محافظ بورسعيد: تنفيذ 90% من مشروع إنشاء شبكة انحدار صرف صحي بالضواحي    مصر والتشيك تبحثان تعزيز التعاون بمجالات التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي    استمرار تراجع العملة النيجيرية رغم تدخل البنك المركزي    عادل حمودة: نتيناهو في مأزق حاد.. والجنود الإسرائيليين في حالة هلع    في مفاجأة غير متوقعة.. جماهير الوصل الإماراتي تُحيي آمال الزمالك قبل مواجهة نهضة بركان في نهائي الكونفدرالية    عاجل.. تشكيل نابولي الرسمي لمواجهة فيورنتينا في الدوري الإيطالي    نشرة «المصري اليوم» من المنيا: مصرع 3 أشخاص واصابة 9 آخرين في حوادث طرق.. وتحقيقات في غرق طفل نادي بني مزار    الحماية المدنية تخمد حريق هائل داخل مخزن مراتب بالبدرشين    جائزتان لفيلمي سيمو لعزيز زرمبة وترينو لنجيب كثير بمهرجان إمدجاسن السينمائي الدولي بالجزائر    فيديو.. هل يجوز التبرع للمشروعات الوطنية؟ المفتي يجيب    الكشف على 917 مواطنا في قافلة طبية مجانية بقنا    بريطانيا تتهم روسيا بتزويد كوريا الشمالية بالنفط مقابل السلاح    الرئيس الأوكراني يوقع قانونا يسمح للسجناء بالخدمة في الجيش    وسط فرحة كبيرة من المصلين.. حضور رسمي وشعبي واسع في افتتاح المساجد اليوم    انخفاض كبير ب«حديد عز» الآن.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 17 مايو 2024 بالأسواق    تاتيانا بوكان: سعيدة بالتجديد.. وسنقاتل في الموسم المقبل للتتويج بكل البطولات    "بسبب سلوكيات تتعارض مع قيم يوفنتوس".. إقالة أليجري من منصبه    توخيل يؤكد تمسكه بالرحيل عن بايرن ميونخ    "بموافقة السعودية والإمارات".. فيفا قد يتخذ قرارا بتعليق عضوية إسرائيل    إزاحة الستار عن 3 مشروعات باقتصادية قناة السويس باستثمارات 30.5 مليون دولار    بالصور.. رئيس مدينة المنيا يفتتح مسجدين جديدين    السكة الحديد: إيقاف بعض القطارات أيام الجمعة والعطلات الرسمية لضعف تشغيلها    أمه خدرته لاستخراج أعضائه.. نجاة طفل فى بورسعيد من نفس مصير فتى شبرا الخيمة    4 وحدات للمحطة متوقع تنفيذها في 12 عاما.. انتهاء تركيب المستوى الأول لوعاء الاحتواء الداخلي لمفاعل الوحدة الأولى لمحطة الضبعة النووية    زعيم السعادة 60 سنة فن    البيت الأبيض: الولايات المتحدة لا تريد أن ترى احتلالا إسرائيليا في قطاع غزة    عمر الشناوي حفيد النجم الكبير كمال الشناوي في «واحد من الناس».. الأحد المقبل    عمرو يوسف يحتفل بتحقيق «شقو» 70 مليون جنيه    غدًا.. متحف البريد يستقبل الزائرين بالمجان بمناسبة اليوم العالمي للمتاحف    مقتل شرطيّين جنوب ماليزيا خلال هجوم يشتبه بأن منفّذه على صلة بإسلاميين    علماء الأزهر والأوقاف: أعلى الإسلام من شأن النفع العام    سوليفان يزور السعودية وإسرائيل بعد تعثر مفاوضات الهدنة في غزة    حسام موافي يحدد أعراض الإصابة بانسداد الشريان التاجي    دعاء آخر ساعة من يوم الجمعة للرزق.. «اللهم ارزقنا حلالا طيبا»    الأنشطة غير المصرفية تقدم تمويلات ب 121 مليار جنيه خلال فبراير الماضي    أحمد السقا: أنا هموت قدام الكاميرا.. وابني هيدخل القوات الجوية بسبب «السرب»    الوضع الكارثى بكليات الحقوق    بعجينة هشة.. طريقة تحضير كرواسون الشوكولاتة    وزارة العمل تعلن عن 2772 فُرصة عمل جديدة فى 45 شركة خاصة فى 9 مُحافظات    شهداء وجرحى في قصف للاحتلال على مخيم البريج ورفح بقطاع غزة    موعد عيد الأضحى المبارك 2024.. بدأ العد التنازلي ل وقفة عرفات    جوري بكر تعلن انفصالها بعد عام من الزواج: استحملت اللي مفيش جبل يستحمله    «جمارك القاهرة» تحبط محاولة تهريب 4 آلاف قرص مخدر    «المستشفيات التعليمية» تكرم المتميزين من فرق التمريض.. صور    بالصور- التحفظ على 337 أسطوانة بوتاجاز لاستخدامها في غير أغراضها    المقاومة الإسلامية في العراق تقصف هدفا إسرائيليا في إيلات بالطيران المسيّر    «المرض» يكتب النهاية في حياة المراسل أحمد نوير.. حزن رياضي وإعلامي    قافلة دعوية مشتركة بين الأوقاف والإفتاء والأزهر الشريف بمساجد شمال سيناء    كيف يمكنك حفظ اللحوم بشكل صحي مع اقتراب عيد الأضحى 2024؟    في اليوم العالمي ل«القاتل الصامت».. من هم الأشخاص الأكثر عُرضة للإصابة به ونصائح للتعامل معه؟    أوقاف دمياط تنظم 41 ندوة علمية فقهية لشرح مناسك الحج    حركة فتح: نخشى أن يكون الميناء الأمريكي العائم منفذ لتهجير الفلسطينيين قسريا    الاتحاد العالمي للمواطن المصري: نحن على مسافة واحدة من الكيانات المصرية بالخارج    سعر جرام الذهب في مصر صباح الجمعة 17 مايو 2024    «واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن والمرافق العامة» موضوع خطبة الجمعة اليوم    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    أحمد سليمان: "أشعر أن مصر كلها زملكاوية.. وهذا موقف التذاكر"    «الأرصاد»: ارتفاع درجات الحرارة اليوم.. والعظمى في القاهرة 35 مئوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لو لم يكن «نزار» موجودًا لاخترعناه

هناك شعراء وهناك نزار قبانى، فهو ذاك الشاعر النحات الرسام الذى ملك اللغة كما يشاء فطوعها كما أراد إنه فعلًا يرسم بالكلمات، فلم يتجرأ أحد على وباللغة كما فعل هو.
بين مدارس ومناهج شعرية كثيرة جاءت بعد مرحلة الموات الشعرى للدولة العثمانية بعصريها حسب التصنيف التاريخى، منها الدور الجليل لمحمود سامى البارودى وأحمد شوقى فى إحياء الحركة الشعرية من جديد وما بعدها من المدرسة الرومانسية ومدرسة المهجر وحتى قصيدة النثر والشعر الحلمنتيشى يبقى نزار كما هو له مدرسته «النزارية» لم تتداخل مع هذا أو تنتحل من ذاك.
اتخذ من الشعر درعًا وسيفًا، لم يعبأ بمحدودى الفكر ولم يتراجع قيد أُنملة عن قناعاته، فى العتاب كان حادًا، وفى الحب كان صادقًا، وفى اللوعةِ كان عاشقًا وفى السياسة كان صاحب قولة حق فى وجه كل سلطانٍ جائر، مزق الخطوط الحمراء وكسر أصنام التابوهات، فأنار دروبًا مظلمة، ومنح العقول هبة الشجاعة فى مدرسته المسماة بالمدرسة النزارية.
ربما يكون استدعاء قصيدة على محمود طه، «ميلاد شاعر»، تكون الرسم الحقيقى بالكلمات لنزار، يقول «طه»:
هبط الأرض كالشعاع السنيّ/ بعصا ساحر وقلب نبيّ .. لمحة من أشعّة الرّوح حلت/ فى تجاليد هيكل بشرى.. ألهمت أصغريه من عالم الحكمة والنّور كلّ معنى سريّ.
إذا علم، على محمود طه أن شعره يمتدح نزار لابتسم، ولو سمعها نزار لطرب.
من صنف نزار فى خانة «شاعر المرأة» فقط، إما حاسد أو جاهل أو لم يعرف من هو نزار قبانى، وهناك نية ربما بها شيء من الخباثة لحصر «نزار» فى خانة «شاعر المرأة» فقط، ويكون بذلك هناك نسيان أو تناسى لشخصية الشاعر السياسى والمقاوم والعروبى والمُجاهد، وتكفيه من القصائد - على سبيل المثال وليس الحصر- «خبز وحشيش وقمر»، «متى يعلنون وفاة العرب»، «هوامش على دفتر النكسة».
ما يميز نزار أنه كان منطلقًا من شعوره فقط لم ينظر للخلف، حتى وإن اشتد عليه الهجوم، لم يجد غضاضة فى الهجاء ثم العودة بالمديح لذلك الشخص، فلديه ثقة فيما يقول، ولذلك كان رده على المعترضين على ديوانه الأول حاسمًا، بعدما اتهمه البعض بأن شعره إباحى فرد على منتقديه بقوله:
«يقول عنى الأغبياء أنى دخلت مقاصر النساء وما خرجت/ ويطالبون بنصب مشنقتى لأنى عن شئون حبيبتى شعرًا كتبت/ أنا لم أتاجر مثل غيرى بالحشيش.. ولا سرقت ولا قتلت/ لكننى أحببت فى وضح النهار.. فهل ترانى كفرت»؟!
عنادية شخصيته جعلته يصر على ما بدأ، وليضرب من جديد بقصيدةٍ أكثر جرأة، فخرج بديوانه الثانى أكثر تحديًا بديوان عنوانه «طفولة نهد» وجاء بقصيدة «القبلة الأولى:
لمحت فى شفتيها طيف مقبرتي/ تروى الحكايات أن الثغر معصية/ حمراء.. إنك قد حببت معصيتي/ ويزعم الناس أن الثغر ملعبها/
فما لها التهمت عظمى وأوردتي؟.
 الصادق .. المنصف
وإذ يمضى نزار للمرأةِ مداعبًا ومغازلًا وناسجًا من أشعاره أبياتاً تصف ما لا يوصف، فوجئ بواقعٍ مرير، وهزيمة ساحقة وقوة عربية شامخة يفتخر بها وجدها تسحق على الأرض فى هزيمة 67، ليتحول صاحب الكلمات الرقيقة الذى يخاف على المشاعر من الهمس، إلى شاعرٍ يكتب بالسكين.
يا وطنى الحزين/ حوّلتَنى بلحظةٍ/ من شاعرٍ يكتبُ الحبَّ والحنين/ لشاعرٍ يكتبُ بالسكين/ لأنَّ ما نحسّهُ أكبرُ من أوراقنا/
لا بدَّ أن نخجلَ من أشعارنا.
ومن الخجل الذى شعر به انطلق يعدد عيوب العرب، ولاعنًا الهزيمة وأسبابها وشارحًا أسباب السقوط فى الوحل فجاءت رائعته السياسية هوامش على دفتر النكسة:
إذا خسرنا الحربَ لا غرابةْ/ لأننا ندخُلها.. بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابةْ/ بالعنترياتِ التى ما قتلت ذبابة/ لأننا ندخلها.. بمنطقِ الطبلةِ والربابةْ/ السرُّ فى مأساتنا/ صراخنا أضخمُ من أصواتنا/ وسيفُنا أطولُ من قاماتنا/ خلاصةُ القضيّةْ/ توجزُ فى عبارةْ/ لقد لبسنا قشرةَ الحضارةْ/ والروحُ جاهليّةْ/ بالنّايِ والمزمار/ لا يحدثُ انتصار.
«الهوامش» جرت عليه الويلات، فمُنع بسببها من دخول مصر، وصودرت مجلة الآداب البيروتية ومُنعت من دخول مصر، والحقيقة أن نزار بنفسه اعترف أنه كتبها فى حالة عصبية وأنه فيها فقد الرقابة على أصابعه، وكثير من الكُتاب كتبوا ضده وحرضوا على منعه من دخول مصر ومنهم صالح جودت وأنيس منصور وظلت الأمور متأزمة إلى أن كتب نزار رسالة إلى الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر يشرح فيها موقفه وما تعرض له وجاء نص الرسالة:
 سيادة الرئيس جمال عبدالناصر:
فى هذه الأيام التى أصبحت فيها أعصابنا رمادًا، وطوقتنا الأحزان من كل مكان، يكتب إليك شاعر عربى يتعرض اليوم من قبل السلطات الرسمية فى الجمهورية العربية المتحدة لنوعٍ من الظلم لا مثيل له فى تاريخ الظلم.
وتفصيل القصة أننى نشرت فى أعقاب نكسة الخامس من حزيران قصيدة عنوانها «هوامش على دفتر النكسة»، أودعتها خلاصة ألمى وتمزقى، وكشفت فيها عن مناطق الوجع فى جسد أمتى العربية، لاقتناعى أن ما انتهينا إليه لا يعالج بالتوارى والهروب، وإنما بالمواجهة الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا، وإذا كانت صرختى حادة وجارحة، وأنا أعترف سلفا بأنها كذلك، فلأن الصرخة تكون بحجم الطعنة، ولأن النزيف بمساحة الجرح.
من منا يا سيادة الرئيس لم يصرخ بعد 5 حزيران؟، من منا لم يخدش بأظافره؟
من منا لم يكره نفسه وثيابه وظله على الأرض؟
إن قصيدتى كانت محاولة لإعادة تقديم أنفسنا كما نحن، بعيدًا عن التبجح والمغالاة والانفعال، وبالتالي؛ كانت محاولة لبناء فكر عربى جديد يختلف بملامحه وتكوينه عن ملامح فكر ما قبل 5 حزيران.
إننى لم أقل أكثر مما قاله غيرى، ولم أغضب أكثر مما غضب غيرى، وكل ما فعلته أننى صغت بأسلوب شعرى ما صاغه غيرى بأسلوب سياسى أو صحفى.
وإذا سمحت لى يا سيادة الرئيس أن أكون أكثر وضوحًا وصراحةً، قلت إنى لم أتجاوز أفكارك فى النقد الذاتى، يوم وقفت بعد النكسة تكشف بشرف وأمانة حساب المعركة، وتعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
ليقتنع «عبدالناصر بما قال الشاعر ويرد عليه ردًا بالفعل أعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وكان الرد»:
1/ لم أقرأ القصيدة إلا فى النسخة التى أُرسلت إليّ، ولا أجد أى وجه من وجوه الاعتراض عليها.
2/ تُلغى كل التدابير التى قد تكون اتخذت خطأ بحق الشاعر ومؤلفاته والسماح بتداول القصيدة.
3/ يدخل الشاعر كما يريد ووقتما يريد ويُكرم.
هاجم النكسة والمتسبب فيها، إلا أن ذلك لم يمنعه من قولة الحق فقد كان اعتذاره تمسكًا بما جاء فى «هوامش على دفتر النكسة»، معترفًا فى الوقت ذاته بحدتها وشدتها، ومع ذلك حين مات عبدالناصر كان أول من كتب مرثية، منفعلة أيضًا، بث فيها أحزانه ناحتًا فيها بكلماته ألم فقد «ناصر».
قتلناك يا آخر الأنبياء/ قتلناك/ ليس جديدًا علينا/ اغتيال الصحابة والأولياء/ فكم من رسول قتلنا/ وكم من إمام ذبحناه وهو يصلى صلاة العشاء/ فتاريخنا كله محنة/ وأيامنا كلها كربلاء/ نزلت علينا كتابًا جميلاً/ ولكننا لا نجيد القراءة/ وسافرت فينا لأرض البراءة.
ولكننا ما قبلنا الرحيلا/ تركناك فى شمس سيناء وحدك/ تكلم ربك فى الطور وحدك/ وتعرى.. وتشقى.. وتعطش وحدك/ ونحن هنا نجلس القرفصاء/ نبيع الشعارات للأغبياء.
 العروبى
وجد نزار نفسه رئيس جمهورية الشعر فى الوطن العربى، فحمل لواء المدافعين عن الأرض والعِرض بالشعر، فهجا العرب حينما استكانوا ولم يخف فواجه أصحاب الفخامة والسمو والرؤساء والملوك، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بأن طلب إعلان وفاة العرب:
أنا منذ خمسينَ عامًا/ أحاولُ رسمَ بلادٍ/ تُسمّى - مجازا - بلادَ العربْ/ رسمتُ بلون الشرايينِ حينًا/ وحينًا رسمت بلون الغضبْ/ وحين انتهى الرسمُ، ساءلتُ نفسي/ إذا أعلنوا ذاتَ يومٍ وفاةَ العربْ/ ففى أيِ مقبرةٍ يُدْفَنونْ؟/ ومَن سوف يبكى عليهم؟/ وليس لديهم بناتٌ/ وليس لديهم بَنونْ/ وليس هنالك حُزْنٌ/ وليس هنالك مَن يحْزُنونْ.
كما هناك الغث هناك أيضًا السمين، فنزار هجا العرب مجتمعين فى الاستكانة، لكنه امتدح المقاومين منهم فى فلسطين وضد المحتلين فى كل البلاد العربية فقال عن أطفال غزة المقاومين:
علمونا كيف الحجارة تغدو/ بين أيدى الأطفال ماسا ثمينا
كيف تغدو دراجة الطفل لغما/ وشريط الحرير يغدو كمينا
كيف مصاصة الحليب إذا ما اعتقلوها تحولت سكينا
الأهم أنه كان عدوًا للتطبيع ورفضه بجميع صوره، لذلك كان هجومه على اتفاقية كامب ديفيد والرئيس الأسبق أنور السادات ضاريًا فأنشد فيه «يوميات بهية المصرية»:
كان اسمه/ كما يقال أنور السادات/ كان اسمه المأساة/ والعلم عند الله والرواة/ وكان يمشي/ خلف عبد الناصر العظيم/ مثل الشاة/ منحنيا.. منكسرا نصفين/ وشاحبا.. وصامتا.. وزائغ العينين/ وكان أقصى حلمه/ فى أول الثورة أن يهتم بالحقائب/ وأن يقول للرئيس آخر النكات/ كنا نراه دائمًا/ يجلس فى سيدنا الحسين/ يستغفر الله/ ويتلو سورة الرحمن/ كنا نظنه أنه يرتل القرآن/ لكنه فاجأنا... وأخرج التوراة/ كنا نظن أنه/ سيدخل القدس على حصانه/ ويستعيد المسجد الأقصى من الأسر/ ويدعو الناس للصلاة/ لكنه فاجأنا/ وسلم الأرض من النيل إلى الفرات/ هل أصبحت راشيل فى تاريخنا خديجة؟/ وصار موسى... أنور السادات/ ويا للعجب.
 مآسى
من رحم المعاناة يولد الإبداع، فشاعر الحب الذى نتغنى بأشعاره، أكثر من فقد محبيه وأقرب المقربين إليه، بدأت بالأخت ثم الزوجة فالابن، لذلك كان إن لم يحزب يشعر بخوفٍ ممزوجٍ بالغضب.
أول الأحزان التى عاشها نزار كان موت شقيقته «وصال»، والتى قال عن حادثة انتحارها «صورة أختى وهى تموت محفورة فى دمى»، ووصال كانت قد انتحرت بعدما رفضت عائلتها تزويجها من حبيبها، وربما يكون صدق الحب الذى رآه من وصال هو صدق التجربة والعاطفة فى أشعاره، وكأنه قد جعل الحب ووفاءه مبتغاه:
كونى واثقة سيدتي/ سيحبك آلاف غيري/ وستستلمين بريد الشوق/ لكنك لن تجدى بعدي/ رجلًا يهواك بهذا الصدق/ لن تجدى أبدًا/ لا فى الغرب ولا وفى الشرق.
ربما ما وجده من وصال جعله يحمل على عاتقه مبدأى الإخلاص والصدق فى العلاقة:
إن كنت تعرفين/ رجلًا يحبك أكثر مني/ فدلينى عليه لأهنئه/ وأقتله بعد ذلك.
المأساة الثانية له كانت فى وفاة ابنه توفيق، طالب الطب الذى تمناه وتحقق حلمه فيه، لكنه توفى فى ريعان الشباب 22 عامًا، ولازمه الحزن من حينها وعبر عنها شعرًا ونثرًا وأوصى بأن يُدفن بجواره بعد موته ويقول عن موته «مات ابنى توفيق فى لندن، توقف قلبه عن العمل كما يتوقف قلب طائر النورس عن الضرب، عمره اثنتان وعشرون سنة وشعره كلون حقول القمح فى تموز، كان توفيق أميرًا دمشقيا جميلًا، كان طويلا كزرافة، وشفافًا كالدمعة، وعالى الرأس كصوارى المراكب».
إن رحيل توفيق المفاجئ أكد لى حقيقة لم أكن أعرفها، وهى أن الصغار أشجع منا وأكثر منا قدرة على فهم طبيعة رحلة الموت.
الشجاعة التى حكى عنها نزار للشباب وجدها فى قدرة توفيق على العيش رغم معرفته أن الموت قد اقترب ولم يتبق سوى ساعات أو ربما سويعات، ويستدعى نزار بعض المواقف المثيرة للشجن، فقبل أن يموت توفيق بأيام قال لأخته هدباء التى سافرت معه إلى لندن: أتعرفين يا هدباء ماذا أريد أن أفعل؟ إننى سآتى بسيارتى من القاهرة وأبيعها فى لندن وأعيش الحياة طولًا وعرضًا، وعندما قالت له هدباء: وإذا أوشكت فلوس السيارة على الانتهاء ماذا عساك أن تفعل؟ أجابها على الفور: لا تخافى سأموت أنا والسيارة معا!
ويحكى قائلا: «ذات يوم كنت أتمشى مع توفيق فى أكسفورد ستريت، ورأينا فى إحدى الواجهات قميصا أزرق من النوع الذى يُعجب توفيق فقلت له: ما رأيك فى أن نشتريه؟ قال ولماذا الاستعجال؟ إن القميص سيبقى لكن هل سأبقى أنا»؟.
 ورثاه بأبيات بديعة قال فيها:
مكسرة كجفون أبيك هى الكلمات/ ومقصوصة كجناح أبيك هى المفردات/ فكيف يغنى المغني؟/ وقد ملأ الدمع كل الدواة/ وماذا سأكتب يا بني؟/ وموتك ألغى جميع اللغات/ لأى سماء نمد يدينا؟/ ولا أحدا فى شوارع لندن يبكى علينا/ يهاجمنا الموت من كل صوب/ ويقطعنا مثل صفصافتين/ فأذكر، حين أراك، عليا/ وتذكر حين ترانى، الحسين/ أشيلك، يا ولدى، فوق ظهري/ كمئذنة كسرت قطعتين/ وشعرك حقل من القمح تحت المطر/ ورأسك فى راحتى وردة دمشقية/ وبقايا قمر أواجه موتك وحدي/ وأجمع كل ثيابك وحدى وألثم قمصانك العاطرات/ ورسمك فوق جواز السفر/ وأصرخ مثل المجانين وحدي/ وكل الوجوه أمامى نحاس/ وكل العيون أمامى حجر فكيف أقاوم سيف الزمان؟/ وسيفى انكسر.
المأساة الثالثة لنزار كانت فى وفاة زوجته الثانية التى أحبها بجنون «بلقيس»، والتى استشهدت فى تفجير السفارة العراقية ببيروت 1982، ويقول عن ذلك نزار: «كنت فى مكتبى بشارع الحمراء حين سمعت صوت انفجار هزنى من الوريد إلى الوريد، ولا أدرى كيف نطقت ساعتها: يا ساتر يا رب، بعدها جاء من ينعى إلىَّ الخبر، السفارة العراقية نسفوها، قلت بتلقائية بلقيس راحت، شظايا الكلمات ما زالت داخل جسدى، أحسست أن بلقيس سوف تحتجب عن الحياة إلى الأبد وتتركنى فى بيروت ومن حولى بقاياها، كانت بلقيس واحة حياتى وملاذى وهويتى وأقلامى».
وكتب نزار قصيدة من أطول المرثيات التى نظمها يقول فى مطلعها:
«شكرا لكم/ شكرا لكم/ فحبيبتى قتلت/ وصار بوسعكم/ أن تشربوا كأسا على قبر الشهيدة/ وقصيدتى اغتيلت/ وهل من أمةٍ فى الأرض/ -إلا نحن - نغتال القصيدة؟».
 براءة
أكثر اللائمين على «نزار» يتهمونه بالتناقض، بحجة أنه أنشد «طفولة نهد»، و«مدرسة الحب» وأيضًا أنشد «هوامش على دفتر النكسة»، و«يوميات بهية المصرية»، والحقيقة أنه هذا أبعد ما يكون عن التناقض إنما هو حالة من التجويد الشعرى التى لم يصل لها إلا قلائل فى كل العصور ومنهم عنترة بن شداد الذى أنشد وإذا الكَتيبة ُ أحْجَمتْ/ وتلاحظَتْ ألفيتُ خيراً منْ معمَّ مخول
والخيلُ تَعلمُ والفَوارسُ أنني/ فرَّقْتُ جمعهم بطعنة فيصل.
وأنشد فى الغزل أيضًا:
ولولا حب عبلة فى فؤادي/ مقيم ما رعيت لهم جمالا - فهل تناقض عنترة أيضًا؟
الأمر ذاته كان عند بشار بن بُرد الأعمى الذى وصف المعارك والقتال أفضل مما يصفها المبصرون فقال:
بضربٍ يذوق الموت من ذاق طعمه/ وتدرك من نجى الفرار مثالبه
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا/ وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وبعد ذلك أنشد فى خادمته يمتدحها ويحفزها قائلاً:
ربابة ربة ُ البيت/ تصب الخل فى الزيت
لها عشر دجاجاتٍ/ وديك حسن الصوت
وقد رضيت بذلك بل ربما أنها طربت له، ورد على منتقديه بأن كل قولٍ فى موقعه ولا تناقض فى ذلك، إذن فاتهامات نزار إنما لأنه بلغ مرحلة من التجويد لم يبلغها غيره فى عصره.
 الرحيل
بعد المآسى التى عاشها لم يكن من حقه أن يخاف الموت فهل بعد فقد الأخت والابن والحبيبة يمكن أن يهاب الشجاع الموت؟! بالطبع لا، لذلك وصف الموت بأنه صديقه، لذلك اختار نزار أن يرحل مع صديقه فى أبريل 1998، بعدما اكتفى ب75 عامًا من الإبداع.
وطلب فى وصيته أن يدفن فى محبوبته دمشق التى علمته الشعر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.