دبابات الاحتلال الإسرائيلي تطلق نيرانها شرق مخيم البريج وسط قطاع غزة    مفاجأة في أسعار الذهب الفترة المقبلة.. مستشار وزير التموين يكشف التفاصيل (فيديو)    أخبار × 24 ساعة.. إجراء 2 مليون و232 ألف جراحة ضمن مبادرة إنهاء قوائم الانتظار    نائب محافظ القاهرة يتابع أعمال النظافة وإزالة الإشغالات بحي عين شمس    محمود محيي الدين يلتقي البابا فرانسيس على هامش مبادرة أزمة الديون في الجنوب العالمي    خبير اقتصادي: طرح كبير بنهاية العام.. والمواطن سيشعر بتحسن    مقرر بالحوار الوطني: الإصلاح السياسي مفتاح النجاح الاقتصادي والمصريون في الخارج ليسوا مجرد مصدر للعملة    فريد زهران ل«الشاهد»: ثورة 1952 مستمدة من الفكر السوفيتي وبناءً عليه تم حل الأحزاب ودمج الاتحاد القومي والاشتراكي معًا    أكسيوس: بنيامين جانتس يعلن اليوم انسحابه من ائتلاف نتنياهو    نيجيريا تتعادل مع جنوب أفريقيا 1 - 1 فى تصفيات كأس العالم    القيادة المركزية الأمريكية تعلن تدمير 4 طائرات مسيرة وصاروخين مضادين للسفن    حزب الله اللبناني يعلن استهداف تجمعا لجنود إسرائيليين في مثلث الطيحات بالأسلحة الصاروخية    بيسكوف: "الخط الأحمر" بالنسبة لنا كان توجيه أوكرانيا ل"معادة روسيا"    تصفيات كأس العالم - بصناعة براهيم دياز.. المغرب يهزم زامبيا بصعوبة ويتصدر المجموعة    ميدو يعلن ظهوره ضيفا دائما فى برنامج الهدف مع إبراهيم عبد الجواد على أون سبورت    «صفقات سوبر ورحيل لاعب مفاجأة».. شوبير يكشف ملامح قائمة الأهلي الصيف المقبل    مصطفى شلبي: اخترت الزمالك رغم عرض الأهلي الأكبر.. سنفوز بالدوري.. وأمنيتي الاعتزال بالقلعة البيضاء    منتخب مصر الأولمبي يفوز على كوت ديفوار بهدف ميسي    دورة الترقي.. الأمل يراود «4 أندية» للصعود إلى الدوري الممتاز    استعلم مجانا الآن.. رابط نتيجة الصف الثالث الإعدادي محافظة قنا الترم الثاني 2024 برقم الجلوس    أطول إجازة رسمية.. عدد أيام عطلة عيد الأضحى ووقفة عرفات لموظفين القطاع العام والخاص    شديد الحرارة نهاراً معتدل ليلًا.. حالة الطقس اليوم    ربة منزل تنهي حياتها شنقًا بعد تركها منزل زوجها في الهرم    إصابة 5 أشخاص بحالات تسمم بعد تناول سندوتشات حواوشى بالمحلة    مصرع شخص وإصابة 2 آخرين في حادث تصادم سيارة ودراجة بخارية بالدقهلية    انطلاق آخر بعثة حجاج الجمعيات الأهلية بالمنيا إلى الأراضي المقدسة.. صور    عمرو دياب وشيرين عبد الوهاب يشعلان حفل زفاف ابنة المنتج محمد السعدي (صور)    حظك اليوم برج الأسد السبت 8-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    فريد زهران: ثورة 25 يناير كشفت حجم الفراغ السياسي المروع ولم تكن هناك قيادة واضحة للثورة    هيثم الحاج علي: 30 يونيو أرست العدالة الثقافية في مصر    إزاى محمد منير غنى "ياللى بتسأل عن الحياة" مجانا بفيلم أحلى الأوقات.. اعرف القصة    كيف توزع الأضحية؟.. «الإفتاء» توضح ماذا تفعل بالأحشاء والرأس    أدعية ذي الحجة مكتوبة مفاتيح الجنان.. رددها الآن    موعد أذان الفجر بمدن ومحافظات مصر في ثاني أيام ذى الحجة    «الاتصالات»: نسعى لدخول قائمة أفضل 20 دولة في الذكاء الاصطناعي بحلول 2028    رسميا.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم السبت 8 يونيو بعد الانخفاض الأخير بالبنوك    «عيب».. تعليق ناري من شوبير بشأن أزمة تجاهل إمام عاشور لجهاز منتخب مصر    المغرب تُسقط زامبيا بثنائية في تصفيات كأس العالم    جيش الاحتلال يعترف بفشله في اعتراض طائرة عبرت من لبنان    لخلافات بينهما.. مُدرس بالمعاش يشرع في قتل طليقته بالشرقية    متحدث "الأونروا" يكشف كارثة بغزة: المياه الجوفية اختلطت بالصرف الصحي    محور يحمل اسم والده.. أحدث ظهور ل كريم محمود عبد العزيز    أستاذة اقتصاديات التعليم لإكسترا نيوز: على الطلاب البحث عن تخصصات مطلوبة بسوق العمل    "كل الزوايا" يشيد بأداء تريزيجيه.. عندما تنصف كرة القدم المقاتلين من أجلها    شاهد.. أحدث ظهور ل نيللي كريم بعد انفصالها عن هشام عاشور    أدعية ليالي العشر من ذي الحجة.. «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الهُدَى»    أحكام الأضحية.. كيفية توزيع الأُضحِيَّة وهل توزع الأحشاء والرأس    الكشف على 8095 مواطناً خلال قافلة طبية بقرية بلقطر الشرقية بالبحيرة    أخبار مصر: 4 قرارات جمهورية هامة وتكليفات رئاسية حاسمة لرئيس الحكومة الجديدة، زيادة أسعار الأدوية، أحدث قائمة بالأصناف المرتفعة في السوق    نقص هذا الفيتامين يتسبب في الإرهاق ومشاكل في الأعصاب    "هتتطبق يعني هتتطبق".. برلماني يعلق علي زيادة أسعار الأدوية    جامعة طنطا تطلق قافلة تنموية شاملة بمحافظة البحيرة بالتعاون مع 4 جامعات    "الهجرة": نحرص على المتابعة الدقيقة لتفاصيل النسخة الخامسة من مؤتمر المصريين بالخارج    أوقفوا الانتساب الموجه    كيف تحمي نفسك من مخاطر الفتة إذا كنت من مرضى الكوليسترول؟    "البحوث الفنية" بالقوات المسلحة توقع بروتوكول مع أكاديمية تكنولوجيا المعلومات لذوي الإعاقة    الأنبا باخوم يترأس قداس اليوم الثالث من تساعية القديس أنطونيوس البدواني بالظاهر    التعليم العالى: إدراج 15 جامعة مصرية فى تصنيف QS العالمى لعام 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة فى رحلة الدم القتلة الأوائل - لإبراهيم عيسى "الحلقة الثامنة".. عثمان لأمرائه فى الأمصار: إنى لخائف أن تكونوا كما يقول الناس.. وإنهم صادقون فيما زعموا وأنا مخدوع فيكم وما يعصف هذا إلا بى
نشر في روزاليوسف الأسبوعية يوم 11 - 07 - 2021

كما عهدناه، كاتبًا فذًا، وراويًا متمكنًا، يسير «إبراهيم عيسى» فى سرده للتاريخ الإسلامى، بين صفحات روايته «رحلة الدم»، الجزء الأول من سلسلة «القتلة الأوائل»؛ لينقلنا من الفسطاط إلى المدينة، ومن حدث جَلل إلى آخر أعمق، كاشفًا أسرار الخلافات والمشاحنات والصدامات بين الرّعيل الأول من المسلمين، راسمًا الصورة الكاملة لكل مَشهد جمع بينهم؛ فى خلاف أو محاججة أو مجادلة، لنشعر أننا مشاركون فى الحدث، نتابعه عن كثب، ونتفاعل معه، مستمتعين بالتشبيهات الرائعة والتعبيرات البليغة.

«ذات الصوارى»
يواصل «إبراهيم عيسى» سردَه للأحداث التى تأجّجت فى مصر؛ مع قدوم محمد بن أبى بكر وابن أبى حذيفة إلى الفسطاط، وصولًا إلى معركة «ذات الصوارى» التى سردنا جزءًا من تفاصيلها فى الحلقة الماضية؛ حيث يواصل الراوى رحلته فى نفس ابن أبى سرح، وشعوره بالنصر بعد المعركة، ساردًا: «أين أهازيج النصر؟ لا رايات ولا احتفالات ولا حفاوات ولا تبريكات ولا شىء يعلن لى أنه نصرى. أعرف أن المسلمين سيحكون عن معركتى «ذات الصوارى» حتى نفخ الصور، لكنهم هنا الآن فى مصر، فى الفسطاط، لا شىء يوحى أننى فعلتها، وفزت بها. ركبت البحر وحزت النصر وهزمت هرقل وأرسلت خشب سفنه وعَلم صاريه الممزق حتى قدمى الخليفة فى مسجده فى المدينة، لكن محمد بن أبى حذيفة الذى شغله قيئه عن الجهاد فى سبيل الله يفسد علىّ إمارتى!
كان ابن أبى سرح على ذلك المقعد الحجرى المنبسط المفروش ببسط نسيج قبطى ملون يهش على وجهه غبار حزنه وهو يضطجع متأملاً من فوق الجبل القدس بيوت الفسطاط ومعسكر الخيل والمسجد الجامع، ونهر النيل بزرقة ساطعة، تحفّه أشجار نخل باسقة، تتدلى منها قطوف بلح أحمر وتنفرش فوق صفحته ورود النيل الخضراء السابحة حول مراكب بأشرعة بيضاء، أمر هانئ صاحب الشرطة بمحو صلبانها ورسومها المنسوجة منذ تشاجر معه قراء المسجد من طينة ابن ملجم المرادى وجبلة ممن ينعقون فى سرب غربان محمد بن أبى بكر وابن أبى حذيفة».
«استدعاء الأمراء»
ينقلنا «إبراهيم عيسى» سريعًا من الفسطاط إلى المدينة، ساردًا تفاصيل اللقاء الذى استدعى الخليفة عثمان أمراءه إليه، بعدما انتشر الغضب فى النفوس وضاقت الصدور وانتشرت الفتنة بين المسلمين، راويًا: «كانت الجلسة قد اكتملت والحضور بين متكئ ومتحفز ومقرفص ومتربع على الأرائك والمساند الشامية واليَمنية، وقد وزع مروان صحاف الثريد بينهم، لكنّ أحدًا لم يمد لها يدًا، ولم يضمم حول لحم أصابع. أصحاب شرطتهم يتجولون فى الخارج، لكن بعضهم يتلصصون بالرؤوس من نافذة مطلة على الباحة. معاوية مكتنز ومهندم ومنزوِ فى ركن كأن الأمر لا يعنيه. عبد الله بن عامر يقترب فى كل لحظة خطوة من الخليفة كأنه يريد الالتصاق به. عمرو بن العاص الذى جاء رُغْمَ مروان الرافض لدعوة عثمان له لا يرفع عينيه عن المسافة الفاصلة بين عيون عثمان ومعاوية. عبد الله بن أبى سرح قلق ومُقلق فى الجلسة والحركة والجملة. سعيد بن العاص تنطق عيناه بتوتر لا تقوله جلسته الثابتة. أمّا الوليد بن عقبة فتتعلق ابتسامة على شفتيه يبدو مخمورًا باللا مبالاة.
قال عثمان: وهل يفعل الحارث بن الحَكم فى السوق ما يقوله الناس فى المدينة؟
كان السؤال لهم جميعًا، لكن مروان تصدّى للإجابة وهو الواقف الوحيد على أظافر أصابعه: ليس الناس من تقول يا خليفة المسلمين؛ بل ابن الساعدى الأحمق فهل نسميه ناسًا الآن وهو وحده؟
ضرب عثمان بيده طرف عباءته وحرّك عصاه فوق الأرض: هذا عمّن يقول يا مروان ولكن ماذا عن صحة ما قال؟
تدخّل معاوية زاجرًا بنظراته مروان الذى هَمّ بأن ينفعل: إن بيت المال، كما عرفت منك يا خليفة المسلمين، يعمر كل ليلة بمكوس السوق والتجار يزيدون والبضائع تترى، وهذا نتاج الحارث وعمله.
دق عثمان بعصاه الأرض مغاضبًا: إن كان هذا يا معاوية فما هذا الذى يسرى فى الأمصار من الغضبة والنفرة وسوء الكلام وفتنة الناس؟ ويحكم! ما هذه الشكاية إذن وما هذه الإذاعة؟
ثم أكمل قبل أن تكتمل همهمات تُنبئ بالرد من مروان وعامر: إنى والله لخائف أن تكونوا كما يقول الناس، وإنهم صادقون فيما زعموا وأنا مخدوع فيكم، وما يعصف هذا إلا بى!
رد مروان سريعًا مسارعًا: ألم تبعث مبعوثين فى الأمصار لتختبر صدقنا وصدق رجالك، فسألوا فى مصر والبصرة والشام والكوفة؟ ألم يرجع إليك الخبر عن القوم من خلصائك؟ ألم يرجعوا ولم يشافههم أحد بشىء من حجة أو دليل؟ لا والله ما صدق هؤلاء المفتنون ولا أنصف هؤلاء المتخرصون، ولا نعلم لهذا الأمر أصلاً، وما كنت لتأخذ بمزاعمهم أحدًا، وما هى إلا إذاعة شر وفتنة وضلال لا يحل الأخذ بها ولا الانتهاء إليها».
«حيرة الخليفة»
يتابع «إبراهيم عيسى» وصفَه للقاء، ساردًا: «ارتاح عثمان من حسم ما قيل ومن تلك الرؤوس التى أومأت بالتأمين على ما قال. صحيح أن عمرو بن العاص بدا كدرًا ولم يظهر رضًا ولا إقرارًا، لكنه ابن العاص الوحيد الذى نحاه من ولايته وهو لا يطيق وجود ابن أبى سرح، ولا يظن أحد أنه سيوافق على ما يوافق عليه ابن أبى سرح أبدًا ولو شروق الشمس وغروبها.
قال عثمان متنهدًا كأنما غلبته الحيرة بين ما يصل له من الناس وما يسمع من ناسه: أشيروا علىّ.
قالها صادق اللهجة المتعبة. استجاب سعيد بن العاص وهو يمر نظراته على رفقائه: هذا أمر مصنوع يصنع فى السّر بين قوم نعلمهم، منهم الحاسد ومنهم الناقم الحاقد ومنهم الطامع النهم ومنهم الغرير المغرور، ويستخدمون ألسنة أصحابك وصمت أصحابك وغيرة أصحابك، فيلقون بكلامهم فى أسماع الغفل والجُّهال والعوام والذين ينقلونه فى البيوت والدور والمساجد والمجالس، فأصبح الهمس وشيشًا والتناجى ضجيجًا.
كأنما وافق عثمان فسأل: فما دواء ذلك؟
قال سعيد وهو يصب نظراته فى عينَىْ مروان: أمر سهل يسير، استدع هؤلاء القوم واحبسهم، ثم اقتل الذين يخرج هذا العصيان من عندهم يحيكونه ويحكونه.
انتفض عثمان وهو يلوح بعصاه فى وجوههم صائحًا صارخًا: ما هذا الذى تنطق به؟ أهذه نصيحتك، أن أقتل الناس؟ أهذا دواؤك أن أقتل المسلمين؟
تمتم سعيد مدافعًا عن نفسه: بل تقتل العصاة قاسمى الأمّة فاتنى الناس.
تدخّل عبد الله بن أبى سرح وهو يشير لسعيد أن يهدأ: دعك من القتل والدم، وعليك بالمال يا خليفة المسلمين، ستأخذ من الناس الرضا والقبول والطاعة ترك الفتن إذا أعطيتهم وأغدقت عليهم، فالود بالدنانير والراحة بالدراهم.
هَبَّ فيه مروان بن الحكم: وإذا كان الأمر أمرَ صرر يا ابن أبى سرح، فلماذا لم تشترِ الثلاثون ألف درهم صخب ابن أبى حذيفة فى مصر؟ ولماذا لم تغدق مالك على رأس ابن عديس بدلًا من أن تضرب رأسه وتحلق لحيته؟
شعر عبد الله بن أبى سرح بغدر مروان وببصاصيه المصريين، فتمتم وقد دفنوا نصيحته فى رحمها، فأجاب ناقمًا: لأنه غاضب من عطية الثلاثمائة ألف التى منحك إياها الخليفة وما اقتطعك إياه من مغنم لم يكن لك يا مروان.
طقت نظرات مروان شررًا ورفع صوتًا متهكمًا حانقًا: أمْ هى ثلائمائة ألفك أنت مكافأة ذات الصوارى؟..
أطرق عثمان ثم رفع ذقنه ناحية عمرو بن العاص: حسنًا، هذا رأى ابن عامر الجهاد للإشغال، وابن أبى سرح المال للإغراء، وسعيد القتل للإنهاء، ومعاوية لتصرف كل أمير فى إمارته، فما ترى يا عمرو؟
قال عمرو بن العاص وهو ينقر بأصابعه على مقعده وقد عاد بظهره ورفع رأسه: أرى أنك قد لنت لولاتك وأمرائك وتراخيت عنهم وزدتهم غنًى فى المال وراحة من السؤال وترك الحبل على الغارب، وتوسعت فيما ضيقه عمر، وصنعت لهم على غير ما كان يصنع عمر. فأرى أن تلزم طريقة صاحبك فتشتد فى موضع الشدة وتلين فى موضع اللين وقد فرشتهما جميعًا باللين».
«توبة عثمان»
كان المسلمون فى المدينة على موعد مع حدث جَلل، مثلما وصفه «إبراهيم عيسى» فى سرده لتحرك عثمان للسيطرة على الفتنة، راويًا: «كانت العيون تحدق منجذبة إلى هذا الرَّكب الماشى إلى المسجد يضم الخليفة دون رجاله ومع على وابن مسلمة وسعد، هؤلاء القادمين من لقاء المصريين إلى بيت الخليفة إلى ناحية المسجد النبوى. عشرات العيون المتابعة المتلهفة المتسائلة المتجمّعة من كل صوب والداعية لغيرها بالقدوم والاكتشاف، جعلت من المسجد حين دخل عثمان مكتظًا بالناس حتى لا موضع لمن معه من أصحابه للجلوس، فآثروا الوقوف فى نهاية الصفوف، مكتفين بعثمان يستند على عصاه وصبيح ونجيح، متجهًا متكئًا عليهم إلى المنبر. نظر عثمان فى الوجوه المشرئبة فعرف حاجة الزحام من الناس كى يطمئنوا. رأى هؤلاء الذين قدّم لهم ما يحبون فسمع منهم ما يكره، شهدوا معه الشهد فأنكروه، فتح لهم الدنيا فسدوها فى وجهه، أكرمهم بالمال فبخلوا عليه بالطاعة. عرف أنهم قد تشوشوا بالمشائين بين الناس والهمازين الذين أفسدوهم عليه، لكنهم وهم كثير وجميع، يجعلون قلبه وحيدًا، حزينًا بهم، وحزينًا عليهم، ولكنهم يؤرقون ضميره، لعله أخطأ فعلاً على غير ما يعتقد، ولعله ظلم فعلاً على غير ما يؤمن، فما ضرّه فى أن يتوب إلى الله أمامهم كما قال له على، كلنا خطاءون وهو بشر لا عصمة لديه ولا قداسة. وهؤلاء أصحاب محمد كما أنه صاحبه، وهؤلاء المهاجرون كما هاجر وهؤلاء أنصاره. آه، أين تلك الأيام التى لم تكن فيها يا عثمان مسئولاً أمام ربك إلا عن صلاتك وقيامك وما تنفقه فى سبيل الله.
كان العصر قد ارتفع أذانه وصلى بالناس، ولم تجلب الصلاة مروان ولا حرسه ولا جنده؛ بل كثيف البشر كأنها صلاة العيد، فلتكن عيدًا لهم إذن. توكأ على العصا إلى المنبر وصعده وهو يبحث عن على فى المسجد فوجده بعيدًا، عرفه من محياه، بينما ظل اختفاء مروان حاضرًا فى فراغ وجوده. صمت الناس عن الهمس والإيماءة والإشارة والنفس حين هَمَّ عثمان بالكلام: أيها الناس، إن الله عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطها لكم لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنَى والآخرة تبقَى.
لفظ فم أحدهم همسًا محبوسًا فى صدره: أيعظنا أمْ يعظ نفسه؟
دار عثمان بعينيه وعصاه عليهم: فلا تبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية، فآثروا ما يبقى على ما يفنى، فإن الدنيا منقطعة، وإن المصير إلى الله، أمّا بعد.
صمت عثمان ليلتقط أنفاسه، وصمتت أنفاسهم لتلتقط كل حرف ولفظ ونقطة فى صوته بعد جملته أمّا بعد. قال عثمان وقد رفع صوته وجهر بصدق حار: فوالله ما عاب من عاب منكم شيئًا علىّ أجهله، وما جئت شيئًا إلا وأنا أعرفه.
تنفسّت الصدور تنهيدات راحة جماعية وهمهمات تصديق ورضا ورقّة ملأت فضاء المسجد.
أكمل عثمان: ولكنى منّتنى نفسى وكذّبتنى وضلّ عنّى رشدى.
ماج المسجد بالحدث الجَلل، وارتج الناس بمفاجأة اعتراف عثمان الصائح تواضعًا، ولم يمهلهم عثمان كى يستوعبوا المفاجأة الأولى حتى عاجلهم بالثانية: ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من زل فليتب ومن أخطأ فليتب ولا يتمادى فى الهلكة، إن من تمادى فى الجور كان أبعد من الطريق.
ندت مئات من الصلوات على محمد وتصديقًا على ما قاله عثمان عنه، وتعالت الهمهمات تلفظ الهموم عن القلوب وتنشرح بحروف كلمات عثمان التى كأنها المفاتيح تفتح قلوبهم وتمضى فيها بردًا وسلامًا.
ثم علا صوت عثمان فوق كل صوت: فأنا أول من اتعظ، أستغفر الله مما فعلت وأتوب إليه فمثلى نزع وتاب.
تزلزل الجامع بالتكبير لله والإكبار لعثمان، وبدت الدموع المنسالة على الخدود تتحول نهنهات بكاءات ونشيجات أفراح، ووقف بعضهم فقام الآخرون فوقفوا، وهتف بعضهم وتهاتف آخرون يكررون دعاء عثمان.
تخضلت لحية عثمان بالدموع منسابة منهالة، وتدفق جسده رعشة حتى إن العصا اهتزت فى يده، خشى صبيح ونجيح أن يترنح من فرط انفعاله من فوق المنبر فالتصقا به وهو يرتجف فى حمى وصال الاعتراف والتوبة.
وكانت كفاه المرتجتان تمسحان دموعه التى تحجب الرؤية عن عينيه، وتنحشر حباتها فى حروف كلماته فتلعثمها، فنفضها من أسنانه ومسحها عن شفتيه وقال والدموع تخضب كل كلمة منه: فإذا نزلت فليأتنى أشرافكم فليرونى رأيهم، وليأتينى منكم ليطلب مطلبته، ولئن أبت يمينى لتتابعنى شمالى، فوالله لئن جعلنى الحق عبدًا لأستن بسُنّة العبد ولأذلن ذل العبد، ولأكونن كالمرقوق إن مَلك صبر وإن عتق شكر، وما عن الله مذهب إلا إليه.
لا صوت إلا البكاء يجلجل ويملأ المسجد صدحًا. ثم اختلطت الدموع بالتمتمات والهمهمات. ثم تراجعت الدموع والتمتمات والهمهمات أمام الصيحات والتكبيرات.
لم يكن واحد من حضور المسجد إلا وقد حلق فى صفاء اللحظة، وانتشله كلام عثمان من غى الحيرة. وكان المحتشدون خارج المسجد يتلقون تلخيصات وتكرارات كلمات عثمان بالتفاجؤ المبتهج:
• عثمان تاب، عثمان يوزع المال، عثمان يفتح أبواب داره وبيت المال للناس، عثمان يرفع يده عن ولاته، عثمان يتخلى عن أقاربه، عثمان يسير سيرة ابن الخطاب».
فى الحلقة المقبلة؛ والأخيرة من هذا العرض، نقترب أكثر من تفاصيل الفتنة الكبرى، ونكتشف الكثير من الأسرار فى «رحلة الدم».
32
34
35


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.