لم يكن الإمام محمد عبده كغيره من العلماء المتشبسين بالتفسيرات التقليدية لنصوص الدين، بل آثر الإبحار عكس التيار، نحو تجديد الفكر الإسلامى، مؤصلا لإحياء باب الاجتهاد فى سبيله إلى مواكبة حركة التطور المتسارعة فى المجتمع، مؤسسا لحركة تجديد فقهية فى أواخر القرن التاسع عشر، للقضاء على الجمود الفكرى الذى أصاب علماء عصره حينها. عبده، الذى ولد فى 1849 لأب تركمانى وأم مصرية، لم يسعد بفترة تعليمه فى الجامع الأزهر، الذى قضى فيه 3 سنوات، حيث لم ينجح مدرسوه فى تبسيط مواد اللغة والفقه له ولأقرانه، فهرب من دروسه إلى أخواله، إلا أن والده أراد إكراهه على التعلم، فعاد إلى بلدته مجلة نصر بالبحيرة، وكان يعود للقاهرة على فترات لالتماس العلم، حتى جاء جمال الدين الأفغانى فى 1871، ليتلقى على أيديه علوم الرياضة والفلسفة وعلم الكلام، فكان يلازم «السيد» ملازمة ظله، يحضر دروسه وسامره، ومجالسه التى لم تخل من العلم والحكمة والأدب والدين والسياسة، فى وقت كان يزعم مشايخ الأزهر أن تلقى تلك العلوم يفضى إلى زعزعة العقائد الصحيحة. اشترك عبده فى الثورة العرابية لكن بغرض التنوير لا التصادم، وعقب فشلها نفى إلى بيروت، ثم سافر إلى فرنسا بدعوة من أستاذه الأفغانى فى 1884م، وأسس صحيفة العروة الوثقى، وهناك قال جملته الشهيرة،: «وجدت إسلاما ولم أجد مسلمين، وفى ديار الإسلام وجدت المسلمين ولم أجد الإسلام». رحلة الأفغانى وعبده كانت مليئة بكثير من التقدير والجدل فى الوقت ذاته، فكان الأول يميل إلى الأفكار الثورية على غرار أحمد عرابى، بينما يفضل الثانى البدء بالإصلاح ومواجهة الجمود والتخلف أولا فى سبيل النهوض بالوطن، فكان يرى نفسه مصلحا أكثر من كونه ثوريا. لم يكن عبده على وفاق مع الخديوى توفيق، الذى نفاه بسبب تأييده الثورة العرابية، لكنه نجح فى إقناع خلفه عباس حلمى الثانى بإصلاح الأزهر، فوضع مشروعا للإصلاح وهاجم الخضوع الأعمى للسلطة ودعا إلى استخدام العقل والاجتهاد. عين عبده مفتيا للديار المصرية، فقاد مدرسة إعمال العقل حال تعارضه مع النقل، فلكل مسلم أن يفهم عن الله وكتابه ورسوله دون وسيط من سلف أو خلف. وكان الإمام التنويرى صاحب موقف حازم من خلط الدين بالسياسة الذى يراه دخيلا على الدين، وعن ذلك قال: «من الضلال القول بتوحيد الإسلام بين السلطتين الدينية والمدنية، فمن الخطأ الزعم بأن السلطان هو مقرر الدين وواضع أحكامه ومنفذها، وأن المسلم مستعيد لسلطاته، الإنسان لم يخلق ليقاد بالزمام بل فطر على أن يهتدى بالعلم».