سألت صديقى وشريكى مصطفى بركة عن الأرباح التى حققتها «مدرسة المشاغبين» بعد طرح المصروفات.. فقال لى إن الرواية لم تحقق أرباحا، وأنه ليس هناك فلوس لديه على الإطلاق، فقلت له كيف وعدد ليالى العرض (68) ليلة والإيراد اليومى كامل العدد بدخل ثابت 450 جنيهًا فى الليلة الواحدة.. ولكن «بركة» أقسم لى أنه لا يتحكم فى مليم واحد من إيرادات المسرحية وكل قرش تم صرفه. ولم أكن فى هذا الوقت أملك «قرش صاغ واحد» واتصلت بالمنتج إيهاب الليثي- رحمه الله- وطلبت منه مبلغا من المال لسداد التزاماتى فى فندق الإسكندرية وصحبت أحمد زكى ويونس شلبى وغادرنا إلى القاهرة، وفى اليوم التالى اتصلت بالمحامى الأستاذ بولس وأخذت معى الأساتذة جلال الشرقاوى وعبدالله فرغلى وعلى سالم وتوجهنا إلى منزل مصطفى بركة الذى كان يتولى الشئون المالية وكان الرجل متزوجا من فنانة كوميدية شهيرة وشابة وكان الزواج سريًا، ومن سوء الطالع أننا ذهبنا فى وقت علمت فيه الزوجة الأولى له بخبر زواجه فتواكب وصولها إلى عش الزوجية الجديد مع نفس التوقيت الذى ذهبنا فيه وقابلنا الرجل وكان موقفه محرجا للغاية وأعصابه متوترة جدا، وقدم له المحامى إقرارا بالتنازل عن الشراكة من فرقة الفنانين المتحدين، وحرص الفنان حسن مصطفى على أن يحتفظ لنفسه بهذه الورقة وظلت معه حتى توفاه الله.. ولأن ظروف مصطفى بركة كانت سيئة للغاية فى توقيت زيارتنا.. فهو لم يجادل أو يمتنع أو يناقش.. وأراد أن يتخلص منا بأسرع وقت حتى لا نشهد ما سوف يحدث، وفى اليوم التالى.. أفاق مصطفى بركة من هذه الكارثة التى حلت به وقام بالاتصال بالفنان حسن مصطفى وحاول أن يتنصل مما جرى بالأمس باعتبار أنه لم يكن فى حالة طبيعية وأن موافقته على الطلب جرت فى ظروف غير اعتيادية، ولكن وجود الشهود والمحامى كان كفيلاً بأن يصبح الموضوع قانونيا. وبدأت أستعد للعمل المسرحى القادم وكنا قد انتهينا من كتابة عرضين وكانت رواية «وكالة نحن معك» قد انتهينا من كتابتها وعُهدت للمخرج الكبير كرم مطاوع.. لأننى كنت مشغولا لشوشتى بالعرض الآخر «قصة الحى الغربي» وكان المفترض عرض رواية نعمان عاشور فى مسرح كوتة بالإسكندرية وعندما ذهبت للقاء كرم مطاوع والاطلاع على استعدادات العرض وجدت الفنان كرم مطاوع يقول لى بأن هناك عقبات ضخمة لعرض «وكالة نحن معك».. واندهشت وقلت عقبات إيه.. فقال هناك اكسسوارات ناقصة.. قلت له إنت بتتكلم جد؟ وبكل جدية قال: نعم عاوز فردة كاوتش يا سمير.. فقلت له: «كدة إنت بتهزر أكيد يا كرم» فقال: بالعكس أنا بأتكلم بكل جدية يا سمير، فخرجت وناديت على السائق وقلت له هات فردة الكاوتش الاستبن بسرعة.. ومنحت الفردة الكاوتش لكرم مطاوع.. وقلت له اتفضل افتح الرواية بقى.. «مالكش حجة» أظن دلوقتى وغادرت المسرح وأعصابى محترقة. وتم افتتاح الرواية فى النصف الثانى من شهر سبتمبر وهو موعد قاسٍ جدا للحكم على أى عمل مسرحى، بالإضافة إلى أن الموضوع نفسه الذى كتبه الأستاذ نعمان عاشور كان عبارة عن اسكتشات افتقدت وحدة الموضوع وبالطبع لم يكن هناك من يجرؤ على تعديل نص للكاتب الكبير، وهكذا كُتب للرواية أن تفشل حتى قبل أن يبدأ عرضها، وأعتقد أن المخرج الكبير كرم مطاوع كان داخله إحساس ويقين بأن هذا العمل سوف يخاصم النجاح، ولذلك تحجج بحكاية فردة الكاوتش التى ليست سببا على الإطلاق لتعطيل عمل مسرحى وكانت هذه الرواية هى نهاية أعمال نعمان عاشور مع مسرحنا وأيضا كانت آخر رواية للشراكة بينى وبين مصطفى بركة. وبرغم الفشل والخسارة المادية أحسست بأن هناك غمًا عظيمًا انزاح من على صدرى وقلبى، فقد أصبحت حرا فى أن أعمل ما أحب دون أن يتدخل أحدهم فى العملية الفنية أو المادية.. وهكذا تخلصت من بركة ومن رواية «وكالة نحن معك» وتفرغت تماما من أجل إنهاء كل عقبات عرض «قصة الحى الغربي» وأُسند الإخراج إلى الفنان الكبير جلال الشرقاوى وتم توزيع الأدوار.. حسن يوسف وزوجته فى تلك الأيام لبلبة وعادل إمام وسعيد صالح وصلاح السعدنى وأحمد زكى ونعيمة وصفى وهادى الجيار وسهير البابلى وسيد زيان.. وكانت رواية عبقرية، فقد استطاع بهجت قمر وأنا أن نضفى الروح المصرية على النص الأصلى.. واستعرضنا التناقض الحاد بين حيين يفصلهما كوبرى «حى بولاق» و«حى الزمالك» وكان المخرج الكبير جلال الشرقاوى موفقا جدا وبشكل رائع فى إدارة هذا النص فنيا وكان لوجود نجوم كبار من أمثال حسن يوسف ولبلبة أن ساهم فى إثراء أفيش هذا العمل المسرحى، كانت الموسيقى لايف.. فلم نلجأ إلى التسجيل كما كان متبعا فى هذه الأيام وكانت الموسيقى من تأليف الموسيقار الكبير على إسماعيل. والحق أقول إنه بعد انفصال أبطال المتحدين الكبار فؤاد المهندس وشويكار أحسست أن هناك عملاً شاقًا ينتظرنى، خصوصا بعد أن كون الثلاثى محمد عوض والمهندس وشويكار «الكوميديا المصرية» على غرار «الكوميديا الفرنسية»، وبالطبع كان هذا التجمع يستهدف منافسة «المتحدين والقضاء عليها.. ولهذا كان عليَّ أن أعمل بكل همة وجد من أجل الفوز بهذا الصراع فقد اعتمدت بشكل عملى على شباب المتحدين عادل إمام وسعيد صالح بشكل رئيسى ومعهما يونس شلبى والسعدنى وأحمد زكى وسهير البابلى وصحيح أننى أخفقت كثيرا وحدثت لى كبوات خطيرة مثلا مسرحية «حصة قبل النوم» بلغ إيرادها اليومى (37) جنيها فقط لا غير رغم كل ما صرفته من أموال لكى ترى النور وكان هذا يمثل كارثة كبرى كفيلة بالقضاء على أى منتج مسرحى، فقد أثر انسحاب فؤاد المهندس على إيرادات الفرقة وكان هناك شبح الفشل يطاردنى.. وقررت أن أقامر بهؤلاء الشباب مهما كلفنى الأمر. ونتيجة لهذا القرار الجريء.. تراكمت على رأسى الديون واضطررت لسحب أموال طائلة وبفائدة مضاعفة من بعض «المعارف» مع شديد الأسف ولكن كله يهون من أجل مواصلة المهمة المقدسة حتى جاءت مسرحية «وداعا يا شلبي» والتى كتبتها بالاشتراك مع الراحل الفنان الكبير الكاتب يوسف عوف وقام بإخراجها الأستاذ مدبولى وكانت أول رواية أقدمها بدون فؤاد المهندس وتحقق أرباحا جيدة ولكن الأرباح لم تكن تكفى لسداد الديون الرهيبة.. المهم أن العجلة بدأت تسير وتدور فى الاتجاه الصحيح ولكن هذه الرواية كان لها معى قصة غريبة بعض الشيء.. تستحق أن تُروى، وأولا أود أن أعترف بأننى لم أشعر بأية عاطفة تجاه الرئيس جمال عبدالناصر من اليوم الأول لظهوره فهو ضابط جاء على ظهر دبابة ليحكم بلدًا كان يعيش حياة سياسية تشبه الملكيات الغربية خصوصا البريطانية منها فكنت من هذا الجيل الذى تربى فى ظل تعدد الأحزاب وصحف المعارضة والصحف المستقلة وأسرة ملكية كانت صاحبة طقوس أدهشتنى وجعلتنى من المحبين لها، ففى رمضان مثلا كان قصر عابدين يزدان بالزينات وتقام سرادقات رهيبة أمام القصر وحوله وهناك مأدبة رمضانية لم أر لها مثيلاً فى حياتى الدعوة فيها مفتوحة لجميع أبناء الشعب المصرى من مختلف طبقاته.. وكان البعض يذهب فقط لمجرد مشاهدة الملك فاروق الذى كان حريصا على الإفطار وسط الناس فى المأدبة الرمضانية، وفى عصر هذا الرجل خرجت أعداد من المبدعين والنابهين لا حصر لها، فى دولة القراءة ظهرت إلى النور كل الكوكبة الرائعة من قراء القرآن الكريم الذين لم نشهد لهم مثيلا وأنتجت السينما المصرية فى العهد الملكى أجمل أفلامها، بالإضافة إلى أن القاهرة نفسها كانت واحدة من أجمل العواصم على مستوى العالم.. وكان الكتاب يصدر فى نفس التوقيت فى باريس ولندن والقاهرة والموضة أيضا كانت لابد أن يكون للقاهرة السبق فى عرض كل ما هو جديد من صيحات.. ولم يكن الملك كما صوره البعض صورة مشوهة تبتعد عن الحقيقة فقد كان الرجل محبوبا بشكل غير طبيعى ولكن ومع الأسف بعض سلوكيات الملك ساهمت فى خصم رصيد كبير من هذا الحب الجارف.. والعرش الملكى افتقد الوريث من الرجال.. فقد كانت كل ذرية الملك من البنات وحتى عندما جاء الوريث المنتظر لم يمهله القدر كثيرا فقد قامت ثورة 23 يوليو وانتهى الحلم الملكى وانتهت أسرة محمد على الأسرة التى أضافت إلى مصر الكثير، أما بالنسبة لاحتضان الملك للفنون.. فقد كان الأمر بالفعل يستحق الثناء والتقدير فهو راع للفن ولأهله وكان للآنسة أم كلثوم وضع خاص فى عصر الملك فاروق، فهو حريص دائما على حضور كل حفلاتها وقد كرمها الملك ومنحها وسام الكمال وستجد الشيء نفسه يتكرر فى عصر الرئيس جمال عبدالناصر وقد كان ناصر يسير على عكس طريق الملك فاروق إلا فيما يتعلق بالفنون فكان يسير فى نفس الاتجاه فأصبح وضع أم كلثوم وعبدالوهاب للأفضل وكانت لهما سلطة تفوق أى فنان فى أى بلد آخر. ولعلى لا أزال متأثرا حتى هذه اللحظة بمكانة الملك فاروق وعصره، حيث كانت الفخامة تتبعه أينما سارت مواكبه الملكية التى كانت تضاهى مواكب الملك البريطانى وعرشه وبرلمانه وحفلاته ورحلاته.. كانت صورة رائعة تشع بالثراء والذوق والرقى وهى تعكس حقيقة الوضع فى مصر الملكية واقتصادها القومى وعملتها التى كانت وسط عملات الكبار. ومع الأسف الشديد أنا لم أتمكن من نيل الفرصة للعمل فى العصر الملكى والحصول على فرصة للإبداع والظهور إلا فى عصر الرجل الذى اتخذت منه موقفا منذ اليوم الأول لمجيئه الذى شهد عصره تكبيلا للحريات وإلغاء للأحزاب ومصادرة للصحف وفرض تنظيم سياسى واحد غير مسموح لغيره بممارسة العمل العام وفى ظل احتكار الدولة لجميع وسائل الإنتاج بما فيها الإنتاج الثقافى والفنى أشهد أننى لم أجد عقبات خطيرة فى طريقى بل إن هناك من المسئولين فى الدولة من مهدوا لى الطريق وسهلوا لى الأمور وأنا أصارع أفكارهم الاشتراكية وأعادى احتكارهم لكل الصناعات وكل الإنتاج. فقد كان القطاع العام هو الدينامو المحرك لكل الأمور فى البلاد وأعترف لحضراتكم أننى بقيت على حال الخلاف مع جمال عبدالناصر ولكن بمجرد أن مات الرجل وانتقل إلى رحمة الله وقد عاصرت من بعده عهودا أخرى أشهد أننى أدركت قيمة جمال عبدالناصر الزعيم والإنسان.. الرجل الذى شهد المسرح المصرى فى عصره أزهى وأخطر تجاربه وعروضه وأفكاره.. نعم كانت هناك حركة مسرحية رائدة فى عصر هذا الرجل لم نشهد لها مثيلا.. كل نجوم المسرح العظام ظهروا فى عهده فقد كان ناصر صاحب حلم وصاحب فكر وله مواقف وعنده حماس ولديه رغبة حقيقية لتحقيق الحلم ولا أخفى أننا جميعا تأثرنا بحلمه ولكن بعد 67 انكسر كل شيء حتى ناصر نفسه وتحول الحلم إلى كابوس.