خيط رفيع ذلك الذى يجمع السلطة بالصحافة، أو يفصل بينهما، لذلك عندما يقرر أحد حراس بلاط صاحبة الجلالة أن يحكى عما يدور خلف الستار لابد أن يثير الفضول والشغف لدى القراء.. هذا ما فعله عاطف الغمرى من زوايا متعددة للرؤية، أتيحت له بحكم المناصب التى تولاها من خلال عمله نائبًا لرئيس تحرير جريدة الأهرام ثم مديرًا لمكتب الأهرام فى لندن ثم مديرًا لمكتب الأهرام فى الولاياتالمتحدة، علاوة على عضويته بالمجلس المصرى للشؤون الخارجية والمجلس الأعلى للثقافة وكونه محاضرًا بكلية الإعلام جامعة القاهرة. عبر كتابه «فى كواليس الصحافة والسياسة» الصادر مؤخرًا عن الهيئة العامة للكتاب مذيلاً العنوان بوصفه تجربة ذاتية، لكنه فى الكتاب يطوف بذاكرته بين أروقة الصحافة وقصور الحكم متسلحًا بحسه الصحفى فى الاستقصاء ومعتمدًا على ما لديه من وثائق وحوارات جمعته مع المؤثرين فى القرار السياسى وبين البلاد بحكم عمله فى واشنطن مديرًا لمكاتب الأهرام، لذلك فالكتاب أشبه بتوثيق تاريخى لما عاشه جيل كامل. 1 بعد ثورة 1952 عُين كمال رفعت(أحد الضباط الأحرار وأول وزير للعمل) مشرفًا على أخبار اليوم ولكن ما يدعو للعجب بحسب رواية الغمرى ما قاله مدير مكتب رفعت وهو بدوره ما أراد أن يوضح به طريقة تعامل السلطة مع الصحافة وقتها فى جعل «موظف يستدعى كبار الصحفيين بالتليفون»، إذ اعتقد ذلك الموظف وقتها بأن الصحافة «حاجة سهلة جدًا» وأخذ يزهو بنفسه بين المحررين الشباب فى أخبار اليوم لأنه عكس ما كان يتوقع قبل ذلك بأن الصحافة شيء خطير وصعب لكنه أصبح يدير قرص التليفون «فيدعو كبارهم» يقصد محمد التابعى وكامل الشناوى ومصطفى وعلى أمين وهو ما جعله يتصور أن الأمر بهذه السهولة! 2 كانت علاقة إحسان عبدالقدوس بالسلطة أيضًا أحد أهم المؤشرات لقياس سلطة الرقابة على الصحافة، فقد كان (إحسان)من المؤيدين لثورة 1952 لكنه أيضًا لم يترك الطريق للصداقة بينه وبين عبدالناصر للتحكم فى قلمه، فكتب على صفحات روزاليوسف «مصر قبل الثورة كان يحكمها ملك، أما اليوم فيحكمها أحد عشر ملكًا» وهو ما أغضب الرئيس وقرر سجنه ثلاثة شهور، لكنه سرعان ما أفرج عنه بسبب مقاطعة صحفيى المجلة نشر أى أخبار عن مجلس قيادة الثورة. 3 رغم ما يبدو للعامة أن العلاقة بين إحسان والسادات كانت هادئة وقعت بينهما بعض الصدامات، أولها عندما طلب منه السادات فى مكالمة شخصية، عندما كان يرأس إدارة وتحرير الأهرام، أن يهاجم وينتقد رئيس إحدى الدول العربية وكانت إجابة إحسان «لا..لا أوافق»، وبعدها هدأ الخلاف بينهما لفترة إلى أن طلب السادات من إحسان غلق مجلة الطليعة التى كانت تحمل فكرًا ماركسيًا لكن إحسان رفض أن يكتب فى تاريخه أنه أغلق صحيفة أيًا كان توجهها، فخيره السادات بين تنفيذ الأمر أو تعيين غيره، وترك إحسان مكانه ليوسف السباعى وهو مابرره بعد ذلك «أنا مش أدارجى لكن يوسف السباعى راجل أدارجى أقدر منى على تصريف مثل هذه الأمور». 4 علاقة توفيق الحكيم بالسادات كان يشوبها الاضطراب أيضًا، ففى عام 1972 عندما قرر الصحفيون كتابة بيان للسادات يعبرون فيه عن ضيقهم من تأخر الحرب واستعادة الأرض المحتلة، وتم الاتفاق أن يكتب الحكيم ذلك البيان الذى حمل توقيع 100 صحفي، نتيجة لغضب السادات من البيان قرر نقل كل الموقعين عليه (وعلى رأسهم الحكيم) إلى مصلحة الاستعلامات. 5 بلغ غضب السادات من البيان الذى كتبه توفيق الحكيم أنه قرر تحويل نقابة الصحفيين إلى نادٍ، وهو ما قوبل برفض من أغلب الصحفيين واستحسان البعض، لولا تدخل منصور حسن، وزير الثقافة والإعلام وقتها، واستغل قربه من السادات لإقناعه بالعدول عن قراره. 6 كانت شهادة أشرف غربال، سفير مصر لدى واشنطن أثناء رئاسة السادات، تبلور نظرة الأخير للصحفيين، فأثناء لقاءات الغمرى المنتظمة معه لكتابة مذكراته قال له «إن السادات كان يريد أن يكون قريبًا من الصحفيين وأن يقتنعوا بأن ما يفعله هو لخير البلد وصالحه لكن فى الوقت نفسه كان يضايقه النقد» ويذكر غربال أنه رغم حب السادات أن يلتقى بالصحفيين ليكون حديثه معهم مباشرًا، كان قد حذره «أشرف ما تخشش فى أمور الصحفيين، وما تشغلش بالك، فمنهم ناس متعبين». 7 فى التسعينيات وأثناء زيارة القذافى لمصر كان قد طلب لقاء عدد محدود من كتاب الأهرام وكان الغمرى ضمن هذه المجموعة، يحكى عن السؤال الذى كشف عن ضحالة نظرة القذافى على حد تعبيره، إذ سأله أحد الصحفيين عن معنى الحرية والديموقراطية وأنها أصبحت شرعية أى نظام للحكم، فأخذ القذافى ينظر إلى السقف ويتمتم بكلمات غير مفهومة دون فهم أى من الحاضرين لما يقول، وعندما طلبوا منه إيضاحًا لفهم وجهة نظره، طلب من أحد مساعديه الرد عليهم فقال مساعده: بأن الشعوب العربية أمامها 100 عام على الأقل حتى تكون مؤهلة لحكم ديموقراطى. وأخذ القذافى يكمل وجهة نظره بأنه لا ضرورة أيضًا لوجود جيش وطنى للدولة بحجة أن الشعب قادر على حماية نفسه، وهو ما رد عليه اللواء المجدوب، المحرر العسكرى بالأهرام وقتها، ليشرح للقذافى أهمية دور الجيش وأنه عمود أساسى لقيام أى دوله لكن القذافى لم يهتم بما سمعه. 8 يحكى الغمرى الدقائق المعدودة التى جمعته صدفة بالرئيس محمد نجيب فى الأهرام، بعد أن سمح له السادات بمفارقة مكان تحديد إقامته بالمرج لينتقل إلى منزل متواضع بحدائق القبة، فجاء لزيارة على حمدى الجمال، رئيس مجلس الإدارة والتحرير وقتها، لكن هذا اللقاء القصير كان يحمل وجهة نظر نجيب فى الصحفيين إذ قال للغمرى «أنتم الصحفيون حصن يحمى الوطن، الكلمة الحرة هى التى تبنى الأوطان» ثم مضى فى طريقه. 9 يحكى الغمرى عن علاقة مبارك بالصحافة من خلال تجربته شخصيًا، عندما كتب مقالًا يهاجم فيه الحكومة ويحكى أيضًا ما حدث من أحد الوزراء المصريين طلب منحة أثناء زيارته لليابان، فكان الرد من الجانب اليابانى أن هذه المنحة قُدمت لمصر منذ بضع سنوات بقيمة 5 ملايين دولار ولم تقم مصر بأى إجراء للاستفادة منها ولا كان الوزير على علم بها أصلًا. بعد نشر المقال تلقى الغمرى اتصالًا من مصطفى الفقى مدير مكتب الرئيس للمعلومات وقتها يبلغه بأن الرئيس قرأ مقاله وسوف يحقق فيما جاء به، ليتصل به الفقى بعد أيام ويخبره أن الرئيس شعر أن المعلومات ربما لم تكن دقيقة، لكن الغمرى أرسل له نسخة من المستندات الحكومية التى تتضمن المعلومات، ليسأله بعد فترة عما حدث فيخبره الفقى بأن الرئيس طوى هذه الصفحة، يبلور الغمرى بهذه الحكاية طريقة تعامل مبارك مع الصحافة «دعهم يكتبون ولنفعل مانريد». 10 كان اللقاء بين مبارك والكاتب الأمريكى فريد زكريا يتضمن نقاشا حول رؤية مبارك وفلسفته فى الحكم، إذ حكى زكريا في مقال كتبه عن حوار دار بينه وبين مبارك غضب فيه بشدة عندما تحدث عن ضرورة الأخذ بالديموقراطية فى مصر، وكان رد مبارك عليه «إنكم بذلك تريدون أن يحكم الإخوان». 11 أيضًا تضمن مقال زكريا فى فبراير 2011 كواليس اللقاء بين مبارك وفرانك ويزنر، السفير الأمريكى الأسبق بالقاهرة، والذى أوفده أوباما فى تلك الفترة إلى مبارك مبعوثًا شخصيًا، ودار الحديث بينهما (مبارك وويزنر) عن قضية الإصلاح السياسى فى مصر فكان رد مبارك متوترًا «لو فعلت ما تريدون منى أن أفعله، فإن المتطرفين المتأسلمين سوف يستولون على الحكم»، وتبع اللقاء مكالمة هاتفية شديدة اللهجة بحسب تعبيره من أوباما ومبارك فى أول فبراير أخبره فيها بأن الوقت قد حان لنقل السلطة، وحذره من استخدام العنف ضد المتظاهرين. 12 تضمنت العلاقة بين مبارك وعمرو موسى بعضًا من القلق أو ربما الخوف من سرقة الأضواء، كان مبارك قد اعتاد على زيارة واشنطن سنويًا وفى إحدى الزيارات ذهب موسى-وزير الخارجية وقتها- لواشنطن قبل مبارك ب10 أيام قام فيها بزيارة الولايات البعيدة عن العاصمة ليقابل الجاليات العربية هناك، وعندما ذهب لاستقبال مبارك عند قدومه من القاهرة أبدى مبارك عدم ارتياحه قائلًا لموسى «إنت أكثرت من الظهور فى شبكات التليفزيونات الأمريكية، فما الذى تركته لى لأقوله؟!». 13 كان هناك توجه لدى الإدارة الأمريكية خلال فترة رئاسة كلينتون لإعداد خطة سلام نهائى بين إسرائيل والفلسطينيين، وكانت الفرصة فى عام 1998 أثناء وجود ياسر عرفات ونتنياهو فى واشنطن لمباحثات ثلاثية، واشتدت فى هذه الفترة حملات الهجوم الإسرائيلية على البيت الأبيض، كما بعث نتنياهو مندوبه فى الأممالمتحدة «دور جولد» لحشد حملة ضغط من أعضاء الكونجرس ضد كلينتون ليعدل عن قراره فى تسوية سلام على إسرائيل. وعند بدء المؤتمر الذى قرر كلينتون فيه إعلان السلام، سأل أحد الصحفيين الأمريكيين كلينتون عن علاقته بفتاة تدعى مونيكا لونيسكي؟ فنفى معرفته بها وقد بدت على وجهه الصدمة بينما لم تبدو ملامح المفاجأة على وجه نتنياهو، أما ياسر عرفات فلم يظهر اهتمامًا باعتباره سؤالًا عاديًا! لكن سرعان ما نشرت الصحف تفاصيل فضيحة كلينتون ومونيكا وكانت الإدارة الأمريكية قد اكتشفت وجود أجهزة تنصت متطورة داخل البيت الأبيض، بهذه الطريقة تحولت الأنظار من السلام المنتظَر إلى إعلانه إلى مونيكا! 14 يرصد الغمرى ومن خلال ما نشرته صحيفة «Washington jewish week» اليهودية الأمريكية، التأثير الكبير لحرب أكتوبر فى تغيير مسار التحرك الأمريكى فى الشرق الأوسط إذ جاء فى افتتاحيتها «حرب 73 جعلتنا نفيق من حلم القوة اليهودية»، «الحرب التى كان من الممكن أن تخسرها إسرائيل أصبحت حربًا لا انتصار فيها»، ويرون أن الهزيمة الكبرى التى حلت بهم كانت أن أصبحت إسرائيل دولة معتمدة بدرجة كبيرة على حليف أمريكى. 15 تحكى هيلين توماس، عميدة مراسلى البيت الأبيض، فى لقائها مع الغمرى عن انطباعات الرؤساء الأمريكيين عن الصحافة، إذ كتب روزفلت أوتجراف لأحد المصورين الصحفيين «من ضحيتك المخلص»، أما كيندى فقال عن التغطية الصحفية لنشاطه «قراءتى لها كثيرة، وتمتعى بها قليل»، بينما كان نيكسون الأكثر عداءً للصحفيين وبالفعل وضع «قائمة الأعداء» تتضمن أسماء مراسلين صحفيينن كارتر كان يبدأ أى مؤتمر موجهًا كلامه للصحفيين «فليغفر الله لهم ما يعرفونه، وليس لما يفعلونه»، وكان تعليق بوش الأب بعد ترك منصبه «أثناء وجودى فى البيت الأبيض كنت أؤمن بحرية الصحافة، أما الآن أؤمن بالتحرر منها». 16 عند وصول الإخوان لسدة الحكم حاولوا بشتى الطرق تحويل الصحف إلى منشورات تصدر من مكتب الإرشاد، وبدأت المعركة من المعايير(المهنية) التى وضعها مجلس شورى الإخوان لاختيار رؤساء تحرير جدد(وهو مارفضته نقابة الصحفيين) لكن أصر مجلس الشورى على موقفه وتم تعيين رؤساء مجالس إدارة وتحرير تتواءم أفكارهم مع السلطة الجديدة. وسرعان ما تم إيقاف عدد كبير من كتاب الرأى فى الأهرام، من ضمنهم الغمرى نفسه الذى منع مقاله بقرار من رئيس مجلس الإدارة الجديد، الذى قام أيضًا بنقل بعض كتاب الرأى إلى الملحق الثقافى ثم رفع مقالاتهم منه بعد ذلك، وتم إلغاء صفحة الرأى فى جريدة الأخبار ومنع من يكتب بها عدا بدر محمد بدر(لانتمائه للجماعة) وتم منع العديد من الصحفيين من الكتابة أو يتم التضييق عليهم حتى يقرروا هم عدم الكتابة، ويرجع الغمرى ماحدث لخوف الإخوان من كشف علاقتهم الوثيقة بالإدارة الأمريكية.