فرح أبي فى مصر فى السنوات العشر الأخيرة تقريبًا، طرقت «القراءة» كنشاط جماعى وفردى، مساحات واسعة جديدة على الساحة الثقافية، أخرجتها من مجرد كونها طقسًا اعتياديّا أو سِريّا فى بعض الأحيان، لتصبح فى كثير من الأحيان اليوم فرصة لاحتفاء وتباهى ومباريات إلكترونية وسباقات على «جودريدز». هذا الاهتمام المختلف والواسع بالقراءة بين الناس، جعل منها «ظاهرة» فى حدّ ذاتها، أصبح لها مهتمّون ومتابعون ومختصّون يحاولون فهْم ما طرأ عليها من جديد ودراسة أبعادها. من بين الأسئلة التى طرحها المتابعون لظاهرة القراءة بين قطاع واسع من الشباب على الإنترنت اليوم: ماذا علينا أن نقرأ؟ كيف نقرؤه؟ ولماذا يقرأ الناس أصلًا؟ وماذا حدث للقراءة فى مصر مؤخرًا؟ فى المكتبة العربية الآن أحدث كتابين يحكيان عن القراءة من زاويتين مختلفتين تُكمل إحداهما الأخرى ويحاولان الإجابة عن بعض هذه الأسئلة وغيرها.. حيث نكتشف مثلًا أن الكتابة واللعب مع سوق القراءة فى عالم اليوم «مافيا متكاملة» تُستخدم كمدخل إلى التمكين الثقافى والسياسى وبأرقام التوزيع لفئات كثيرًا ما شعرتْ بتنحيتها عن المشهد أو انتبهتْ متأخرة إلى فاعلية الأمْر وضرورة أن يكون لها يدٌ عُليا وفاعلة فيه. نحن إذن فى هذا التقرير نحاول فهْم «سلوك» القراءة بالقراءة عن عملية القراءة! من زاوية أخرى، تندر الكتابات العربية عن ظاهرة القراءة فى الوطن العربى، على عكس الغزارة الإنتاجية فى هذا النوع من الدراسات فى المكتبات الأجنبية، وهو ما أتيح لنا التعرّف عليه عبر ترجمة كتب ألبرتو مانجويل الشهيرة عن القراءة. شغف القراءة.. تاريخ قديم وبوابة لعالم مدهش تفنّنت المناهج الدراسية الصمّاء فى توليد النفور من القراءة لدى أجيال كاملة من الشباب، ارتبط عندهم هذا الفعل البديع بدرجات الترقى فى الشهادة الدراسية وما يصاحبها من أساليب تلقين وتوبيخ. الناقد الأدبى والمحرّر الثقافى «إيهاب الملاح» يقودنا فى أحدث كتبه نحو عالم شاسع لم نكن نرى منه سوى القليل الجاف؛ ليفتح لنا أبواب المتعة على مصراعيها، بحيث يمكن أن نعتبر محاولته تلك؛ تأريخًا دقيقًا وشاملًا لمشاريع القومية للقراءة، يتتبّع عبرها «تاريخ القراءة المُهمَل» إذا جاز التعبير. فى كتابه «شغف القراءة» الصادر حديثًا عن دار «الرواق»، يُقدِّم لنا الملاح مقالات دسمة مُزِجَتْ فيها، بحرفية واضحة، الخبرة الذاتية لمؤلفها فى تتبّع المعرفة بدأب شديد، بكَمّ ليس هيّنًا من المعلومات عن الكتب وكبار دور النشر والمشاريع الثقافية الضخمة فى مصر، مثل سلسلة كُتُب «اقرأ» عن دار المعارف التى دُشّنت عام 1943م، لتكون اللبنة الأساسية فى تكوين عقول أغلب كُتّاب مصر ومفكّريها الآن. فى الباب الأوّل من الكِتاب بعنوان «بهجة القراءة»؛ يتحدّث الملاح عمّا يرتبط بفعل القراءة من كتُب وشخصيات عامّة، فيحكى فى فصل كامل عمّن يُسمّيهم «أسطوات التثقيف» الذين كانوا يلعبون، منذ سنوات بعيدة، دورًا مُهمّا جدّا فى مساعدة المقبلين على القراءة، فيمنحونهم «مفاتيح أبواب العالم الساحر إلى متعة القراءة»، أمثال أنيس منصور ولويس عوض وغيرهما. ينتقل الملاح فى أبواب الكتاب التالية من الحديث عن القراءة إلى عوالم الأدب والنقد والتراث، مستخدمًا لغة فصيحة متناغمة، تنضح برغبة محمومة فى إفادة القارئ إفادةً حقيقية تتغيّر بها نظرته لعالم الكتب، فيضع عشرات العيون على كتُب شديدة القيمة تُشَيِّدُ لقارئها «مدينة كاملة من المعرفة» إن جاز التعبير. إذ يؤكد الملاح مرارًا على أهمية ما يُسميه كتب «المداخل والمفاتيح» وكتب «المتوسطات القرائية» التى تفتح المجال أمام القارئ العادى أو المتوسط للتوسُّع فى موضوع عميق قد لا يستطيع التوسّع فيه من أمّهات الكتب الأصلية. على سبيل المثال لا الحصر، يحتفى الملاح فى مجال الأدب بكتابَى «حكايات من أغانى الأصفهانى» للصحفى كمال النجمى، و«شخصيات حيّة من الأغانى» للروائى محمد المنسى قنديل، كاستلهامات بديعة للعمل الفذ الأصلى «الأغانى» لأبى فرج الأصفهانى. وفى باب التراث يتغنّى بكتاب «مداخل فى قراءة التراث العربى» لصاحبه أ.د. عبدالحكيم راضى الذى يحمل بين دفتيه عشرين مقدمة تعريفية وافية بعشرين كتابًا من عيون التراث العربى. ويستمر الملاح فى تقديم منابع المعرفة على طبق من ذهب، فيحكى لنا عن كتاب «فى الشعر الجاهلى» لطه حسين الذى زلزل المجتمع العلمى والدينى فى عشرينيات القرن الماضى، واتهامات الكل له بالكفر والخبل، والدعوات لمعاقبته أشدّ العقاب، وعن دعوات المنع فى وقتنا الحاضر، التى من رأى الملاح تُعدّ من أسوأ الطرُق وأغباها، وتؤدى فى النهاية إلى نتيجة عكسية وهى تداول الكتب الممنوعة بشكل أوسع. أين الناقد؟ يتعرّض الملاح كذلك بالتحليل والتفسير لما يُعرف بأزمة النقد، حيث يشتكى الجميع من غياب حركة النقد فى مصر، وتقاعس النقاد عن متابعة الأعمال الجديدة، ويقتفى أثر أكبر نقاد مصر، مثل محمد مندور وشكرى عياد وخيرى دومة، حيث يتعامل الملاح مع سيرتهم، وسيرة غيرهم من كبار مفكرينا وكتابنا، ليس كباحث متقصٍّ فقط، بل كمُحبّ منبهر وممتنّ. الكِتاب يستوعب بكل أريحية مناهج التدريس فى المدارس والجامعات، ويصلح اقتراحه ضمن الكتب المقرّرة على الذى ينتوى دراسة الأدب وتاريخ الأدب. Best Seller.. ماذا حدث للقراءة بعد ثورة يناير؟ شهد عالم الكتابة تحولات مهولة فى السنوات الثمانى الأخيرة، جعلت الجميع فى حالة ذهول وحيرة، فقد ظهرت دولة جديدة يسكنها الأدباء الشباب الذين مالوا فى كتاباتهم إلى موضوعات الرعب والخيال العلمى.. دولة لا يعترف سكانها بالنقاد التقليديين، ولا يعرفهم النقاد أصلًا. أدباء شباب لديهم عشرات، بل مئات الآلاف من المتابعين، لم يحظ بعض أقوى الأدباء الكلاسيكيين بنصف هذه الأعداد. دولة يحكمها مفهوم «البيست السيلر» ويحرّك مقاليدها. لكنّ أحدًا، حيال هذه التحولات الجديدة، لم يَقُم بأكثر من الامتعاض والازدراء وسب ذوق الشباب وجيلهم. أخيرًا؛ بدا الصحفى سامح فايز متخلّصًا ومتخفّفًا من «العنجهية» التى ينظر بها أغلب المثقفين ل«دولة الكتّاب الجديدة». فى كتابه «Best seller.. حكايات عن القراءة»، الصادر حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية، يخوض سامح ما يقارب التحقيق الصحفى فى بنيته وهدفه، ولِمَ لا؟ فالكتاب فى الأساس نواته تحقيق صحفى منشور حاول فيه فايز رصد هذه الظاهرة وأسباب نموّها، قاصدًا تفكيك مفرداتها، بالاستعانة بكتّاب وصلوا لقوائم ال«بيست سيلر»، وبمختصين قضوا حياتهم فى صناعة النشر والكتب وملاحظة أسواق القراءة على مدار عقود. تلميحًا إلى ارتفاع ملحوظ فى معدلات القراءة والتوزيع، يشير الكتاب إلى أقوال الناشرين المصريين بأن معدلات القراءة «مرتفعة جدّا»، وأنها ارتفعت بعد الثورة بما يقارب 40 %، وأن بعض الروايات قد كسرت حاجز المليون نسخة، مثل «الفيل الأزرق» لأحمد مراد، و«هيبتا» لمحمد صادق. ومن هذا المدخل يبدأ فى تفكيك وتفسير هذه القفزة الغريبة، يوضّح سامح أن «التمرد» هو كلمة السّرّ والمدخل الأساس لدولة الكُتّاب الجديدة.. تمرّد على سيطرة دوائر بعينها على الثقافة وحركات النشر، وتمرد على فترة حُكم تَصدَّرَ فيها الدعاة الجُدد المشهد الإسلامى والثقافى فى ظل غياب المؤسسة الثقافية الرسمية أو حتى المستقلة.. تمرد أخذ طريقه بالأساس عبر مواقع الإنترنت التى سمحت للكُتّاب والقراء منذ بدايات الألفية الجديدة تبادل الكتابات والقراءات بعيدًا عن أعين النقاد والكُتّاب الكلاسيكيين. إن أول ما يسترعى انتباه الكتابات الأعلى مبيعًا، هو احتواؤها على موضوعات تتركّز بكثافة حول تيمات مصاصى الدماء والزومبى والسحر والسحرة! وبسؤال سامح لكثير من كُتّاب هذا النوع من الأدب، باختلاف أعمارهم وخلفياتهم، أجمعوا على أن انتشار هذا النوع بهذه الكثافة بعد الثورة، يعود للرغبة فى الهروب إلى خيال أكثر ألمًا وغرابة من واقع يرونه مزيّفًا وأشد وطأة، وبخاصة بعد يناير 2011م. وكذا الحال مع روايات الخيال العلمى، التى أرجع كُتّابها فى كتاب سامح فايز إقبال القراء عليها إلى بحث الجمهور عن «يقين يساعد على مواجهة اللا يقين الموجود حاليًا». يعتمد سامح فى كتابه على أبحاث وتقارير ذات نتائج وإحصائيات بخصوص معدلات القراءة والنشر، وهو أمْرٌ شديد الصعوبة فى عالمنا العربى، وبخاصة عندما يتعلق الأمْرُ بمجال ثقافى، محاولًا تفسير الظواهر التى يتناولها بالبحث بحيادية قدر المستطاع، والابتعاد عن الحُكم الأعمى والمتكبّر على كل ما هو جديد. المنتقبات والإسلاميون كُتّاب روايات رومانسية يتطرّق سامح إلى ظاهرة أخرى من ظواهر دولة الأدب الجديدة التى لم يقترب أحد منها بالدراسة قبلًا، وهى ظاهرة إبداع المنتقبات والإسلاميين وما يتواجد فيه من التزام بالحدود الدينية وتنتشر بين سطوره، فى الأغلب، المواعظ والقيم والأمْرُ بالمعروف والنهى عن المنكر، وفسر بعض النقاد ظهور هذا النوع بإدراك جماعة الإخوان، بعد توليهم الحُكم، قيمة أن يكون لهم كوادر ثقافية كانت مختفية تمامًا عن المشهد ولها عظيم الأثر وأسرعه. كما أن الإسلاميين بدأوا بملاحظة فقدان المصريين الثقة فى الخطابات الدينية، فقرروا التسلل إلى وعى الناس عن طريق «الإبداع». ولا يكون الحديث عمّا جَدَّ فى عالم القراءة والأدب حديثًا، إلا بذِكر ما انتشر فيه من اتهامات السرقة الفكرية التى سهّلتها وجود المعلومات والنصوص متاحة للجميع بأقل مجهود على الإنترنت. وبمجهود فريد يبحث سامح فى القوانين العالمية والمصرية الخاصة بالمِلكية الفكرية، كاشفًا عن مدى تراخى هذه القوانين ومطاطيتها وإمكانية التلاعب بها. كما يتطرق لمافيا تزوير الكتب، التى صارت بعض دور نشر الشباب تتعاقد معها فى مقابل نسبة تحصل عليها الدار، لإيهام الناس أن الكتاب مقروء! يتضمّن كتاب «بيست سيلر.. حكايات عن القراءة» مُلحقًا يضم حوارات مع ثلاثة من أبرز كُتّاب البيست سيلر بمفهومه الحديث: هم الراحل أحمد خالد توفيق، وأحمد مراد، وأشرف العشماوى.