننا نرى العرب عندما قرأوا القرآن، تحولوا إلى أمة تعرف الشورى وتكره الاستبداد، ويسودها العدل والمساواة الإنسانية، تكره التفرقة العنصرية، وتكره الكبرياء، لأن الفكر المأخوذ من القرآن الكريم فكر علمى وعملى. إن إخواننا المسيحيين يسمون أنفسهم أقباطاً (مع أن المصريين جميعاً أقباط) وهم مواطنون تماما لهم عهد الله وذمة رسوله [. إن كل المصريين مواطنون متساوون فى كل أمور حياتهم، واجبات وحقوقاً. إن هؤلاء هم كما تحدث عنهم الوطنى الغيور والمثقف المصرى الكبير "مكرم عبيد" وذلك عندما قال: "ضارباً المثل بنفسه": "إننى مسلم وطناً وحضارة مسيحى ديناً". {{{ والقرآن إلى جانب كل ذلك يأمر بالتزام العدل فى التعامل مع الإنسانية، بل يأمر ببرهم والإحسان إليهم؛ والرحمة بهم. قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8). ونهى القرآن عن إجبار غير المسلمين على قبول دعوة الإسلام والإيمان به؛ قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 256). وكذلك أقر القرآن قاعدة منهجية إسلامية حضارية رائعة للحوار والجدال مع أهل الكتاب تتمثل فى قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت: 46). ولم يغفل القرآن تقنين ما يقتضيه الحوار من التعايش والاختلاط، فأباح طعام أهل الكتاب وأجاز الزواج من نسائهم؛ قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} (المائدة: 5). ولا طريق لعودة المسلمين إلى قيادة الإنسانية إلا إذا جرَّدوا أنفسهم، وأخلصوا لله، وتدبروا القرآن وفقهوه وعملوا به. كيف نتعامل مع القرآن؟ وحول محاور التطبيق المباشر لتعاليم القرآن فى المستوى المصرى والعربى والإسلامى والأوروبى وكل عالمنا الحديث حيث يعيش المسلمون فى بلاد العالم كلها لابد أن يتذكر الجميع أن القرآن هو الأساس الأصيل للإسلام، وإذا كان للرسول [ من دور كبير ومهم؛ فهو أنه حمله وبلغه للناس، وإذا كان له حق على الناس فذلك لأن القرآن قد نص على ذلك وحدده. فالأمر كله إلى القرآن والسنة مكملة له. ومن يلتمس الهداية فى غيره أضله الله، "وأول من يقرر ذلك هو الرسول [ نفسه، فقد رُوى عنه: "الحلال ما أحل الله فى كتابه، والحرام ما حرم الله فى كتابه". (أخرجه الدارقطنى والحاكم). وقال: "لا يأخذن على أحد بشىء فإنى لا أحلل إلا ما أحله القرآن ولا أحرم إلا ماحرم القرآن"، واعتبر أن الخوض فى الأحاديث فتنة، وأن المخرج منها هو "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله. وقد رأينا أناساً يتهمون بأنهم "قرآنيون".. فهل يعقل هذا؟ هل يُتهم أحد بأنه "قرآنى"؟! إن التعبير الذى اصطنعوه لا يصلح اتهاما، بل يقلدهم فخاراً، وكان يجب أن يكون الوصف الصحيح لهؤلاء هو أنهم منكرو السنّة الشريفة. فإذا أردت القرآن هدايةً ونوراً وشفاء لقلبك، وسكينة لنفسك، فسيعطيك القرآن كل هذا، أما إذا أردت "المعلومة" فستأتيك التفاسير بألوف منها، وهى تمثل اجتهادات وفهم المفسرين، ولكنها ليست بالضرورة هى القرآن. ويؤكد الشيخ محمد الغزالى بأنه لا معنى لأن يحفظ الصغار القرآن الكريم لمجرد الحفظ. لكنى (أى الشيخ الغزالى)- من باب طرح الموضوع وتقليب النظر فيه، وهذا شىء لا أحب أن أنفرد فيه بحكم، بل أحب أن يشترك الآخرون معى فيه بالرأى- عندما أنظر إلى التلفاز وهو يقدم برامج الأطفال التى من المفروض أن تكون مدروسة فى جميع النواحى، أجد أن العقل يُبعد عن البرامج، وأجد مسرح العرائس، وأجد المستحيلات تعرض على الأطفال، كأنما المهم هو إشباع الخيال! فقلت فى نفسى: إذا كانت التربية الحديثة تبعد العقل وتتجه إلى إشباع الخيال، وتستهوى الأطفال بمثل هذه المناظر، ومادام هناك قدر من ترك العقل فى تربية الطفل، فهل نكتفى بحفظ القرآن؟! لكن جاءنى مرة أخرى تساؤل: ما قيمة حفظ الألفاظ إذا كنا سنقتصر على مجرد الحفظ؟ ونقدم للمجتمع ببغاوات تجيد الأمر؟! ويؤكد الغزالى فى كتابه (كيف نتعامل مع القرآن) هذا المعنى، فيقول: إن مما يؤسف له أن الحافظة فى هذه السن دون العاشرة فقط هى المهيأة لاستظهار القرآن.. وكلما تقدمت السن بالإنسان، قلت ملكة الحفظ عنده، وتقدمت ملكة الفهم، أى القدرة على التركيب والتحليل والتدبر والغوص وراء المعانى البعيدة، وما إلى ذلك. فاستثمار هذه السن لاستظهار القرآن وحفظه، مع شىء من تقريب المعانى وعدم الاقتصار على الاشتغال بالحفظ فقط، قد يكون من بعض الوجوه جماع الحلول المطلوبة لمعالجة ما يمكن أن يترتب مستقبلاً من الانصراف إلى اللفظ والاهتمام به دون التدبر فى المعنى. وقد سألت نفسى أيضاً والأمر يحتاج إلى دراسة: إن الصحابة الذين استمعوا للقرآن الكريم كانوا شباباً، ويوجد بعض الأطفال الحفظة، لكن لا ننسى أن لدى العربى وعى بلغة التخاطب وكانت قريبة من أسلوب القرآن، فالفهم واضح.. والقرآن فى غاياته الإنسانية والتربوية كتاب يصنع النفوس، ويصنع الأمم، ويبنى الحضارة.. فهذه هى مجالاته، وآفاق تأثيره، كما أن هذه هى معجزته. أما أن يُفتح المصباح، فلا يرى أحد النور القرآنى وإشعاعاته، لأن البصائر مغلقة، فالعيب عيب الأبصار التى أبت أن تنتفع بالنور، والله تعالى يقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (المائدة: 15-16). وهذا لا يتوافر لكتاب سماوى فى الأرض غير القرآن الكريم. ومعروف أن الله وَكَل حفظ الكتب السماوية السابقة إلى أصحابها، أما القرآن فهو الكتاب الذى تعهد الله بحفظه ولم يكله إلى حفظ البشر كما ذكرنا سابقا. كما أنه الكتاب السماوى الوحيد الذى يعيش كل العصور غضّا طريّاً كأن عهده بالوجود أمس، (كما وصفه أحد المستشرقين المنصفين). إنه القرآن الذى يكون غضاً طرياً كأن عهده بالوجود أمس عندما يتعامل الناس معه على أساس الفقه والتدبر والعمل... وليس القرآن الذى يُحفظ وكأن حافظه شريط من أشرطة (الكاسيت) دون تدبر أو عمل!! أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية رئيس تحرير مجلة التبيان