ينشر هذا المقال بعد خمسة أيام من كتابته واليوم الواحد في تاريخ مصر الراهن قد يساوي شهورا وربما أعواما في إطار الزمن النسبي للثورة أو التمرد أو المقاومة، وهي المراتب الثلاث للعمل الجماهيري الطامح إلي التغيير وفي حدود ما أراه فالهبة الجماهيرية الراهنة تضع القوي الشعبية الموجودة في الشارع الآن في إطار العمل الجماهيري من المرتبة الثالثة، وهي المقاومة التي هي رد فعل محدود وليست مبادرة تمضي باتجاه تحول شامل. لكن هذه الهبة قد تكون أهم الهبات منذ نصف قرن ومصدر هذه الأهمية أنها لا تضع مطالبها بين يدي النظام كما جري من قبل بل تسعي إلي تغيير في بعض أهم رموزه وتوجهاته وهو ما ساعد علي خلق تحول صحي في طبيعة العلاقة بين الشعب والسلطة. هكذا ولدت خريطة جديدة للقوي الوطنية وللمسارات الموصلة بينها والعقبات التي تعترض هذه المسارات وهو ما يمكن توظيفه لخلق تواصل أقوي بين الشعب والدولة وفي قلب الخريطة الجديدة تستعيد القوات المسلحة المصرية دورها كقوة لتوجيه وترشيد حركة مصر إلي الأمام وهذا يختلف عما قامت به في كل تأزم تلا انفراد الرئيس جمال عبدالناصر بالقرار السياسي في 1954. وفي موضع قريب ومساند تقف الشرطة في صورتها الجديدة وهي تعود إلي المشهد في إطار ثقافة أمنية جديدة يجب أن تقوم علي حراسة العمل الشعبي وليس علي ترويضه بالتهديد أو بالقمع وأتمني أن تؤكد الأيام الباقية حتي وصول هذا المقال إليك أن تكون الشرطة وعناصرها وقياداتها هم أبناؤنا وإخواننا، قد أثبتت بتصرفاتها مع الناس أنها تجسيد فعال لهذه الثقافة الأمنية الجديدة. •• وأخيرا فهناك القوي الشعبية الطالعة وهي قوي لم تساند تنظيما سياسيا ما، ولم تدفع إلي الشارع بكوادر ولكن بأفراد تبرز بينهم توجهات عامة قد لا تختلف عن توجهات حركة مثل حركة كفاية أو حركة السادس من أبريل وغيرهما، بل ولا يصعب أن تصنف توجهاتها ضمن توجهات القوي الموجودة من قبل علي الساحة. وهذه القوي الطالعة لا تزال مجرد مادة خام قابلة للتشكيل وللتوزيع علي مختلف القوي السياسية التي لها عناوين وتواريخ وقابلة أيضا لإنشاء كيان أو كيانات جديدة، إذا واصلت الدولة استراتيجية تفتيت القوي المستقلة عن القرار الرسمي ورغم هذا كله فقد أحدثت القوي المعارضة زخما سوف يكون بوسع البلاد أن تستفيد منه أو أن تحوله إلي نفاية قاتلة عبر إدارة الدولة لمختلف القوي علي المسرح السياسي. ويجب أن أسجل أن إدارة الدولة للأزمة نجحت في فرز القوي الطالعة بعيدا عن الفقاعات الوهمية وعن الأوضار القاتلة ووجهت الشعب، لأول مرة في تاريخ مصر كله، إلي المشاركة في الإدارة الأمنية للشارع ليس كجماعات للدفاع الوطني ضد عدو خارجي وتحت سلطة قيادات رسمية كما جري من قبل، ولكن كقوي تشكل وحداتها وتقود أفرادها ضد عدو داخلي هو قوي الفوضي والتخريب، في ظروف تختلف من شارع لشارع ومن حي لآخر. •• لم أكن أصدق عيني وأذني وأنا أسمع وأري أجهزة الإعلام بما فيها إعلام القوات المسلحة توجه رسالة لم يوجهها الإعلام للشعب أبدا، من قبل: نظموا أنفسكم قبل انتظار العون أنتم لاعب أساسي في حماية مصالحكم وأرواحكم، وكانت تتردد في مسامعي بقوة عبارة محمد علي باشا وهو ينزع سلاح المقاومة الشعبية بعد حملة فريزر: ليس علي الرعية خروج وتراودني صورة جمال عبدالناصر وهو يوزع السلاح علي الشعب في منطقة القنال وأقارن كل هذا بما نحن فيه فأري وثبة هائلة نحو الضوء. •• لكن يبقي أن نؤسس لبيئة سياسية تتساوي فيها فرص النمو والمشاركة بين الحزب الوطني وأحزاب المعارضة في فضاء يفتحه إنهاء الدولة حضانتها للحزب الوطني عندئذ يمكن أن نخطو الخطوة التالية علي طريق الانتقال من الوطنية الشمولية إلي الوطنية الديمقراطية.