رئيس الأركان يشهد مشروع مراكز القيادة الاستراتيجى التعبوي بالمنطقة الشمالية    السيسي يثمّن جهود بنك التنمية الجديد: نتطلع لإقامة بيئة دولية داعمة للاقتصاد    الجريدة الرسمية تنشر قرارا رئاسيا بفتح اعتماد إضافي بالموازنة ب320 مليار جنيه    المفوضية الأوروبية تهدد بفرض رسوم على السيارات الكهربائية الصينية    عضو ب«الشيوخ»: الدولة المصرية تبذل جهودا ضخمة لتخفيف معاناة الفلسطينيين    وكيل «صحة الشيوخ»: الرئيس السيسي وجه تحذير للعالم من مغبة ما يحدث في غزة    ضياء السيد: خالد بيبو ناجح مع الأهلي والحديث عن الصفقات الجديدة غير طبيعي    أبرزهم راقصي السامبا.. مواعيد مباريات اليوم الأربعاء    «الصحة»: 24 عيادة طبية تابعة للبعثة المصرية للحج في مكة المكرمة    «تعليم كفر الشيخ»: لا شكاوى في ثاني أيام امتحانات الثانوية العامة 2024    3 وعكات صحية لطلاب في ثاني أيام امتحانات الثانوية العامة بكفر الشيخ    المخرج مازن الغرباوي يجري بروفات نهائية قبل مشاركته بعرض انتحار معلن في مهرجان آرانيا الدولي للمسرح    بعد الصفعة.. عمرو دياب يتصدر ترند إكس بأغنية الطعامة    دعاء رد العين نقلا عن النبي.. يحمي من الحسد والشر    الاستخبارات الداخلية الألمانية ترصد تزايدا في عدد المنتمين لليمين المتطرف    وزير الدفاع الألماني يعتزم الكشف عن مقترح للخدمة العسكرية الإلزامية    رئيس الوزراء يهنئ الرئيس بعيد الأضحى المبارك    المصري الديمقراطي: تنسيقية شباب الأحزاب استطاعت تأهيل عدد كبير من الشباب للعمل السياسي    رئيس إنبي: سنحصل على حقنا في صفقة حمدي فتحي "بالدولار"    "مخدناش أي حاجة".. حازم إمام يعلق على ملف نادي القرن بين الأهلي والزمالك    التعليم تكشف تفاصيل مهمة بشأن مصروفات العام الدراسي المقبل    محافظ جنوب سيناء ورئيس القابضة للمياه يناقشان آليات تحسين منظومة المرافق    رئيس الوزراء يتابع جهود توطين صناعة الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات    الداخلية: ضبط 562 دراجة نارية لعدم ارتداء الخوذة    احتفالًا بعيد الأضحى.. السيسي يقرر العفو عن باقي العقوبة لهؤلاء -تفاصيل القرار    عاشور يشارك في اجتماع وزراء التعليم لدول البريكس بروسيا    تدريب وبناء قدرات.. تفاصيل بروتوكول تعاون بين مركز التدريب الإقليمي للري والمعهد العالي للهندسة بالعبور    في ذكرى ميلاد شرارة الكوميديا.. محطات في حياة محمد عوض الفنية والأسرية    عصام السيد يروي ل"الشاهد" كواليس مسيرة المثقفين ب"القباقيب" ضد الإخوان    سوسن بدر: المصريون نتاج الثقافات والحضارات الوافدة لمصر وصنعنا بها تاريخ    نقيب الصحفيين الفلسطينيين ل"قصواء الخلالي": موقف الرئيس السيسي تاريخي    بيان الأولوية بين شعيرة الأضحية والعقيقة    5 نصائح من «الصحة» لتقوية مناعة الطلاب خلال فترة امتحانات الثانوية العامة    «متحدث الصحة» يكشف تفاصيل نجاح العمليات الجراحية الأخيرة ضمن «قوائم الانتظار»    شبانة: حسام حسن عليه تقديم خطة عمله إلى اتحاد الكرة    كومباني يحدد أول صفقاته في بايرن    «أوقاف شمال سيناء» تقيم نموذج محاكاه لتعليم الأطفال مناسك الحج    وزيرة الهجرة تستقبل سفير الاتحاد الأوروبي لدى مصر لبحث التعاون في ملف التدريب من أجل التوظيف    جواو فيليكس: مستعدون لليورو والهزيمة أمام كرواتيا أعادتنا للمسار الصحيح    حماية العيون من أضرار أشعة الشمس: الضرورة والوقاية    قرار عاجل من التعليم بشأن تحصيل المصروفات الدراسية 2025    السجن المشدد 6 سنوات لمتهم بالاتجار فى المخدرات بكفر الشيخ    حالة الطقس اليوم الأربعاء 12-6-2024 في محافظة قنا    محافظ الغربية يتابع مشروعات الرصف والتطوير الجارية ببسيون    أفضل أدعية يوم عرفة.. تغفر ذنوب عامين    إعلام إسرائيلي: صفارات الإنذار تدوي في مناطق مختلفة من شمال إسرائيل    يونيسف: نحو 3 آلاف طفل في غزة معرضون لخطر الموت    إي اف چي هيرميس تنجح في إتمام خدماتها الاستشارية لصفقة الطرح العام الأولي لشركة «ألف للتعليم القابضة» بقيمة 515 مليون دولار في سوق أبو ظبي للأوراق المالية    توقيع بروتوكول تعاون ثنائي بين هيئة الرعاية الصحية ومجموعة معامل خاصة في مجالات تطوير المعامل الطبية    بطل ولاد رزق 3.. ماذا قال أحمد عز عن الأفلام المتنافسة معه في موسم عيد الأضحى؟    وزير الأوقاف يهنئ الرئيس السيسي بعيد الأضحى المبارك    تفاصيل مشاجرة شقيق كهربا مع رضا البحراوي    وزير الصحة: تقديم كافة سبل الدعم إلى غينيا للتصدي لالتهاب الكبد الفيروسي C    مسئول أمريكي: رد حماس على مقترح وقف إطلاق النار يحمل استفسارات    اتحاد الكرة يحسم مشاركة محمد صلاح في أولمبياد باريس 2024    زواج شيرين من رجل أعمال خارج الوسط الفني    خلال 3 أشهر.. إجراء عاجل ينتظر المنصات التي تعمل بدون ترخيص    حظك اليوم| الاربعاء 12 يونيو لمواليد برج الميزان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبده.. إمام التنويريين

الاطلاع على أفكار الإمام محمد عبده يثير الدهشة والانزعاج معًا.. حالتان متناقضتان تمامًا من «الإعجاب والرعب» تسيطران على عقلك ووجدانك من قدر ملاءمة أفكار الإمام للعصر الذى نعيش فيه! وكأن الرجل الذى وُلد عام 1849 يكتب ويفكر وهو جالس بيننا، يتابع الأخبار ذاتها ويناقش القضايا نفسها.. فهل كان ثاقب الرؤية وبعيد النظر إلى ذلك الحد المذهل؟! أم أننا لم نبارح موقعنا كثيرًا بعد كل هذه السنوات الطويلة؟!
ففى 3 يونيو من العام 1889 كانت مصر على موعد مع أهم «مفتى» فى تاريخها على الإطلاق.. ورغم كل الصعاب التى واجهها والطعنات التى تلقاها، فإن الأقدار ساقت الإمام محمد عبده إلى منصب «مفتى الديار المصرية»، فاتخذه منصة لإطلاق ثورة فكرية وتنويرية لم يعهدها الناس وسبق عصره بأكثر من قرن من الزمان..
فما نادى به وحذر منه محمد عبده منذ 128 عامًا قد تحقق بالفعل، فقد كان بفكره الثاقب يرى أن استخدام الدين مطية للسياسة يضر بالدين والسياسة معًا، وأن وصول التيارات التى تستخدم الدين وسيلة للحكم فى بعض الدول للسلطة يضر بالدين وبالسياسة والحياة برمتها. وكانت نظرته المطالبة بإبعاد رجال الدين عن حكم الشعوب، مبنية على أساس أنهم قد يعتبرون رأيهم صوابًا يتماشى مع الدين، دون أن يدركوا أنه خطأ يجافى الدين.. كان الإمام محمد عبده يقول: «إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل» ولكل مسلم أن يفهم عن الله، من كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف».. فالإسلام لا يوجد به سلطة دينية، ولم يجعل للقاضى أو المفتى «وهو كان مفتيا للديار المصرية» أو لشيخ الإسلام أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام.. وهو يرفض الخلط بين الدين والسياسة ويقول: «من الضلال القول بتوحيد الإسلام بين السلطتين الدينية والمدنية فهذه الفكرة خطأ محض، ودخيلة على الإسلام، ومن الخطأ الزعم بأن السلطان هو مقرر الدين وواضع أحكامه ومنفذها وأن المسلم مستعيد لسلطاته، والإنسان لم يخلق ليقاد بالزمام بل فطر على أن يهتدى بالعلم».
كان يعتبر أن الاجتهاد يجب أن ينبع من حالة العصر ويعبر عنه، وليس هناك أى اجتهاد يلزم المسلم فى جميع العصور، فمتى انقضى العصر وزالت مقتضياته، زال معها ما يخصه من الاجتهاد، وما رافقه من الأحكام وعلى المسلم أن يتبصر دائما بالقرآن والسنة، ويجتهد فى أعماله وأفكاره بما يلائم عصره الذى يعيش فيه، وعليه ألا يتحرج من الاختلاف بين ما يصل إليه باجتهاده وعقله، وبين ما وصل إليه السابقون من المسلمين».
 الطفل الثائر!
يُعدّ «الإمام محمد عبده» واحدًا من أبرز المجددين فى الفقه الإسلامى فى العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح وإعلام النهضة العربية الإسلامية الحديثة؛ فقد ساهم بعلمه ووعيه واجتهاده فى تحرير العقل العربى من الجمود الذى أصابه لعدة قرون، كما شارك فى إيقاظ وعى الأمة نحو التحرر، وبعث الوطنية، وإحياء الاجتهاد الفقهى لمواكبة التطورات السريعة فى العلم، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره فى مختلف النواحى السياسية والاقتصادية والثقافية.
وُلد الإمام «محمد عبده» لأب تركمانى الأصل، وأم مصرية تنتمى إلى قبيلة «بنى عدى» العربية، ونشأ فى قرية صغيرة من ريف مصر هى قرية «محلة نصر» بمحافظة البحيرة.. أرسله أبوه - كسائر أبناء قريته - إلى الكُتّاب، حيث تلقى دروسه الأولى على يد شيخ القرية، وعندما شبَّ الابن أرسله أبوه إلى «الجامع الأحمدى» - جامع السيد البدوي- بطنطا، لقربه من بلدته؛ ليجوّد القرآن بعد أن حفظه، ويدرس شيئًا من علوم الفقه واللغة العربية.
وكان محمد عبده فى نحو الخامسة عشرة من عمره، وقد استمر يتردد على «الجامع الأحمدى» قريبًا من العام ونصف العام، إلا أنه لم يستطع أن يتجاوب مع المقررات الدراسية أو نظم الدراسة العقيمة التى كانت تعتمد على المتون والشروح التى تخلو من التقنين البسيط للعلوم، وتفتقد الوضوح فى العرض، فقرر أن يترك الدراسة ويتجه إلى الزراعة.. ولكن أباه أصر على تعليمه، فلما وجد من أبيه العزم على ما أراد وعدم التحول عما رسمه له، هرب إلى بلدة قريبة فيها بعض أخوال أبيه. وهناك التقى بالشيخ الصوفى «درويش خضر» - خال أبيه - الذى كان له أكبر الأثر فى تغيير مجرى حياته. واستطاع الشيخ «درويش» أن يعيد الثقة إلى محمد عبده، بعد أن شرح له بأسلوب لطيف ما استعصى عليه من تلك المتون المغلقة، فأزال طلاسم وتعقيدات تلك المتون القديمة، وقرّبها إلى عقله بسهولة ويسر. وعاد محمد عبده إلى الجامع الأحمدى، وقد أصبح أكثر ثقة بنفسه، وأكثر فهمًا للدروس التى يتلقاها هناك، بل لقد صار «محمد عبده» شيخًا ومعلمًا لزملائه يشرح لهم ما غمض عليهم قبل موعد شرح الأستاذ.
 الشيخ الفيلسوف
انتقل محمد عبده من الجامع الأحمدى إلى الجامع الأزهر عام (1282 ه - 1865م)، وقد كان الأزهر غاية كل متعلم وهدف كل دارس، فدرس الفقه والحديث والتفسير واللغة والنحو والبلاغة، وغير ذلك من العلوم الشرعية واللغوية. وكانت الدراسة فى الأزهر - فى ذلك الوقت- لا تخرج عن هذه العلوم فى شيء، فلا تاريخ ولا جغرافيا ولا طبيعة ولا كيمياء ولا رياضيات، وغير ذلك من العلوم التى كانت توصف - آنذاك- بعلوم أهل الدنيا. ولذلك فَقَدْ شَابَ الدراسة فى الأزهر- فى ذلك الوقت- كثير من التخلف والجمود، وتوقفت العلوم عند ظواهر الأشياء دون النفاذ إلى الجوهر، ومن ثم كانت الدراسة تنصبّ على المتون والحواشى والشروح بالدرجة الأولى. واستمر «محمد عبده» يدرس فى «الأزهر» اثنى عشر عامًا، حتى نال شهادة العالمية سنة (1294ه = 1877م).
وكان يرى أهمية أن يدرس طالب العلوم الشرعية علوما أخرى بل إنه طالب بدراسة الفلسفة، وقال «إن فى مصر قضاة ومحامين وأطباء محترفين، لكنك لا ترى فى الطبقة المتعلمة الرجل الباحث ولا المفكر ولا الفيلسوف ولا العالم، لا ترى الرجل ذا العقل الواسع والنفس العالية والشعور الكريم. ذلك الذى يرى حياته كلها فى مثل أعلى يطمح فيه ويسمو إليه».
 الثورة العرابية
لم يكن الإمام محمد عبده مؤيدًا لثورة عرابى منذ البداية، وكان من أنصار التدرج فى الإصلاح. وعندما قال له عرابى فى مناقشة بينهما إن الوقت قد حان للتخلص من الاستبداد، رد عليه الإمام قائلا: علينا أن نهتم بالتربية والتعليم بضع سنين وأن نحمل الحكومة على العدل بما تستطيع.. ولو فرض أن البلاد مستعدة لأن تشارك الحكومة فى إدارة شئونها، فطلب ذلك بالقوة العسكرية غير مشروع.. وأرى أن الشغب قد يجر إلى البلاد احتلالا أجنبيا يستدعى تسجيل اللعنة بسببه إلى يوم القيامة، فتبسم عرابى ابتسام الساخط كما يذكر الإمام فى مذكراته، وقال: أبذل جهدى فى ألا أكون مورد هذه اللعنة. ولكن رغم هذا الموقف من الثورة فإنه إزاء تدفق الأحداث لم يستطع الإمام محمد عبده وهو المصرى الغيور إلا أن يأخذ صف الثورة العرابية وبعد أن فشلت دفع الثمن غاليا واتهم بالتآمر وحكم عليه بالسجن ثم النفى ثلاث سنوات فاختار بيروت ورحل إليها سنة 1883.
ثم دعاه أستاذه جمال الدين الأفغانى للحاق به فى باريس وعملا على تأسيس جمعية وصحيفة العروة الوثقى لمكافحة التسلط الأجنبى والطغيان الداخلى وتخليص مصر من الاحتلال.. واستجاب «محمد عبده» لدعوة أستاذه حيث اشتركا معًا فى إصدار مجلة «العروة الوثقى» التى صدرت من غرفة صغيرة متواضعة فوق سطح أحد منازل باريس؛ حيث كانت تلك الغرفة هى مقر التحرير وملتقى الأتباع والمؤيدين.
لقد أزعجت تلك المجلة الإنجليز، وأثارت مخاوفهم كما أثارت هواجس الفرنسيين، وكان الإمام محمد عبده وأستاذه وعدد قليل من معاونيهم يحملون عبء تحرير المجلة وتمهيد السبل لها للوصول إلى أرجاء العالم الإسلامى، وكانت مقالات الإمام تتسم فى هذه الفترة بالقوة، والدعوة إلى مناهضة الاستعمار، والتحرر من الاحتلال الأجنبى بكل صوره وأشكاله. واستطاع الإنجليز إخماد صوت «العروة الوثقى» الذى أضجّ مضاجعهم وأقلق مسامعهم، فاحتجبت بعد أن صدر منها ثمانية عشر عددا فى ثمانية أشهر، وعاد الشيخ «محمد عبده» إلى بيروت سنة (1302ه - 1885م) بعد أن تهاوى كل شيء من حوله، فقد فشلت الثورة العرابية، وأغلقت جريدة «العروة الوثقى»، وابتعد عن أستاذه الذى رحل بدوره إلى «فارس».
وكان على «محمد عبده» أن يشغل وقته بالتأليف والتعليم، فشرح «نهج البلاغة» ومقامات «بديع الزمان الهمذانى»، وأخذ يدرّس تفسير القرآن فى بعض مساجد «بيروت»، ثم دُعى للتدريس فى «المدرسة السلطانية» ببيروت، فعمل على النهوض بها، وأصلح برامجها، فكان يدرّس التوحيد والمنطق والبلاغة والتاريخ والفقه، كما كتب فى جريدة «ثمرات الفنون» عددًا من المقالات تشبه مقالاته فى «الوقائع».
ورغم أن مدة نفيه التى حكم عليه بها كانت ثلاث سنوات، فإنه ظل فى منفاه نحو ست سنين، فلم يكن يستطيع العودة إلى مصر بعد مشاركته فى الثورة على الخديوى «توفيق»، واتهامه له بالخيانة والعمالة، ولكن بعد محاولات كثيرة لعدد من الساسة والزعماء، منهم: «سعد زغلول»، والأميرة «نازلى»، و«مختار باشا»، صدر العفو عن «محمد عبده» سنة (1306ه - 1889م)، وآن له أن يعود إلى أرض الكنانة.
 عبقرى التنوير
يقول الكاتب الكبير عباس محمود العقاد فى كتابه «عبقرى الإصلاح محمد عبده»، إن الإمام كان ثائرًا، ولكنه لم يكن عرابيًا، كان يؤيد الثورة العرابية فى أمرين هما: تنبيه الرأى العام وجمع كلمته للمطالبة برفع المظالم وإصلاح الحكم وإسناد المناصب الكبرى ووظائف الحكومة عامة إلى الوطنيين. وثانيهما هو التعويل على إنهاض الأمة وإقامة نهضتها على أسس التربية والتعليم وإعدادها للحكم النيابى المستقل برغبتها الصادقة وقدرتها على صيانته من عبث الولاة المتسلطين.
وكان محمد عبده قد توقع أن تنهض أوروبا وتسبق دول العرب والمسلمين لأنهم يطبقون الإسلام دون أن يعتنقوه من حيث الالتزام والإتقان والانضباط الخلقى والسلوكى وأخذهم بالأسباب فى إقامة حضارة دون انغلاق فكرى، أو جمود عقلى أو الانصياع لحكم البابوات. وكان يقول إن الحاكم ليس له سلطة دينية فيحكم على عقائد الناس بالفساد أو الصلاح، كما كان يفعل البابوات فى أوروبا، وإنما الحاكم سلطته مدنية ويحكم بالشرع الإسلامى كسلطة تنفذ هذا الشرع.
وفى رحلته إلى فرنسا انبهر الإمام الراحل بما رآه من نهضة وتنمية وحضارة. وقال جملته الشهيرة «وجدت هنا إسلامًا ولم أجد مسلمين، وفى ديار الإسلام وجدت المسلمين ولم أجد الإسلام»، ويضيف: وجدت المبادئ والقيم والمثل العليا، وكلها صفات يطالبنا بها الإسلام ووجدت أمانة وإتقانا وإخلاصا، وكلها سمات يحثنا عليها ديننا، وبذلك فهم مسلمون بلا إسلام.
كان محمد عبده موقنا بأن المشكلة ليست فى الدين، وإنما فى الفهم الخاطئ له، وما تراكم على هذا الفهم من أفكار استمرت فى الوجود واكتسبت قداسة طمست حقيقة الإسلام التى تدعو للبناء والرقى المادى والروحى، باتساع المكان والزمان ووفق متطلبات كل عصر.
ومثلما عمل على تجديد الفكر الإسلامى فإنه كان داعية للحكم المستنير القائم على الشورى والعدل، ولكن بعد إخفاق تجربة عرابى الثورية، ومعارضة الحكام من أسرة محمد على للحكم البرلمانى. فقد نادى المستبد العادل، فإذا كان كل حكام مصر والشرق مستبدين فالأمل أن يأتى من هؤلاء المستبدين حاكم عادل ينتشل الشرق من حالة الضعف إلى القوة، من التخلف إلى رحابة التقدم والحضارة.
كان يقول: «لن ينهض الشرق إلا بالمستبد العادل».. «هل يعدم الشرق كله مستبدا من أهله عادلا» فى قومه، يتمكن به العدل أن يصنع فى خمس عشرة سنة ما لا يصنع العقل فى خمسة عشر قرنا». فهو كان يرى أن الحكام هم أقدر الناس على انتشال الأمة مما سقطت فيه، لكن هؤلاء الحكام على حد قوله لم يفهموا من معنى الحكم إلا تسخير الأبدان لأهوائهم، وإذلال النفوس لخشونة سلطانهم، وابتزاز الأموال لإنفاقها فى إرضاء شهواتهم، لا يرعون فى ذلك عدلا ولا يستشيرون كتابا ولا يتبعون سنة، حتى أفسدوا أخلاق الكافة بما حملوها على النفاق والكذب، والاقتداء بهم فى الظلم، وما يتبع ذلك من الخصال التى ما فشت فى أمة إلا حل بها العذاب.. وتلك علة من أشد العلل فتكا بالأرواح والعقول.
ولم ينخدع بحكم الخلفاء الأمويين والعباسيين الذى قام على الاستبداد والقهر مع خداع العامة والبسطاء بأنه حكم دينى.. وأكثر من ذلك فقد وصف الإمام محمد عبده الفتوحات الإسلامية بأنها أعمال سياسية حربية تتعلق بضرورات الملك ومقتضيات السياسة ومن ثم فهى ليست بالحروب الدينية.. كما أن الحرب بين الأمويين والهاشميين هى حرب على الخلافة وهى بالسياسة أشبه بل هى أصل السياسة.
وهاجم هؤلاء الخلفاء المستبدين قائلا: استبد هؤلاء وأمثالهم بالمسلمين وقادوهم إلى الحروب والهلاك فى سبيل بناء إمبراطورياتهم المزعومة.. وقد كانوا مع رعاياهم يضلونهم ويحجبون عنهم مسالك النور باسم الدين ويذلونهم ويضيقون على عقولهم ويحرمون عليهم النظر فى السياسة فصاروا لا يرون من وراء ذلك مرجعا وخاصة فى المسائل السياسية الخاصة، وبذلك قضوا على قوى البحث والفكر مما أصاب المسلمين بالشلل فى التفكير السياسى والنظر فى كل ما يتصل بشأن الحكم.
وكشف خطة هؤلاء المستبدين فى خداع العامة والبسطاء باسم الدين قائلا: «أدخلوا على الدين ما ليس فيه ونجحوا فى إقناع العامة وهم عون الغاشم بتعظيم الاحتفالات وأعياد الأولياء، حتى يقف الفكر وتتجمد العقول، ثم بثوا أعوانهم فى الممالك الإسلامية ينشرون من القصص والأخبار ما يقنع الناس بأنه لا نظر لهم فى الأمور العامة، وأن أمور الدولة تخص الحكام وحدهم وأن ما يظهر من فساد ليس من صنع الحكام وإنما تحقيق لما ورد فى الأخبار من أحوال آخر الزمان وإنه لا حيلة فى الإصلاح، والأسلم تفويض ذلك إلى الله.
ويقول: إنهم وجدوا فى ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يعينهم على بث هذه الأوهام، وانتشر بين المسلمين جيش من هؤلاء المضلين اتخذوا من عقيدة القدر مثبطا للعزائم وغلا للأيدى عن العمل.. وهذه سياسة الظلمة والمستبدين التى أدخلت على الدين ما ليس فيه وحفظت من أعمال الإسلام فقط صورة الصلاة والصوم والحج فتحول الدين إلى طقوس شكلية لا تنفذ إلى جوهر العدل والرحمة والإيثار والإخلاص والشرف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.