وصلا بما سبق التأكيد عليه في مقال سابق بروزاليوسف من أن الفهم الصحيح للإسلام يتضح منه الفصل الواضح الجلي بين الأمور الدينية والأمور الدنيوية، وهو ما يكشف لنا فساد مزاعم المتاجرين بالدين الذين يرفعون الشعارات الدينية ليصلوا بها إلي مآرب وأغراض دنيوية زعما منهم أنهم بتلك الشعارات سوف يعالجون كافة مشكلات المجتمع المزمنة من نقص الموارد والبطالة وغلاء الأسعار والتخلف عن مسايرة ركب العلوم الحديثة، إلي غير ذلك من مشكلات ومعضلات يئن منها المجتمع. وتأكيدا علي ذلك نقول إن الفهم الصحيح لفقه السنة النبوية الشريفة يؤكد لنا حقيقة الفصل بين الأمور الدينية والأمور الدنيوية ويشكف لنا خداع المتاجرين بالدين. فقد ذهب الفقهاء إلي أن ما ورد أو روي أو صدر عن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) بوصفه حاكما وإماما وقصد به تدبير شئون الأمة وسياستها لا يعد من التشريعات الإسلامية التي يجب العمل والالتزام بها، وإنما هي اجتهادات منه (صلي الله عليه وسلم) بوصفه بشرا. فرسول الله (صلي الله عليه وسلم) بالإضافة لكونه نبيا مرسلا من ربه سبحانه وتعالي بوحي من الحق جل وعلا كان إماما وحاكما للدولة الإسلامية . لذلك فقد بين العلماء أن ما صدر عن رسول الله ( صلي الله عليه وسلم ) بوصفه نبيا مرسلا يعد تشريعا إسلاميا يجب علينا العمل والالتزام به. أما ما صدر عنه ( صلي الله عليه وسلم ) بوصفه حاكم وإمام فتلك سياسته ورأيه وخبرته في الأمور الدنيوية التي تتغير بتغير الزمان والمكان ولا نؤمر بالالتزام بتطبيقها ، بل من الواجب علي الحاكم أن يجد ويجتهد لإصلاح أحوال البلاد بما يتوافق مع الواقع والعصر الحاضر الذي يعيش فيه. والأمثلة علي ذلك كثيرة نقتبس منها : تنظيمه وتجهيزه ( صلي الله عليه وسلم ) للجيش وتقسيمه إلي ميمنة وميسرة وقلب ، ووقوف الرماة في الخلف لحماية ظهر المقاتلين وحثه الصحابة علي تعلم الرماية بالسهام والحراب ، كل ذلك من الأمور الدنيوية ، فلا يجوز أن يخرج علينا من يدعو لإلزام قواتنا المسلحة في العصر الحاضر باتباع تلك الوسائل بزعم أنها من السنة النبوية التي يجب علينا الالتزام والتمسك بها . قوله (صلي الله عليه وسلم) في الحديث : (من أحيا أرضا ميتا فهي له) فهذا التشريع من رسول الله (صلي الله عليه وسلم ) كان يتوافق مع عهد النبوة ، وفيه حث منه (صلي الله عليه وسلم ) علي استصلاح وتنمية وتعمير الأراضي، أما الآن فقد شاهدنا من بيعت له المساحة الشاسعة من الأراضي بثمن بخس فتاجر بها بأضعاف أضعاف ما دفعه دون أي جهد أو إنفاق منه علي تلك الأراضي. فهل يحق للمتهمين في قضايا الاستيلاء علي أراضي الدولة المتداولة الآن التمسك بهذا الحديث ، وبدلا من أن يردوا ما نهبوه من أموال الشعب يطالبون برد ما دفعوه من ثمن بخس!! لقد حقق هذا الموضوع العديد من العلماء الأجلاء ، منهم : الإمام شهاب الدين القرافي المالكي - رحمه الله - (626:684ه) في كتابه ( الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام وتصرف القاضي والإمام ) ، الإمام الأكبر الشيخ / محمد شلتوت شيخ الأزهر الراحل في كتابه القيم ( الإسلام عقيدة وشريعة ) ، الأستاذ الدكتور / محمد سعيد رمضان البوطي ، في كتابه ( ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية ) ، كما قامت دار نهضة مصر بنشر كتاب قيم في سلسلة التنوير الإسلامي تحت عنوان : ( السنة التشريعية وغير التشريعية ) اشترك في كتابته أربعة من العلماء الأجلاء ، وقد تضمن بحوثا قيمة تؤكد علي ما ذكرناه في هذا الموضوع . مما سبق يتأكد لنا أن نظام الحكم في الإسلام يقوم علي الفصل الواضح بين الأمور الدينية والدنيوية ، مع وجوب مراعاة القيم الإسلامية السامية الراسخة من إقامة الحق والعدل والمساواة بين الناس والتي لا يختلف أحد عليها ، وكذلك تحقيق المقاصد الشرعية التي قررها الفقهاء قديما من حماية الدين والنفس والعقل والنسل والمال ، وكذلك التطور في تلك المقاصد بما يتوافق مع العصر من ضرورة الاهتمام بالتعليم والبحث العلمي وغير ذلك من مقاصد مستحدثة لا غني لنا عنها ، وهو ما قرره الفقهاء والعلماء في بحوثهم القيمة المنشورة بمؤتمر المجلس الأعلي للشئون الإسلامية ( 1431ه2010م). لقد اختلف العلماء والفقهاء منذ عقود مضت وحتي الآن في إصدار قانون للأحوال الشخصية يلقي قبول الرجال والنساء معا، علي الرغم من أن الأحوال الشخصية من الأمور الدينية البحتة بلا جدال ، فوضعوا قانونا وتم إلغاؤه وشرعوا قانونا آخر وتم تعديله أكثر من مرة ، وفي كل مرة تستمد القوانين والتعديلات من آراء وفتاوي فقهاء المذاهب الأربعة، ويرجع ذلك لمشكلات مستحدثة واجهت المُشرع، مثل مشكلة السكن حال وقوع الطلاق، فهل سيتم الاتفاق علي تشريعات لحل مشكلات الاقتصاد والتعليم والصحة وغيرها من أمور دنيوية بتلك الشعارات التي يتاجرون بها.