مجانا.. قوافل بيطرية لعلاج مواشي صغار المربين مجانا بسوهاج    خبير اقتصادي: خطط طموحة لرفع الناتج المحلي الإجمالي 70٪ عام 2027    أسعار الحج السياحي والجمعيات الأهلية 2024    "العاصمة الإدارية الجديدة" تستقبل نائب رئيس مجلس الوزراء البحريني ورئيس البرلمان العربي    جامعة جنوب كاليفورنيا تحظر الدخول لغير طلاب السكن الجامعى بسبب المظاهرات    إعلام عبري: مقتل 3 جنود إسرائيليين وإصابة 11 آخرين في كمين بوسط غزة    للمرة ال22.. الأهلي بطلا لكأس مصر للكرة الطائرة على حساب الزمالك    حدد الأسماء.. سبورت: بايرن يشترط إجراء صفقة تبادلية مع برشلونة لرحيل كيميتش    انطلاق امتحانات الفصل الدراسي الثاني لسنوات النقل الثانوي بالمعاهد الأزهرية    "جمعت بين زوجين".. كيف دفعت "حسناء أكتوبر" حياتها ثمنًا لإشباع نزواتها؟    بوسي تتألق بفستان أحمر في أحدث ظهور لها والجمهور يعلق    عمرو أديب: مصر لن تكون بيئة خصبة لوظائف البرمجة دون توافر للإمكانيات    نشرة منتصف الليل| أمطار على هذه المناطق.. وتوجيه لشاغلي العقارات المتعارضة مع القطار الكهربائي السريع    سامي مغاوري يتحدث عن حبه للتمثيل منذ الصغر.. تفاصيل    3 حالات لا يجوز فيها الإرث شرعًا.. يوضحها أمين الفتوى    الكشف المبكر عن سرطان الكبد.. أسترازينيكا مصر: فحص 30 مليون مصري بحلول عام 2030    محافظ بني سويف يلتقى وفد المجلس القومي لحقوق الإنسان    تريزيجيه يصنع في فوز طرابزون برباعية أمام غازي عنتاب    وظائف خالية ب الهيئة العامة للسلع التموينية (المستندات والشروط)    منة فضالي: اكتشفنا إصابة والدتي بالكانسر «صدفة»    انقطاع خدمات الاتصالات والإنترنت في قطاع غزة    محمد أبو هاشم: حجاج كثر يقعون في هذا الخطأ أثناء المناسك    في أحد الشعانين.. أول قداس بكنيسة "البشارة" بسوهاج الجديدة |صور    صحة الإسماعيلية تنظم قافلة طبية مجانية ضمن مبادرة حياة كريمة    محافظ الدقهلية: دعمي الكامل والمستمر لنادي المنصورة وفريقه حتي يعود إلي المنافسة في الدوري    فرقة بني سويف تقدم ماكبث على مسرح قصر ثقافة ببا    تحذيرات عاجلة لهذه الفئات من طقس الساعات المقبلة.. تجنبوا الخروج من المنزل    امتحانات الفصل الدراسي الثاني.. نصائح لطلاب الجامعات ل تنظيم وقت المذاكرة    دعاء راحة البال والطمأنينة قصير.. الحياة مع الذكر والقرآن نعمة كبيرة    بعد عامين من انطلاقه.. «محسب»: الحوار الوطني خلق حالة من التلاحم والتوافق بين أطياف المجتمع المصري    أون لاين.. خطوات إصدار بدل تالف أو فاقد لبطاقة تموين 2024    منها تناول السمك وشرب الشاي.. خطوات هامة للحفاظ على صحة القلب    جدول امتحانات الصف الأول الإعدادي بمحافظة الأقصر    التشكيل الرسمي للمقاولون العرب وسموحة في مباراة الليلة    بروتوكول بين إدارة البحوث بالقوات المسلحة و«التعليم العالي»    «حرس الحدود»: ضبط كمية كبيرة من الأسلحة والذخائر قبل تهريبها    إعلام عبري: 30 جنديًا بقوات الاحتياط يتمردون على أوامر الاستعداد لعملية رفح    فيلم «شقو» ل عمرو يوسف يتجاوز ال57 مليون جنيه في 19 يوما    الرئيس العراقي خلال استقباله وزير الري: تحديات المياه تتشابه في مصر والعراق    تأجيل إعادة إجراءات محاكمه 3 متهمين بفض اعتصام النهضة    حجازي: مشاركة أصحاب الأعمال والصناعة والبنوك أحد أسباب نجاح التعليم الفني    مستشفيات جامعة بني سويف تستقبل مرضى ومصابي الحرب من الأشقاء الفلسطنيين    وزير الصحة يشهد الاحتفال بمرور عامين على إطلاق مبادرة الكشف المبكر وعلاج سرطان الكبد    رئيس هيئة الدواء يبحث سبل التعاون لتوفير برامج تدريبية في بريطانيا    القوات المسلحة الأردنية تنفذ 6 إنزالات إغاثية جوية على شمال قطاع غزة بمشاركة دولية    سفير روسيا بمصر للقاهرة الإخبارية : علاقات موسكو والقاهرة باتت أكثر تميزا فى عهد الرئيس السيسى    «رجال الأعمال المصريين» تدشن شراكة جديدة مع الشركات الهندية في تكنولوجيا المعلومات    زعيم المعارضة الإسرائيلية: حكومة نتنياهو في حالة اضطراب كامل وليس لديها رؤية    موعد مباريات اليوم الثالث بطولة إفريقيا للكرة الطائرة للسيدات    بصلي بالفاتحة وقل هو الله أحد فهل تقبل صلاتي؟..الإفتاء ترد    تأجيل محاكمة 11 متهمًا بنشر أخبار كاذبة في قضية «طالبة العريش» ل 4 مايو    اعرف مواعيد قطارات الإسكندرية اليوم الأحد 28 أبريل 2024    قضايا عملة ب 16 مليون جنيه في يوم.. ماذا ينتظر تُجار السوق السوداء؟    خلال افتتاح مؤتمر كلية الشريعة والقانون بالقاهرة.. نائب رئيس جامعة الأزهر: الإسلام حرم قتل الأطفال والنساء والشيوخ    البوصلة    إعلان اسم الرواية الفائزة بجائزة البوكر العربية 2024 اليوم    موعد مباراة نهضة بركان واتحاد العاصمة في إياب نصف نهائي الكونفدرالية    حسام غالي: «شرف لي أن أكون رئيسًا الأهلي يوما ما وأتمناها»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبيد فى صعيد مصر

يبدو السؤال عن وجود بقايا للرق فى مصر صادما ومربكا والإجابة عنه معقدة إلى حد كبير.. فى صعيد مصر تبقى تقاليد دفعت البعض للاعتقاد بأن الظاهرة لم تنعدم تماما، وإن كان بقاؤها قد اتخذ صيغة مختلفة عن الشكل المعتاد للرق تاريخيا، بعد أن تم تحريم العبودية فى مرحلة مبكرة من تاريخ مصر الحديث، كل ما يصل إلى العاصمة والمدن الكبرى عن بقايا العبيد فى مصر ظل حبيسا فى دائرة الحكايات والقصص المسلية التى لا وجود لها على أرض الواقع، حتى قررنا أن نتقصى الأمر ونتلقف طرف الخيط للتأكد من حقيقة الأمر، وكانت البداية من صعيد مصر.
فى القطار المتجه لأسيوط إحدى أكبر محافظات مصر والتى تبعد عن العاصمة مسافة 500 كيلو متر، توالت الاتصالات بيننا وبين «عابد» أحد أبناء المحافظة وحلقة الوصل بيننا وبين عدد من العبيد المتواجدين بقريتى أولاد محمد وصدفا التابعتين لمحافظة أسيوط، كنا ننسق ونخطط بحذر لطريقة نستطيع من خلالها إبعاد مجموعة من العبيد المملوكين لعدد من العائلات الكبرى بالمحافظة الأكثر فقرا فى مصر - طبقا لإحصائيات وزارة التضامن الاجتماعى - عن منازل العائلات التى تملكهم كى نستطيع الحديث معهم بأريحية، فكما أبلغنا مصدرنا أن ثمة مخاطر قد تداهمنا إذا نما إلى علم أفراد العائلات المالكة للعبيد أن هناك نية لدينا لإجراء لقاءات صحفية معهم.
توصلنا فى النهاية إلى صيغة جيدة، سيقوم «عابد» بجمع العبيد المتاح مقابلتهم فى منزله بقرية «الغنائم»، فى فترة الظهيرة حيث يذهب العبيد فى هذا التوقيت لقضاء طلبات تخص بيوت العائلات الكبرى، واشترط «عابد» ألا تستمر المقابلة معهم أكثر من ساعة على أقصى تقدير.
فى حوالى التاسعة صباحا وصل قطار القاهرة أسيوط آخر محطاته، لنصبح فى قلب المدينة القديمة.
دقائق وكنا داخل سيارة ميكروباص وصلت بنا إلى قرية الغنائم التى تبعد عن أسيوط حوالى 20 كيلومتراً، وبجوار محمد عبدالعال - 29 عاماً - السائق الأسيوطى جلست أحاول جذب أطراف الحديث ودار بيننا هذا الحوار.
- يقولون أن هناك بقايا للعبيد الأحباش فى أسيوط، هل سمعت شيئا عن هذا الأمر؟
ابتسم «عبدالعال» وناولنى باقى الأجرة وأشعل سيجارته الرخيصة وقال بخبث متوقع «كلنا عبادالله، لا تصدق كل ما يقال لك، لماذا تسأل عن العبيد؟».
لحظة تفكير، قبل أن أقول:
- مجرد دردشة، أردت التأكد فقط مما قاله لى صديق من أبوتيج، أخبرنى ذات مرة أنه من عائلة كبيرة ومازال لديهم عبيد.
- شوف يا أستاذ، الحقيقة أن العبيد الموجودين فى أسيوط وسوهاج أقل بكثير مما تتوقع، لكنهم موجودون، وهو أمر لا يفضل أهل أسيوط الخوض فيه، فلا تسأل عنه كثيرا، هذه «حرمة بيوت».
وزارة التضامن الاجتماعى نفت على لسان إبراهيم كمال المدير العام بالوزارة أن يكون لها علم بأن هناك عبيداً مازالوا يتوارثون فى مصر وأبدى اندهاشه بأنه يسمع هذا الكلام للمرة الأولى.
عادل سعد - روائى ومؤرخ اجتماعى ورئيس مركز التراث التابع لدار الهلال وأحد أبناء محافظة أسيوط - يقول: «قديما كانت أسيوط معبرا مهما للقوافل التجارية القادمة من قلب أفريقيا وحتى السواحل المصرية وصولا لأوروبا وآسيا، وكانت أسيوط بمثابة «ترانزيت» للقوافل المستمرة على مدار العام، لذا ارتبطت المحافظة المصرية القديمة ارتباطا وثيقا بتجارة العبيد الأفارقة الذين جلبتهم القوافل التجارية من بلادهم لبيعهم فى دول أخرى، ولذلك تأسست وكالات الرق فى القرون الوسطى بأسيوط لتسهيل التجارة فى العبيد، ومازالت هذه الوكالات أو بقاياها بمعنى أدق موجودة حتى الآن كأثر تاريخى من أهم معالم أسيوط.
وفى منتصف القرن التاسع عشر صدر فرمان من الخديوى إسماعيل بتحريم تجارة الرق ومنعها فى ربوع مصر، وتسبب هذا الفرمان فى صدمة لدى المجتمع المصرى آنذاك، وحاولت العائلات الكبيرة التى تمتلك عبيداً التصدى لهذا الفرمان والتحايل عليه، حتى لا يضطروا للاستغناء عن العبيد الذين تداخلوا مع أسرهم وعرفوا أسرار هذه العائلات، وكان إطلاق سراحهم بمثابة إعلان لأسرار هذه العائلات وفضحها أمام الجميع، كما أن معظم العبيد لم يستجيبوا لهذا الفرمان، وخافوا من التشرد والبطالة فى حال تركوا منازل العائلات الكبرى، فقرروا البقاء بنفس الوضع، لحين إشعار آخر، مع توقف حركة بيع وشراء الرق تماما، وظلت العائلات الكبرى فى صعيد مصر تتوارث العبيد على مدار قرن ونصف القرن فى هدوء شديد ودون صخب كى لا يصطدموا بالقوانين التى تجرم الاستعباد».
العبيد الموجودون حتى الآن فى محافظات صعيد مصر لا يمكن حصر أعدادهم، خصوصا فى ظل عدم اعتراف الدولة بوجود هذه الظاهرة حتى الآن، لكن ما يؤكده «سعد» أن الأعداد أصبحت قليلة جدا، بضعة مئات على أقصى تقدير، ومعظمهم تخطوا الخمسين عاما، أما الأبناء فقرروا التخلى عن هذا الإرث المكروه بالنزوح إلى العاصمة والمدن الكبرى فى محاولة لمحو آثار الماضى.
د.منال زكريا أستاذ علم النفس الاجتماعى بكلية الآداب جامعة القاهرة تقول: إن الأعداد المتبقية من العبيد فى صعيد مصر قليلة جدا ولا يوجد حصر واضح لأعدادهم، وأن بقايا هذه الظاهرة القديمة موجودة حتى الآن فى محافظات «أسيوط وسوهاج وقنا والمنيا وأسوان»، ولا وجود لها فى باقى محافظات مصر كما أشاع البعض، وأن العبيد الموجودين حتى الآن تعود أصولهم إلى الحبشة.
وعن أسيوط نطاق بحثنا أكد زيدان العلمى رئيس مؤسسة العالم لحقوق الإنسان ومقرها أسيوط أن معظم مراكز المحافظة لا تخلو من عائلات لديها عبيد، ويتركز وجود هذه العائلات فى مراكز البدارى وصدفا وأبنوب وساحل سليم والغنائم وديروط.
هنا مضيفة «عابد» - أحد عمال البناء بأسيوط - بقرية «الغنائم»،
وهى عبارة عن ساحة مربعة خالية من أى شيء تقريبا سوى حصيرة ملونة ذات نقوش مميزة والنرجيلة وسخان كهربائى صغير لزوم الشاى.
مضيفة «عابد» هى ملتقى ليلى للسمر والمزاج وجلسات الضحك، وفى هذا المكان وفوق الحصيرة جلس ضيوفه الثلاثة، أكبرهم سنا هو عم سرور - 61 عاماً - وأحد عبيد عائلة «س» بقرية صدفا، وإدريس - 55 عاماً وأحد عبيد عائلة «أ» بقرية أولاد محمد - و أخيرا محمد - 28 عاماً وأحد عبيد عائلة «م» بقرية صدفا - وأمام كل منهم كوب شاى صعيدى ثقيل، ومن اليسار انبعثت رائحة دخان النرجيلة التى لم تفارق يد «عابد» طوال الجلسة، ينفخ فى عمودها العاجى ناظرا لنا دون أن يتحدث وكأنه اكتفى بترتيب اللقاء وجلس ليستمع.
بمجرد أن رأينا العبيد الثلاثة تذكرنا ما ذكره الكاتب والباحث المصرى حسام تمام فى أحد أبحاثه عن عبيد الصعيد، حيث قال «عبيد هذه الأيام لهم نفس الصفات الجسمية لأجدادهم فمعظمهم أسمر اللون ما عدا العبيد الذين تزوج آباؤهم من فلاحات، ويتسم هؤلاء العبيد بالضخامة والقوة الجسمانية والقدرة على تحمل العمل الشاق وغيرها من سمات أبناء مناطق أفريقيا والحبشة كما اشتهروا بطول العمر حيث يكثر بينهم المعمرون خاصة بين النساء. «جدى كان من العبيد، جاء من الحبشة أيام محمد على، وظل هنا فى كنف عائلة «س» هو وأبناؤه وأحفاده، وتوارثتنا العائلة جيلا بعد جيل، حتى جئت أنا، حياتى كما حياة الأجداد، لم يتغير شىء فى الأمور إلا قليلا، أسكن فى دار صغيرة ملحقة بدار سيدى الكبيرة، أستيقظ مبكرا لقضاء حاجة المنزل وشراء ما تطلبه ست البيت من الأسواق، وأعود إلى الدار منتظرا أى تكليف، وأفعل ما يأمروننى به بدقة، والاعتراض مرفوض تماما، ومتخلقش اللى يقول لسيده لا».
هذا ما قاله عم سرور مصحوبا بابتسامة باهتة حزينة، كانت عيناه تتحركان كثيرا وشفتاه تكاد تنطق بشيء لكنها تتوقف فجأة، وتتمازج قسمات وجهه بانكسار عينيه وإشارات يده العشوائية لتؤكد أن بداخله شيئا ما لم يفصح عنه، حاولت أكثر من مرة حتى استطعت انتزاع الاعترافات التى تخشى الخروج إلى العلن خوفا من غضبة الأسياد، قال مخفضا صوته وكأن أحدهم يراقبه «إنهم يسيئون معاملتى يا أستاذ وأنا رجل مسن، لست قادرا على تحمل الإهانة أو العنف، ولا أملك غير الشكوى لله».
فى السادسة صباحا يقوم عم «سرور» بغسل سيارات أفراد العائلة بعناية، بينما زوجته تبدأ فى تنظيف المنازل الخاصة بالعائلة، ثم يذهب إلى السوق بعد أن يضع الطعام للمواشى لشراء متطلبات المنزل، ثم يعود للمنزل ويكمل يومه فى متابعة سيده وتنفيذ أوامره أيا كانت.
أكثر من مهنة يمتهنها عم «سرور» كحال كل العبيد، فهو حارس ومزارع وحمال وخادم ويصنع المشروبات ويشترى الخضار من الأسواق، وكل ذلك بلا راتب أو أجر شهرى تقريبا، ويتحمل فوق ذلك إهانات لا تتوقف، ولعنات مستمرة، وعنفاً قد يؤدى لكدمات فى جسده.
عم سرور يقول «لا نتقاضى أجرا على هذا العمل، لسنا موظفين، العبيد يعملون بلقمتهم وشربهم وسكنهم، هذه واحدة من أعراف عدة توارثناها من قديم الزمان كما ورثنا العبودية».
سيد حسن سند.. أحد أعيان قرية أولاد محمد، وجزء من عائلة تمتلك عبيدا، استقبلنا بمنزله وبصحبته الشيخ «حسن» مأذون القرية، ليشرح لنا طبيعة العلاقة بين العبيد والسادة فى صعيد مصر والتى تنظمها أعراف وتقاليد اجتماعية تحل محل القوانين القديمة التى كانت تسمح أو تعترف بمثل هذه الأوضاع.
تحدثنا عن أهم هذه الأعراف على الإطلاق وهو أن «العبد رديف سيده» وهو ما يعنى أن العبد فى حماية سيده ورعايته.
«الحاج سيد» جلس على أريكة منزله متكئا على عصاته وقال: «العبد يخدم سيده وينفذ كل مطالبه أيا كانت، فالعبد لا يملك شيئا فى نفسه، هو ملك سيده مهما حدث، ولابد أن يدين بالولاء للعائلة ويظهر احتراما شديدا لأفرادها فلا يجوز أن يتخطى العبد سيده أثناء السير أو يسير بجانبه، لابد أن يسير وراءه، ولا يجوز للعبد أن يجلس على أريكة كتلك - مشيرا لأريكته - بجوار سيده، العبد يجلس على الأرض أو يقف بعيدا منتظرا الأوامر.
وتنحصر أعمال العبيد فى خدمة منازل العائلة وأفرادها والتحرك معهم أينما ذهبوا، بالإضافة إلى حراسة البيوت والأراضى الزراعية والمواشى والممتلكات الخاصة بالعائلة».
فى أحد أركان الغرفة التى كنا نجلس بها وقف «صالح» - أحد العبيد - يسمع حوارنا دون أن يبدى أى رد فعل، صامتا تماما وجسده ثابت كجندى أمام قائده، ظل هكذا حتى ناداه الحاج سيد قائلا بلهجته الآمرة «شوف البهوات يشربوا إيه؟».
سألنا بأدب مبالغ فيه ثم غادر المكان مسرعا.
الحاج سيد يكمل سرد الأعراف قائلا «أما السيد فيتكفل بالعبد تماما، يوفر له السكن ومتطلبات المعيشة كاملة له ولأولاده من طعام وشراب وملبس، أو يوفر له مصدر رزق يكفيه، حيث يعد من العار لدى الكثير من العائلات أن يمد العبد يده لأحد من خارجها ويتكفل السيد بزواج العبد أيضا أو زواجها أن كانت أنثى ويوفر لهم السكن ويتقدم كوكيل عن العبد أثناء إجراء مراسم الزواج، وقد يورثه أو يخصص له أرضا ينتفع منها دون أن يمتلكها.
كما يتكفل السيد بحماية عبده ضد أى اعتداء، ومن المتعارف عليه أن التعدى على العبد هو تعدى على العائلة ولا يمكن السكوت عنه، وهناك صراعات عائلية فى الصعيد وقعت بسبب الاعتداء على العبيد بالأساس».
عم «سرور» مازال يسرد تفاصيل حياته البائسة، يحكى تفاصيل مملة ليوضح لنا مدى معاناته، وختم حواره معنا مؤكدا أنه غير مستاء من كونه أحد العبيد ويحمد الله كثيرا على كل شيء إلا أنه يحاول إبعاد ابنائه عن هذه الحياة، يتركهم فى المنزل ويذهب لأداء عمله الإجبارى هو وزوجته فى منازل الأسياد، متمنيا مرور السنوات بسرعة كى يصل الأبناء إلى سن تسمح لهم بالانفصال عنه والهروب إلى العاصمة أو المدن الكبرى بعيدا عن سطوة الأسياد وإرث العبودية.
لم تختلف حياة عم «سرور» عن حياة صديقه المقرب «إدريس» - أحد عبيد عائلة «أ» بأسيوط- باستثناء الابتسامة التى لا تفارق وجه الأخير وبعض التفاصيل الأخرى.
«إدريس» حكى لنا عن نظرات الآخرين له ولباقى العبيد فى مجتمعهم المغلق، وكيف أن العبيد يعانون من عنصرية شديدة تجاههم، تصل إلى السخرية منهم فى الطرقات أحيانا لأنهم «عبيد»، كما أبدى استياءه من تدخل الأسياد المستمر دوما فى حياته وحياة أبنائه، وعدم قدرتهم على الخروج من هذه الدائرة المغلقة فى أى وقت وقال بصوت مليء بمرارة لا حدود لها: «نحن عبيد إلى مالا نهاية، حتى الأبناء الذين رحلوا إلى العاصمة يعانون من ذلك، فإذا قابلوا أحد الأسياد مصادفة لابد أن يخضعوا للأعراف وأن يقفوا احتراما وإجلالا لهم».
وحكى لنا أن أحد أبناء العبيد كان يعمل فى مؤسسة حكومية ويشغل منصبا رفيعا فى القاهرة ودخل عليه أحد أبناء العائلة الكبيرة فوقف له احتراما، وعامله الأخير معاملة سيئة وقال له حرفيا: «لا تنسى أصلك يا فلان»، ولم يجد صاحب المنصب الرفيع مهربا من الخضوع والانصياع لما قاله سيده كى لا يفتضح أمره أمام العاملين بالمؤسسة.
إدريس لا يتعرض للإهانة أو العنف من أسياده، لكنه يشكو تعنتهم فيما يخص رغباته ورغبات أبنائه، وقدم لنا مثالا على ذلك يتعلق بذهاب أبنائه إلى المدرسة لتلقى التعليم وقال «العائلات لا تمانع فى تلقى أبناء العبيد التعليم إذا أرادوا، لكن قليلاً من أبناء العبيد يذهبون للمدرسة نظرا للظروف الاجتماعية المتدنية التى نعانى منها، لكن معظم من التحقوا بالمدارس من أبناء العبيد استطاعوا أكمال مشوارهم الدراسى حتى التحقوا بالجامعة وأنهوا دراستهم فى كليات رفيعة المستوى كالطب والهندسة والإعلام.
المشكلة أن أبناء العبيد يذهبون للمدارس الحكومية المجانية إجباريا وغير مسموح لهم بالذهاب للمدارس الخاصة التى يذهب إليها أبناء العائلات الكبرى حتى لو كان العبد ميسور الحال ويستطيع دفع المصاريف الدراسية كاملة، وذلك لأن الأسياد يرفضون اختلاط أبنائهم بأبناء العبيد.
طبقا لما أكده «أدريس»، لم تنشأ أبدا علاقة صداقة بين شابين أحدهما من العبيد والآخر من الأسياد، المقامات لابد أن تبقى محفوظة - على حد قوله.
تحدثنا عن زواج العبيد من الأسياد فقال عم إدريس: «مستحيل أن يحدث ذلك، وإن حدث تقوم الدنيا ولا تقعد، العبد لا يتزوج إلا عبدة مثله، وهذا أمر لا يمكن أن يتغير».
هنا قاطعه محمد موجها كلامه لنا وعيناه يملأها القهر: «كيف نتزوج من الأسياد يا أستاذ، احنا خدامين عندهم، كيف؟».
اعتدل سيد سند فى جلسته وقال دون تفكير: «العبد يتزوج عبدة مثله سواء كانت من القرية أو من خارج القرية، ولايمكن أبدا أن يتزوج عبد من إحدى بنات العائلات فى قريته مهما كانت الظروف، ولم يحدث فى تاريخ العائلات التى لها عبيد أن تزوج عبد من سيدة ويعد ذلك من المستحيلات التى يندر حدوثها مهما ارتفع شأن العبد».
والعبيد المقيمون فى وجه بحرى وفى القاهرة عندما يريدون الزواج يأتون إلى هنا للزواج من بنات العبيد.. ولم يحدث مطلقا أن تزوج سيد أو سيدة من أحد العبيد، لكن حدثت مغالطات فى هذا الأمر بالنسبة للعبيد المقيمين فى وجه بحرى والقاهرة، فمثلا، عبد من هنا ومقيم فى القاهرة.. تقدم لفتاة من عائلة حرة بالعاصمة ولم يفصح عن أصله، وبعد فترة انكشف أمره، فأجبروه على ترك زوجته، هذا الأمر حدث أكثر من مرة، آخرها منذ شهور قليلة عندما طلق أحد العبيد المقيمين فى الإسكندرية زوجته وترك أطفاله بعد عشر سنوات من الزواج عندما اكتشف أهل الزوجة أصله ونسبه للعبيد».
ليست كل امرأة من زوجات العبيد أمة بالوراثة، فكثرة أعداد العبيد الذكور الذين تبقوا فى كنف العائلات حتى الخمسينيات تحديدا مع قلة الإناث، جعل العائلات تتحايل على هذا الأمر بتزويج العبيد الذكور من إناث فقيرات يعملن بالخدمة المنزلية، ولا تعود أصولهن للعبيد القدامى، ومع مرور السنوات تحولن الى إماء».
هذا ما أكده لنا الشيخ «حسن» مأذون قرية أولاد محمد وصدفا، وهو يصف لنا حياة المرأة فى مجتمع العبيد.
المرأة فى هذا المجتمع هى أقرب إلى الخادمة فى منازل العائلات الكبرى، تنظف المنازل باستمرار وتطهو الطعام فى أغلب الأحيان وتغسل الملابس وتعتنى بالأطفال وفى المناسبات الاجتماعية كحفلات الزفاف ينحصر دورهن فى تزيين العروس وإعدادها للزفاف وفى المأتم تقوم الأمة بدور الندابة وتنوب عن نساء العائلة فى الندب والعويل على الميت وإظهار الحزن.
نساء العبيد يتمتعن بأجساد قوية ولا يملن إلى مظاهر التزين والاهتمام بالمظهر كباقى النساء نظرا لانشغالهن المستمر فى أعمالهن، وجميعهن لا يجدن القراءة أو الكتابة كما أكد لنا الشيخ «حسن»، ولم يخرجن أبدا من القرى التى يعيشن فيها تحت أى ظرف.
التقاليد الاجتماعية المعقدة فى الصعيد حالت بيننا وبين التحدث مع نساء العبيد لأنه من غير المسموح لهن بلقاء الغرباء أو التحدث معهم، لكننا رأينا عدداً منهن من على بعد.
أبناء العبيد الموجودين حاليا من ذكور وإناث يحاولون التمرد على الإرث القديم، وآباؤهم يساعدونهم على ذلك، كما أن العائلات الكبرى أصبحت لا تدقق كثيرا فى وضعية هؤلاء الأبناء، وتركوا للعبيد كبار السن حرية التصرف فى وضعهم، فيحرص العبيد على إبعاد الأبناء تماما عن الأعمال التى يقومون بها رغما عنهم، ويعزلونهم تماما عن هذا المناخ المليء بالقهر والعبودية، وذلك حتى يبلغوا سن الرشد ثم يرسلوهم إلى القاهرة أو المدن الساحلية لتلقى التعليم الجامعى أو العمل كحرفيين وتجار بعيدا عن القرية.
محمد 28 عاماً - أحد عبيد عائلة «م» - لم تساعده الظروف فى الرحيل من أسيوط، ظل هناك بعد وفاة والديه مكملا مسيرة آبائه وأجداده، فهو يخشى النزوح بعيدا عن مسقط رأسه، ويهاب المدن وقسوتها، ويقول دوما أنه كالأسماك إن خرجت من المياه ماتت، فقرر البقاء فى قريته حتى لو كلفه ذلك إرثا ثقيلا من العبودية سيلاحقه حتى الممات.
محمد أصبح لا يطمح فى غد بلا عبودية، لكنه يبحث فقط عن حياة كريمة له ولأولاده الصغار، يحلم بقطعة أرض يملكها ويعمل بها ويعيش من خيراتها، وإن لم يتحقق ذلك، فيكفيه أن يتوقف الآخرون عن مضايقته بسبب لون بشرته الأسود وإرثه من العبودية التى لم يخترها بل اختارته.
سألناه بخبث: ألم يتبادر إلى ذهنك أن تتمرد على ما أنت فيه ذات يوم؟
نظرات سيد سند ازدادت حدة عندما وصلت إلى مسامعه كلمة «تمرد» فقال دون تفكير «العبد اللى يتمرد مصيره أسود، أقل شيء يعاقب به العبد المتمرد هو الطرد من القرية، هذا إن كان سيده رحيما ولم يقتله جراء فعلته تلك، فالعبد لا يملك شيئا فى نفسه.. وما لم يورثه سيده أرضا وبيتا ويتكفل بحياته وأسرته فلا يجوز له التمرد أو الخروج عن طوع السيد، وإلا بالسلامة».
مأذون القرية أكد على كلام سيد سند مستدلا بآية قرآنية تقول «وجعلنا بعضكم فوق بعض درجات» واستطرد قائلا «العبد الذى يتمرد لا خير فيه، لابد أن يقنع بدرجته ووضعه الذى خلق عليه، وألا يخجل من كونه عبدا يقبل يد سيده، بل ينبغى أن يشكر الظروف أيضا، فهم فى وضع يحسدون عليه، هو فى حد يلاقى اللى يكفله ويحميه عشان يتمرد عليه».
الحاج مشرف أبو حشيش - 70 عاماً - كبير عائلة أبوحشيش بقرية الغنائم، وهى عائلة كبيرة بأسيوط تشتهر بمعاملتها الحسنة للعبيد استقبلنا فى منزل العائلة بالقرية.
الحاج مشرف تحدث إلينا عن عبيد العائلة الذين يسكنون المنازل الفقيرة المجاورة لمنازل العائلة، قائلا «هم أحفاد العبد الذى أتى مع جدى الأكبر فى نهاية القرن التاسع عشر، ولا نعلم من أين أتى به، لكن جدى كان يحبه كثيرا وترك له إرثا فى أرضه الزراعية كما ترك لأبنائه، وأنا أراعى ربنا فى معاملتهم كما فعل جدى وأبى، ولا أشعرهم بنقص أو اضطهاد، وأكلفهم بالعمل فى الأراضى الزراعية والفندق المملوك للعائلة».
رفعت - 52 عاماً - قصير وجسده نحيل جدا وملامحه تنضح بأصوله التى تعود للحبشة، هو أحد عبيد عائلة أبوحشيش، قليل الكلام كثير الحركة ولد فى أسيوط ولايعلم شيئا عن أصوله.. ويدرك أن العبودية قد انتهت رسميا وأن الزمن قد تغير وأن لم تختلف حياته اليومية عن حياة أسلافه.
رفعت رفض الحديث معنا فى بداية الأمر، لأن ابنه الأكبر كان بجواره، واكتفى فقط بحوار قليل بدأه قائلا «ولدت لأجد نفسى هكذا، ولا أعرف شيئا عن جدودى، كل ما أتذكره أن أبى كان يقول لكبير العائلة «يا سيدى»، لكن لا أفعل أنا ذلك، والدنيا تغيرت، والحمد لله على كل شيء».
رفعت اصطحبنا الى حارة ضيقة جدا لا يتجاوز عرضها الثلاثة أمتار وطولها لا يتعدى العشرين مترا بها حوالى 8 منازل على الجانبين،يسكنها عدد من العبيد وعائلاتهم. كان المكان أقرب إلى جيتو للعبيد فقط، طريق غير ممهد وبيوت من طابق واحد ضيقة للغاية.
والقمامة منتشرة فى كل مكان تحمل وجوه مرشحى البرلمان عن الدائرة التابع لها هذا المكان الأشد فقرا.
زيدان العلمى رئيس مؤسسة العالم لحقوق الإنسان يؤكد أن معظم العبيد يمتلكون بطاقات هوية رسمية، ولهم حق التصويت، وأن مؤسسته كشفت من قبل استغلال بعض المرشحين البرلمانيين ووكلائهم للعبيد فى الحشد الانتخابى حيث يدفعون لهم أموالا مقابل التصويت لمرشح بعينه، مؤكدا أن نواب البرلمان لا يتذكرون العبيد إلا فى وقت الانتخابات فقط، ولا أحد يهتم بهم بعد الوصول إلى البرلمان.
عم سرور أكد لنا أنه ذهب للانتخابات أكثر من مرة، بناء على أوامر سيده الذى طلب منه الذهاب إلى لجنته الانتخابية واختيار مرشح العائلة فى انتخابات البرلمان عام 2012 وقال «ذهبت فعلا، لكنى لم أعط صوتى لمرشح العائلة، أعطيته لمرشح آخر، فسيدى لن يعرف حقيقة الأمر، وأنا أرضى ضميرى قبل كل شيء، وعندما سألنى هل أعطيت صوتك لفلان؟، قلت نعم ولم أقل الحقيقة خوفا من بطشه».
ما هو إذا أفق التخلص من بقايا تلك الظاهرة؟
سؤال تبادر إلى أذهاننا وأجابت عنه د.منال زكريا.. أستاذ علم النفس الاجتماعى بكلية الآداب جامعة القاهرة قائلة: «لا نستطيع فعل شيء تجاه الأشخاص الذين ارتضوا بالعبودية وتأقلموا معها ولا يستطيعون الخروج أو الفرار منها بل يرونها فى معظم الأحيان حياة إيجابية وصحية، فالمقهور دائما مولع بثقافة القاهر.. بمعنى أن الشخص الذى يتم استغلاله طوال الوقت يتعود على الاستغلال ولا يستطيع كسر هذه الدائرة أو الخروج منها.
لكن ينبغى أن نسارع بإنقاذ الشباب وصغار السن والأطفال الموجودين فى هذه العائلات وأن يتم التعامل معهم بطريقة مختلفة ونقلهم بتؤدة وتأنٍ للحياة المتحررة قبل أن تصيبهم الرغبة فى الانتقام من الذين وضعوهم فى هذا الموضع خصوصا أن الزمن قد تغير ومن المؤكد أن هؤلاء الصغار لن يقبلوا إرث الآباء والأجداد، وهنا يأتى دور الدولة ومنظمات المجتمع المدنى فى تبنى هذا الأمر وعدم إهماله لمجرد أن أعداد المتضررين قليلة، فهم بشر فى كل الأحوال».
أما عادل سعد - الكاتب والمؤرخ - فأكد أن العبيد سوف تختفى معالمهم تماما من مصر وتزول خلال عقدين أو ثلاثة.. وستختفى تماما أى مظاهر لوجود العبيد فى حياتنا بعد وفاة آخر أجيال العبيد الموجودين الآن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.