كان عبدالرحمن بن أبي بكر في منزل عمرو بن العاص بالفسطاط، عندما جاءوا بشقيقه الأصغر محمد بن أبي بكر (35سنة) مسحولا، منهكا، أشعث، أغبر يكاد يقتله العطش، ليبلغوا ابن العاص بأنهم سيقتلون أسيرهم المهزوم. يندفع عبدالرحمن بحنين الدم: - أتقتل أخي.. صبرا!! يطلب ابن العاص، من جنوده أن يخلو سبيل الأمير المهزوم. فيزعق معاوية بن حديج قائد فيلق قوات مصر في الجيش المنتصر: - لقد قتل 80 رجلا من قومي في دم عثمان، وقتلت كنانة بن بشر.. وأخلي أنا محمد؟! يعلن رفضه القاطع للأمر.. يتوسل محمد: أسقوني.. يرد عليه ابن حديج، لا سقاني الله إن سقيتك، فقد منعت الماء عن بيت عثمان بن عفان وأهله شهراً. فيحسم ابن العاص جزع عبدالرحمن علي أخيه.. موضحا له موقفه.. فيما معناه أن أخيه مقتول، إن لم يكن اليوم، ففي أقرب فرصة تتاح لطالبي دم عثمان.. وأن هذه الأزمة ليست الآن تحت سيطرته. ولم يستطع الأخ الأكبر أن يحمي أخاه الأصغر أو يتشفع له ولا قدر الأمير المنتصر علي رجاله الغاضبين. وخرجوا ساحبين محمد بن أبي بكر ليقتلوه في الخارج، بل ويمثلوا بجثته، ويرسلوا قميصه إلي زوجة عثمان وأهله في المدينة يطفئون نار الثأر، ويكيدون لشقيقة محمد.. السيدة عائشة زوج الرسول.. وكذا لأم محمد، أسماء بنت عميس.. التي كظمت غيظها.. حتي تفصد الدم عن أثدائها، ولحقت بابنها بعد مدة قصيرة. نحن الآن عام 38 ه عقب موقعة "المسناه"، وهي قرية بالقرب من منطقة عين شمس التقت فيها قوات عمرو بن العاص، العائد لمصر واليا من جديد بعد غياب 13 سنة (25 38ه) بعدما عزله عثمان بن عفان، وولي بدلا منه عبدالله بن سعد بن أبي سرح شقيق عثمان في الرضاعة.. والذي انقلب عليه محمد بن أبي حذيفة عندما خرج لتأييد عثمان عام 35ه، ثم منعه من دخول مصر، فاعتكف في عسقلان حتي مات عام 36ه.. وأصبحت مصر تؤيد علي بن أبي طالب في الخلافة، لكن معاوية أخذ ابن حذيفة مع 6 من قتلي عثمان في رهن حتي تتضح الأمور، لكنه قتلهم عام 36ه فولي عليها مالك بن الأشتر الذي شرب شربة عسل في تل القلزم ومات قبل دخول مصر، فعين قيس بن سعد الذي ساس الثائرين المطالبين بدم عثمان، لكن الدسائس من معاوية لم تتركه للحكم، فجاء محمد بن أبي بكر واليا.. وأصر علي أخذ البيعة من رجال خربتا، المطالبين بدم عثمان، فثار عليه 31 ألف مقاتل، فاضطر أن يهادنهم وأن يسمح لهم بالخروج من مصر، فانضموا لمعاوية، الذي أرسل أبرز رجاله، بعد انتهاء معركة صفين عام 37ه وما تلاها من تحكيم، ليدخل مصر في ولاية حكمه وهو ما زال حتي الآن والي الشام فقط ولم يصبح خليفة فالتقي الجيشان في معركة شرسة، حتي إن ابن العاص نفسه قال شهدت 27 موقعة لم أر مثل المسناه.. ودخل ابن العاص الفسطاط من جديد، وعاد إلي منزله، واختبأ محمد بن أبي بكر، في منزل أحد أفراد قبيلة غافق، لكنهم وجدوه بعد 3 أيام، وقد دلت عليه أخت الغافقي بشرط عدم التعرض لأخيها، فوصل إليه معاوية بن حديج، وهو صحابي، ومن زعماء المطالبين بدم عثمان.. وكان جارا لكنانة بن بشر في منطقة خربتا، وكانا مختلفين في السياسة علي الحكم ضد عثمان، لكن عندما أرسل معاوية من يجبره علي البيعة له وضد عثمان.. وقف كنانة يدافع عن جاره، ثم أخذ كنانة، بعد اشتراكه في القفر علي بيت عثمان والمشاركة في قتله، في رهن معاوية وقتل في الشام.. فلما وجد ابن حديج أنه يمكن لابن أبوبكر الكبير أن يحمي أخاه الصغير، قائد هجوم بيت عثمان، قال ما معناه: - إن كان كنانة قد قتل وهو أغلي عندي من ابن أبي بكر فكيف أترك الأخير دون قتل.. وقتله. ومحمد بن أبي بكر (30سنة) هو الابن الأصغر لابو بكر الصديق ، من زوجته الأخيرة أسماء بنت عميس، وقد أنجبت محمدا في حجة الوداع 8ه، وتزوجها الإمام علي بعد موت أبوبكر، فتربي محمد وكان عمره 3 سنوات في حجر الإمام علي، الذي رباه كابنه وكان ذراعه اليمني وشب مقاتلاً، طموحا من صغره.. (فهو ابن أول خليفة).. وشارك في الجهاد في غزوة أفريقيا ثم النوبة ومعركة ذات الصواري البحرية (أعوام 27، 32، 34ه)، وحدث في المعركة الأخيرة خلاف بينه وبين ابن أبي سرح، واجتمع حوله رجال مصر في خربتا، يشكون له من تصرفات والي مصر، وواظبوا علي إرسال رسائل له في المدينة، فيرسل لهم ما يحرضهم.. حتي انقلب حذيفة علي الحكم. وكان بالمدينة وفد من مقاتلي مصر، ثاروا علي عثمان وطالبوا بتوليه محمد بن أبي بكر ووافق لهم.. لكنهم عندما خرجوا لمصر لاقوا في طريقهم عبداً لعثمان يخفي خطاب إلي ابن أبي سرح يطلب منه عثمان قتل ابن أبي بكر وبعض القادة معه.. فعادوا ثائرين.. فحاصروا بيت عثمان شهرا، انتهي بأن قاد ابن بكر، هجوما من منزل مجاور علي منزل عثمان، الذي عاتب ابن أبي بكر فخرج محرجا، لكن الغضب قد انطلق وتم قتل عثمان.. واتهم فيه ابن أبي بكر.. ولم يصلوا إليه في معركة الجمل ولا صفين.. لكنهم الآن وصلوا إليه في مصر.. فقتلوه.. وقد تولي ابن أبي بكر ولاية مصر لمدة خمسة أشهر فقط من 15 رمضان 38ه، حتي 14 شوال 38ه.. عبدالرحمن بن أبي بكر، هو الابن الأكبر لصديق رسول الله، وشقيق السيدة عائشة زوجة النبي وأحد فرسان قريش المعروفين.. الغريب أنه لم يؤمن بالإسلام مبكرا كأبيه وبقية أسرته، ولم يهاجر مبكرا.. بل وشارك في معركة "بدر" و"أحد" مع المشركين.. بل في غزوة "أحد" عندما بدأت هزيمة المسلمين، وقف ينادي هل من مبارز، وكاد أبوه أن يخرج له، لولا أنه منعه النبي ولم يسلم عبدالرحمن إلا في صلح الحديبية عام 7ه، وهاجر إلي المدينة وشارك في بقية غزوات النبي، وكذا في حروب الردة، وكان أحد قادة الهجوم علي مسيلمة الكذاب وشارك في قتله. في فتنة عثمان عام 35ه كان يتولي بيت المال، وانحاز لمعسكر معاوية مطالبا بدم عثمان وشارك في موقعة الجمل مع أخته عائشة، ثم في صفين، وها هو يدخل مصر مع جيش معاوية. عاد عبدالرحمن بعد ذلك إلي المدينة محسوبا علي معاوية ومؤيدا له حتى عام 53ه، عندما بدأ معاوية التمهيد للدعوة لابنه يزيد بالخلافة من بعده.. وأصر والي المدينة آنذاك مروان بن الحكم بأن يقرأ الخطاب المرسل له من معاوية بذلك، في مسجد النبي، وأن يأخذ البيعة من كبار الصحابة المقيمين هناك، هنا خرج عبدالرحمن عن مساره الطبيعي ليقف معارضا الأمر قائلا إن معاوية يريدها (هرقلية) نسبة إلي هرقل عظيم الروم بتوارث العرش.. وأصر علي موقفه رغم محاولات معاوية لرشوته بمبلغ 100 ألف درهم فقال: لا أبيع ديني بدنياي.. بعدها قرر معاوية المجيء بنفسه إلي المدينة ليخطب في الناس، من صحابة وزعماء المهاجرين والأنصار، ليوضح وجهة نظره ويأخذ البيعة فقرر عبدالرحمن الخروج من المدينة، واللجوء إلي مكة، وهناك عند جبل الحبشي علي بُعد 6 أميال من مكة نام في قيلولة ظهيرة فمات فجأة.. فغسلوه وكفنوه وحملوه علي أعناقهم ليدفن في مقابر مكة. وقد تشككت السيدة عائشة في موته، حتي جاءتها يوما امرأة مسلمة إلي مسجد رسول الله لتصلي، فسجدت فماتت في سجدتها.. فقالت عائشة ما معناه إنها عبرة من الله، لأفهم منها موت عبدالرحمن. مات رحمه الله عام 53ه ..