محاكمة المتهمين بقضية «طالبة العريش».. اليوم    ياسمين عز ترد عن شائعات إنفصال مها الصغير وأحمد السقا    محافظ الإسكندرية يطلق مبادرة توظيفك علينا لتشغيل 1000 شاب وفتاة    موعد مباراة إنتر ميلان وتورينو اليوم في الدوري الإيطالي والقناة الناقلة    الأطباء تبحث مع منظمة الصحة العالمية مشاركة القطاع الخاص في التأمين الصحي    تصفح هذه المواقع آثم.. أول تعليق من الأزهر على جريمة الDark Web    «القومي للمرأة» يكشف أهمية إجراء الفحص الطبي قبل الزواج (فيديو)    عاجل.. قرار مفاجئ من ليفربول بشأن صلاح بعد حادثة كلوب    حالة الطقس اليوم الأحد على القاهرة والمحافظات    السكك الحديد تعلن عن رحلة اليوم الواحد لقضاء شم النسيم بالإسكندرية    لتضامنهم مع غزة.. اعتقال 69 محتجاً داخل جامعة أريزونا بأمريكا    سيد رجب: بدأت حياتى الفنية من مسرح الشارع.. ولا أحب لقب نجم    نصبوا الخيام، شرارة الاحتجاجات الطلابية ضد العدوان على غزة تصل إلى أعرق جامعات كندا    موعد مباراة توتنهام وآرسنال اليوم في الدوري الإنجليزي والقنوات الناقلة    ماكرون يعتبر الأسلحة النووية الفرنسية ضمان لبناء العلاقات مع روسيا    أسعار الأسماك واللحوم والدواجن والخضروات.. اليوم 28 أبريل    زلزال بقوة 6.1 درجة يضرب جزيرة جاوة الإندونيسية    التصريح بدفن جثة شاب صدمه قطار أثناء عبوره المزلقان بقليوب    يده ملطخة بدماء 97 صحفيا، بايدن يعتزم إلقاء خطاب خلال عشاء مراسلي البيت الأبيض واحتجاجات في انتظاره    الفرح تحول إلى جنازة، لحظة انتشال سيارة زفاف عروسين بعد سقوطها بترعة دندرة (صور)    ما شفتش لمسة اليد، أول تعليق من مخرج مباراة الأهلي على إلغاء هدف مازيمبي    السفير الروسي: انضمام مصر للبريكس مهم جدا للمنظمة    غدا.. محاكمة عاطل متهم بإنهاء حياة عامل في الحوامدية    أتلتيكو مدريد يفوز على أتلتيك بلباو 3-1 في الدوري الإسباني    14 مليار دولار في طريقها إلى مصر بسبب رأس الحكمة    تسليم أوراق امتحانات الثانوية والقراءات بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    فضل الصلاة على النبي.. أفضل الصيغ لها    اشتباكات بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي غرب رام الله    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير.. أسعار الذهب اليوم الأحد 28 إبريل 2024 بالصاغة    بعد التراجع الأخير.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد 28 أبريل 2024 بالأسواق    حسام البدري: أنا أفضل من كولر وموسيماني.. ولم أحصل على فرصتي مع منتخب مصر    عضو اتحاد الصناعات يطالب بخفض أسعار السيارات بعد تراجع الدولار    هيئة كبار العلماء السعودية تحذر الحجاج من ارتكاب هذا الفعل: فاعله مذنب (تفاصيل)    بالأسماء.. مصرع 5 أشخاص وإصابة 8 في حادث تصادم بالدقهلية    هل مرض الكبد وراثي؟.. اتخذ الاحتياطات اللازمة    اليوم، أولى جلسات دعوى إلغاء ترخيص مدرسة ران الألمانية بسبب تدريس المثلية الجنسية    بعد جريمة طفل شبرا، بيان عاجل من الأزهر عن جرائم "الدارك ويب" وكيفية حماية النشء    إصابة 8 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ربع نقل بالمنيا    حسام غالي: كوبر كان يقول لنا "الأهلي يفوز بالحكام ولو دربت ضدكم (هقطعكم)"    نصف تتويج.. عودة باريس بالتعادل لا تكفي لحسم اللقب ولكن    عمرو أديب: مصر تستفيد من وجود اللاجئين الأجانب على أرضها    غادة إبراهيم بعد توقفها 7 سنوات عن العمل: «عايشة من خير والدي» (خاص)    نيكول سابا تحيي حفلا غنائيا بنادي وادي دجلة بهذا الموعد    بشرى للموظفين.. 4 أيام إجازة مدفوعة الأجر    متحدث الكنيسة: الصلاة في أسبوع الآلام لها خصوصية شديدة ونتخلى عن أمور دنيوية    الأردن تصدر طوابعًا عن أحداث محاكمة وصلب السيد المسيح    ما حكم سجود التلاوة في أوقات النهي؟.. دار الإفتاء تجيب    الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري للبيع والشراء اليوم الأحد 28 إبريل 2024 (آخر تحديث)    تحولات الطاقة: نحو مستقبل أكثر استدامة وفاعلية    هل يمكن لجسمك أن يقول «لا مزيد من الحديد»؟    23 أكتوبر.. انطلاق مهرجان مالمو الدولي للعود والأغنية العربية    دهاء أنور السادات واستراتيجية التعالي.. ماذا قال عنه كيسنجر؟    السيسي لا يرحم الموتى ولا الأحياء..مشروع قانون الجبانات الجديد استنزاف ونهب للمصريين    أناقة وجمال.. إيمان عز الدين تخطف قلوب متابعيها    ما هي أبرز علامات وأعراض ضربة الشمس؟    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من الإصابة بهذا المرض    " يكلموني" لرامي جمال تتخطى النصف مليون مشاهدة    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خطة كيسنجر لتجنيد الجمسى لحساب «الموساد»

مدير المخابرات المصرية اللواء كمال حسن على عرض على الرئيس أنور السادات تقريراً عن عميلة الموساد «تامار جولان» وعملها تحت غطاء صحفى لجريدة معاريف وشبكة BBC البريطانية، وفى الوقت نفسه كشف الكاتب أنيس منصور حقيقة العميلة الإسرائيلية فى القصر الرئاسى للرئيس الأوغندى أيدى أمين الذى اشترى لها أيضا مسكنا سريا فى باريس باعتبارها من عشيقاته المقربات.

فى هذه الحلقة نتابع تفاصيل اللقاء الذى جمع بين نزار قبانى وأشرف مروان واللواء محمد فوزى بالجاسوسة الإسرائيلية فى منزلها بباريس، ولقائها مع سيدة الغناء العربى فى تونس وأسرار قيام أم كلثوم بطردها من غرفتها بعد أن قدمت نفسها لها على أنها صحفية إسرائيلية.

عندما علم الرئيس السادات منتصف يونيو 1975 أن «محمد أشرف أبوالوفا مروان» الذى تم تكليفه بمنصب مدير مكتب الرئيس للمعلومات بداية من السبت 51 مايو 1791، هو أول من اصطدم وجهاً لوجه بالنقيب «تامار جولان» ضابطة وحدة العمليات النسائية الخاصة بجهاز الموساد، بالعاصمة البريطانية لندن عام 1970، وهو صاحب أول صورة لها، التقطها لها سراً وهى متخفية فى شكل وهوية سيدة أعمال فرنسية باسم «جانيت»، طلب على الفور من كاتم أسراره وسكرتيره الشخصى اللواء «فوزى عبدالحافظ» الاتصال بالدكتور أشرف مروان وإبلاغه الحضور مساءً لمنزل الرئيس بمحافظة الجيزة لأمر مهم.

المثير أن من بين مهام الدكتور أشرف مروان التى لم يسمع بها أحد من قبل فى تلك الفترة، عملية تأمين مكتب الرئيس السادات، ومقر إقامته ضد التجسس المضاد بأنواعه، وعمليات التنصت على الاتصالات الرئاسية التى عانى منها السادات وشهد عليها مروان فى فترة سابقة انتهت فى 15 مايو .1971

وشغل أشرف مروان ساعتها منصب المستشار السياسى الخاص للرئيس السادات للاتصالات العربية «السرية للغاية»، بينما كانت عملية الخداع الاستراتيجى المصرى لجهاز الموساد ما زالت مستمرة، حتى بعد هزيمة إسرائيل فى أكتوبر .1973

وتعتبر وثيقة الأمن القومى الأمريكى رقم 01135 المؤرخة فى السبت 4 مايو 1974 تحت بند «منتهى السرية.. خاص وحساس.. استخدام الإدارة الأمريكية فقط»، دليلاً موثقاً على الدور الاستخباراتى الخفى الذى لعبه مروان بجوار الرئيس السادات فى سرية تامة.

والوثيقة عبارة عن بروتوكول لتوثيق حوار تم بمقر الرئيس الصيفى باستراحة المعمورة بمدينة الإسكندرية، استضاف خلاله وزير الخارجية الأمريكية «هنرى كيسنجر» ومساعديه لشئون الشرق الأدنى وآخرين من مجلس الأمن القومى الأمريكى.

أثناء اللقاء الذى جرى بين الساعة الحادية عشرة و35 دقيقة والثالثة بعد الظهر، طبقاً لنص البروتوكول وافق هنرى كيسنجر على تسليم أشرف مروان قائمة أجهزة استخباراتية حديثة لمنع التنصت على مكالمات مكاتب الرئاسة المصرية، ومقر إقامة السادات بالجيزة.

وتنفيذاً لتعليمات السادات لحضور الموعد فى السابعة مساء وصل الدكتور أشرف مروان حاملاً ملفات اتصالات عربية مهمة كان مكلفًا بها قبلها، اعتقاداً منه أن الرئيس سيسأله عنها ويناقشه حولها، لكنه فوجئ بأن الحوار كان مختلفاً.

فى البداية سأله السادات بصوت أقرب إلى الهمس عن تطورات تحقيقات لجنة «أجرانات» حول أسباب هزيمة جيش الدفاع الإسرائيلى التى بدأت فى 21 نوفمبر ,1973 وهى اللجنة التى خضع مروان لتحقيقاتها، لكنه لم يدل بشهادته الرسمية أمامها فى إسرائيل، بل تسلم أسئلة موقعة ومختومة من هيئة أعضائها، ثم أجاب عنها فى لندن تفصيلياً بخط يده وتوقيعه، فأكد مروان للرئيس السادات أنه لا يعلم نتيجة الاستجواب.


وكان الرئيس بين أشخاص يعدون على أصابع اليد الواحدة فى مصر ممن يعلمون بأسرار وحقيقة عملية «الصهر» العملاقة لتضليل جهاز الموساد والتى مازالت ملفاتها طى الكتمان حتى كتابة تلك السطور، وأشار مروان فى حديثه الهادئ مع الرئيس، إلى أن لجنة «أجرانات» قدمت تقريرها النهائى بتاريخ 30 يناير 1975 لكن شهادته حجبت بالكامل ضمن 48 صفحة منعت من التداول، والثابت للتوثيق أن شهادته فرض عليها حظر شامل لا يزال سارياً ليومنا هذا.
ساعتها سأل الرئيس السادات، الذى شارك بنفسه أحياناً فى استخدام وتوجيه عملية مروان، عن آخر تطورات العملية، فأكد أنه مستمر فى تنفيذ خطة الخداع الاستراتيجى، فى مرحلة التمهيد لمفاوضات السلام السرية بين مصر وإسرائيل.

بعدها فاجأه السادات بأن أعاده إلى ذكريات الصورة التى التقطها ضمن ألبوم مكون من سبع صور لسيدة أعمال فرنسية قابلها عام 1970 على العشاء بلندن، واللافت أن مروان لم يستغرق وقتاً لاسترجاع ذكرياته مع الصورة وصاحبتها، وقد اشتهر بتمتعه بذاكرة حديدية اعتبرت من أبرز مميزاته الشخصية، ولهذا فقد تعرف عليها فور تسلمها من يد السادات.. بعدها استمع مروان بجدية لاستفسار الرئيس عن ملابسات الصورة ومعلوماته عن صاحبة الصورة، فأجابه قائلا: «أنا عرفت سيادتك من اللحظة الأولى اللى قربت فيها منى إن الست دى وراها سر، وكنت متأكد إنها من الموساد بعتوها فى سكتى لمراقبتى وللتجسس على حياتى فى لندن، وسيادتك عارف إن من ضمن ما طلب منى ترسيخه لديهم بقوة أنى نجم مع النساء».

فضحك الرئيس السادات وأومأ برأسه بإشارة التفهم، وهو ما زال يدخن «البايب» الخاص به وطلب من مروان الذى جلس ملتصقاً بصوت خفيض أن يكمل فاستطرد مروان قائلاً: «ساعتها سيادتك طُلب منى الابتعاد نهائياً وتماماً عن أى علاقات شخصية من شأنها تهديد العملية اللى كانت فى بدايتها، خصوصا مع الأجنبيات، ولأنى كنت متأكداً أنها مدسوسة من الموساد لم أجارها، وكان من الذوق دعوتها على العشاء لاستهلاك الوقت، علماً أنى عدت للقاهرة فى اليوم التالى على ذلك اللقاء».

فقال السادات: «كويس على العموم أنت متعرفش يا أشرف قيمة الصور دى دلوقتى لكنى عايزك تنفذ اللى هقولك عليه بدقة.. فاهم بدقة شديدة وركز معايا.. أولاً هو الضابط الشاب السمين بتاعهم لسه معاك؟»

فأجاب مروان: «أيوه سيادتك، قصدك «ميشا».. لسه معايا».

فقال السادات: «ميشا دا له حكايات معانا وشوية أسماء، ساعات «ميخا»، وساعات «دوبى»، لكن عايزك قبل أول لقاء معاه وأنا عارف إنك هتقابله قريب تسافر لباريس أولاً وأنا هديك عنوان «جانيت» دلوقتى، لكن اسمها بقى «تامار جولان»، وقلبت صحفية للشئون الإفريقية، هى فاتحه دلوقتى قال إيه صالون ثقافى.. طبعاً عارف فاتحاه ليه يا أشرف؟».

ثم أكمل الرئيس قائلاً: «وفيه كاتب مصرى هياخدك معاه كضيف، لكنه مش هيكون فاهم أى حاجة، ولا عارف إيه الموضوع، طبعاً المهم عايزك تفاجئها وتحاول تلف وتدور معاها فى الكلام، وكأنك تعرفت عليها، لكن اوعى تكشفها، وقول وسط الكلام جملة «أنا حاسس إننا اتقابلنا قبل كدا» وعارف إنها هترتبك، لكن لما هتلاقيك بتعدى على الكلام بشكل عادى، هتعتبر إنك بس بتعاكسها».

فأكد الدكتور أشرف مروان أنه فهم بدقة.. وعندما سأل عن شخصية الكاتب الذى سيصاحبه إلى مقر صالون «تامار جولان» الثقافى بالعاصمة الفرنسية باريس، طلب منه السادات عدم الاهتمام، وأنه منطقياً سيتعرف على ذلك الكاتب بالطائرة، أو قبلها، وربما فى باريس نفسها، وفى نهاية اللقاء قال له الرئيس: «كدا خلصنا من موضوع جانيت، قصدى تامار، بعد كدا طبعاً هتقابل ميشا، وفى اللقاء عايزك تفتح موضوع جانيت، لكن كأنك بتحذره، دا هيرفع تقديرهم ليك، وأنا عارف إنك مش محتاج لكدا دلوقتى لأنهم واثقين فيك.. لكنه مفيد بالنهاية».

ثم اعتدل الرئيس السادات فى جلسته وقال: «احكى لميشا الحكاية من أولها ببساطة، وبسخرية، لكن اوعى تجيب سيرة الصور اللى خدتها للبت دى فى لندن، وقول لميشا إنك كشفتها فى باريس بالصدفة، وإنك تعرفت عليها حتى بعد ما غيرت شكلها ولون شعرها، وأنا عارف إنك محاور خطير، حاول توقع ميشا فى الكلام، هيكشف لك البنت وحكايتها، وبلغنى بالنتيجة أول ما ترجع».

فهم الدكتور أشرف مروان المطلوب منه وقد أصبح متمرساً فى المجال يجر خلفه خبرات متعددة ودورات عالية التصنيف بل يعد فعلياً من أقوى العملاء المصريين بالتاريخ الحديث دون مبالغة وبات عليه السفر إلى باريس لافتعال لقاء مع جانيت - تامار - ومن ثم الانتظار لتحقيق المرحلة التالية عندما يقابل «ميشا».

الثابت أن «ميشا - ميخا - دوبى» هو أول ضابط عمليات من الموساد قابله أشرف مروان فى بداية عمليته بالعاصمة البريطانية لندن عام 1969 وقد صاحبه مروان حتى اعتزاله التام أوائل يناير عام .1977

وكما ورد بملف أشرف مروان أسند العقيد «رحافيا فيردى» مدير فرع عمليات «تسوميت» بالموساد فى الفترة من 1963 حتى 1972 إلى النقيب «يعقوب دوف» الملقب باسم «ميشا» ملف تشغيل مروان منتصف مارس عام .1969

وطبقاً لوصفه فى السجلات الرسمية التحق «دوبى» ساعتها لتوه بالموساد، وهو من أصول يهودية - مصرية، يتحدث العربية باللهجة المصرية السليمة، حاصل على دبلوم اللغة العربية بامتياز مع مرتبة الشرف من الجامعة العبرية بالقدس عام .1967

ضابط متدين ممتلئ الجسم تخرج بين أوائل طلبة قسم علم النفس من الجامعة العبرية عام 1968 وقد سجل نفسه بعدها بشهور قليلة لدى جامعة أكسفورد لنيل درجة الماجستير فى علم النفس الاجتماعى الذى اعتمد عليه فى تشغيل العملاء والجواسيس.

عقب خروج الدكتور أشرف مروان من لقاء الرئيس السادات بالجيزة بنصف ساعة كان اللواء فوزى عبد الحافظ قد ضرب للأستاذ أنيس منصور صديق السادات وكاتم أسراره الثانى فى الترتيب بعد فوزى موعداً خاصاً.
فى الموقع الهادئ المحبب لقلب السادات فى نهاية حديقة منزله الرئاسى على بعد خطوات من نهر النيل بالجيزة رحب الرئيس بالأستاذ أنيس منصور وهو الذى كان يحرص على الاستمتاع بحواره الفلسفى، بينما ألم منصور بمفاتيح شخصية السادات وترك له دفة توجيه الحديث حيث يريد.
حكى أنيس منصور كثيراً أنه كان للرئيس السادات أسلوب خاص عندما يستدعى أحدهم فجأة للحوار، وأنه كان يقسم الحوار لفصلين، أولهما دائماً لا علاقة له من قريب أو من بعيد بالفصل الثانى الأهم غالباً وقد انتظر أنيس حتى أنهى السادات الجزء الروتينى الأول منه.
وربما أدرك السادات بذكائه الفطرى ما جال بفكر صديقه الكاتب الكبير فقال موجهاً حديثه لكاتم أسراره وكاتب سجلات عهده الأكثر سرية: «أنا عارف يا أنيس اللى بتقوله للناس، وعارف إنك مستنى الجزء الثانى الأهم من الحديث».

فوجئ أنيس منصور بالرئيس السادات وكأنه قرأ أفكاره فتوتر وطبقاً لروايته المسجلة إلى اللواء فوزى عبد الحافظ شعر وقتها ب«صهد» خرج من رأسه فجأة وأدرك أن السادات لا يمكن مبارزته فى ألعاب الذكاء، ومثلما سجل فوزى بعدها قال أنيس: «السادات يا سيادة اللواء فاق الجنرال الفرنسى «نابليون بونابارت» فى الذكاء»، مؤكداً أن لدى الرئيس السادات ما أسماه «الخبث بالفطرة».

وأكمل أنيس منصور روايته لفوزى عبدالحافظ موضحا أنه شعر ليلتها بالحرج الشديد وكما قال: «كنت مبلولاً أمام الرئيس السادات وعلى ما يبدو فإنه قد سمع ما قلته عنه تفاخراً لبعضهم ممن خاننى من أصدقاء مهنة النميمة، وحكى كل ما تفوهت به داخل الغرف المغلقة حتى وصل الحديث بتفاصيله إلى الرئيس».

وربما أدرك الرئيس السادات بحنكته موقف الكاتب الكبير فهدأ الجو وأطلق ضحكاته وداعب أنيس منصور وهو يعرف مخاوفه الأمنية من موضوع الهاتف بالذات قائلاً له: «على العموم أنا غيرت التكتيك اللى كشفته يا أنيس، بعد كدا انتظر الكلام المهم منى مع كل الأسرار بينى وبينك على التليفون فى بيتك».

وعندما رجع أنيس منصور فى مقعده للخلف عاد الرئيس السادات للضحك بينما أخذ أنيس كلامه محمل الجد وشعر بالتوتر واندفع قائلاً: «سيادتك أنا غلطان.. أنا مستعد أسمع كل حاجة.. لكن أرجوك بعيداً عن الهاتف».

فعاد السادات للضحك وبدت عليه السعادة الغامرة، وفى تلك الأثناء طبقاً للتفاصيل وصلت السيدة «جيهان السادات» وسلمت على كاتم أسرار زوجها، وأثنت عليه، وطلبت منه اختيار أى غرفة يريدها بالمنزل فوراً.

وعندما شعر أنيس بالحرج كسرت سيدة مصر الأولى الجو وقالت موجهة حديثها إليه: «أصل إحنا مبنشوفش الرئيس فى السعادة دى إلا لما بتكون بتتكلم معاه يا أستاذ أنيس، ولأننا عارفين هو بيحبك قد إيه عايزينك تفضل جنبه على طول».

فأجاب أنيس منصور بذوقه الرفيع شاكراً السيدة جيهان على مشاعرها الرقيقة مؤكداً لها أنه سيظل طيلة حياته جوار الرئيس السادات وأنه سيبذل قصارى جهده حتى يؤدى ما عليه بما يسعد «بطل الحرب والسلام» كما أسماه فى كل كتاباته.

بعدما خرجت السيدة جيهان من المشهد مفسحة المجال للحوار، عاد السادات للموضوع الجاد الذى طلب أنيس منصور بشأنه طالباً منه مصاحبة الدكتور أشرف مروان إلى صالون ثقافى تديره بالعاصمة الفرنسية صحفية مستشرقة فرنسية تدعى «تامار جولان».

استقبل أنيس منصور الطلب بهدوء وقد اعتاد عدم السؤال عن أسباب التكليفات لكنه سأل الرئيس السادات تلك المرة على غير العادة وهو مبتسم فى خجل قائلاً: «على ما يبدو سيادتك صدقت التقارير الأمنية اللى كتبوها عنى مع الستات».

فضحك السادات وأبلغ منصور بالموعد المحدد، لكن منصور اعتذر عن عدم تمكنه من السفر إلى باريس لمدة أسبوعين على الأقل طالباً الإذن بذكاء من الرئيس ليسافر إلى المغرب لحضور مهرجان ثقافى سينتهى بتكريمه شخصياً من «الحسن الثانى بن محمد» ملك المغرب «من 26 فبراير 1961 حتى وفاته بتاريخ 23 يوليو 1999».

المثير أن أنيس منصور لم يكن مدركاً حتى تلك اللحظة حقيقة موضوع الصالون الثقافى ولا تامار جولان، ولم يكن بالأمر ما يثير قلقه بشكل خاص. كما لم يخطر ببال أنيس منصور أن السادات فكر فى إرساله إلى صالون تلك المرأة المريبة «جانيت»، سيدة الأعمال الفرنسية التى قابلها صدفة على العشاء بقصر الرئاسة الأوغندى فى يونيو 1975 وبعدها اختفت لتظهر بباريس باسم وهوية مختلقة تماماً مثل الروايات التى ألفها.

اعتذر منصور عن السفر واصطحاب أشرف مروان إلى باريس لارتباطه بحفل تكريمه بالمغرب، واحترم السادات رغبته، لكن سأله أن يشير عليه بأحد بدلاً منه فعرض استخدام صديقه الشاعر السورى الشهير نزار قبانى الذى كان يقيم وقتها فى جنيف.

انتبه السادات وقد أعجبته فكرة أنيس منصور التى تحمس لها، بينما أكد منصور على قوة علاقة الصداقة الوطيدة التى ربطته مع نزار قبانى منذ عمله سكرتيراً ثانياً بالسفارة السورية بالقاهرة فى بداية عام ,1945 وأن نزار مدين له بالكثير، ولن يخذله إذا طلب منه اصطحاب الدكتور أشرف مروان إلى الصالون الثقافى فى باريس.

وعندما استقر رأى الرئيس السادات على مشورة أنيس طلب منه الحصول على موافقة الشاعر نزار قبانى ثم أمر سكرتيره الشخصى اللواء فوزى عبدالحافظ كى يوفر الخط الدولى للأستاذ أنيس حتى يهاتف نزار.

ابتهل أنيس منصور كما سجل اللواء فوزى عبد الحافظ وهو يجرى الاتصال أمام الرئيس السادات الذى جلس يتابع الحوار وكله أمل أن يجد نزار قبانى بمنزله تلك الساعة ولِحظه السعيد أجاب نزار على الهاتف وعقب تبادل السلام المعتاد بين الأصدقاء فتح أنيس الأمر مع صديقه الشاعر السورى.

فى الحوار أصاب أنيس منصور قلب هدفه مباشرة كما اعترف الرئيس السادات بعدها له ولسكرتيره الخاص اللواء فوزى عبدالحافظ وقد علم منصور أن نزار قبانى كان عاشقاً للزعيم جمال عبدالناصر بالرغم من تأنيبه وعتابه له بسبب قصيدته «هوامش على دفتر النكسة» التى ألفها فى أعقاب عدوان 5 يونيو عام .1967

صدق أنيس منصور عندما أكد للرئيس السادات أن نزار لن يخذله، وبالفعل وافق الشاعر السورى على اصطحاب الدكتور أشرف مروان «رائحة العزيز» كما أسماه، مع أنه سمع ساعتها لأول مرة من صديقه الكاتب المصرى عن صالون تلك المستشرقة الفرنسية «تامار جولان».

بعدها شكر الرئيس السادات صديقه أنيس منصور، وطلب منه أن يستعد ربما احتاج إليه مرة أخرى فى ذات الموضوع، مؤكداً أنه أعد له مفاجأة مهمة بشأن تلك الصحفية، فخرج أنيس ليلتها وهو يفكر بمعنى الكلام، وسبب ربطه بتلك الصحفية التى يصر الرئيس على وضعه بطريقها، لكنه لم يشغل باله آملاً أن ينسى الرئيس السادات الموضوع برمته.

بعد أيام طبقاً للاتفاق وصل نزار قبانى إلى العاصمة الفرنسية على حساب صديقه أنيس منصور الذى أقنع نزار أن له مزايا حكومية وفرت تذاكر مخفضة على الخطوط الجوية الوطنية المصرية مع الإقامة الكاملة والحجز بفندق Ritz الكائن فى 15 ميدان «فيندوم» الشهير بالحى الأول بباريس.

بالتزامن مع وصول نزار قبانى إلى باريس استقل الدكتور أشرف مروان مع اللواء فوزى عبدالحافظ السكرتير الشخصى للرئيس السادات الطائرة من القاهرة طبقاً للتعليمات بعدما كلف الرئيس فوزى بمرافقة مروان والقيام بمهمة إيصال رسالة شخصية منه والعودة خلال يومين للأهمية.

وجد الاثنان حجزاً باسميهما فى نفس الفندق الشهير، ولم يجد ليلتها نزار قبانى مشكلة فى التعرف بسهولة على أشرف مروان، وعندها بكى نزار من قلبه عندما سلم على مروان واحتضنه لأول مرة وقد نزفت دموعه بعدما تذكر الزعيم والرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

بعدها ركز نزار قبانى مع مروان ولم يلتفت إلا نادراً إلى اللواء فوزى عبدالحافظ الذى وجدها فرصة وقدم نفسه إلى الشاعر السورى باسم «أبو عبد الله» تاجر مصرى وعقب التعارف تواعد مروان ونزار للذهاب إلى صالون الخميس للصحفية تامار جولان التى كرر مروان أمام نزار الذى لم يسمع بها من قبل أنها مستشرقة فرنسية.

قبل ذلك اتصل نزار قبانى بصديقة فرنسية عزيزة عليه ترددت بانتظام على صالون تامار كل خميس، وطلب منها أن تصحبه وأصدقاء له من مصر إليه، وبالموعد المحدد حضر نزار قبانى بصحبة الدكتور أشرف مروان وسط ذهول «جانيت» التى تحولت إلى الصحفية تامار جولان.

حاولت تامار التهرب من نظرات مروان طيلة الوقت، وتعمدت تشغيل الإضاءة الخافتة حول جوانب الصالون كى لا يتعرف عليها، وابتعدت حتى عن عادتها فى تقديم الضيوف كما أسندت مهمة تقديم الفقرات الثقافية والحاضرين لضيف فرنسى آخر.

كان طبيعياً أن يحتفى رواد الصالون من بين العرب والإفريقيين بالشاعر السورى الكبير الذى حضر دون معرفة مسبقة بصاحبة الصالون اعتقاداً منه أنها مستشرقة فرنسية مثلما قال له على الهاتف من القاهرة صديقه الكاتب المصرى أنيس منصور الذى لم يكذب، بل أعلن ساعتها بحسن نية ما سمعه شخصياً من الرئيس السادات.

كان الوحيدان اللذان علما بجنسية تامار جولان هما الدكتور أشرف مروان واللواء فوزى عبدالحافظ الذى انزوى خلف مروان المكلف من الرئيس السادات بدور البطولة.

خلال الأمسية حرص الحاضرون على سماع قصيدة «طفولة نهد» من الشاعر نزار قبانى الذى أبدع فى إلقائها بينما اقترب الدكتور أشرف مروان من تامار بالظلام الخافت وسألها مباشرة بقوله:
«هل أعرفك من مكان ما؟».

فردت عليه سريعاً بقولها:

«مع أنى سعيدة بحضورك مع أصدقائك لكن للأسف لم نتقابل معاً قبل الليلة».

فحملق الدكتور أشرف مروان بها قليلاً وهو مبتسم، وأكد لها أنه قابل سيدة فرنسية مهذبة عام 1970 فى لندن تدعى «جانيت»، كأنها أختها التوأم، فارتبكت وتلعثمت بالحديث فتأكد مروان أن «جانيت» هى نفسها تامار جولان.

حقق أشرف مروان المطلوب من حضوره إلى الصالون فاستأذن من تامار عائداً إلى الفندق مع نزار قبانى الذى ظل طيلة الوقت جاهلاً بحقيقة الصحفية صاحبة الصالون ومعهما اللواء فوزى عبدالحافظ، وفى الصباح عاد الأخير بمفرده إلى القاهرة بينما انطلق مروان إلى لندن ليكمل مهمته التالية مع ضابط الموساد ميشا.

انتصف الليل وفى تلك الأثناء اتصل بغرفة نزار قبانى التى حجزها له أنيس منصور من القاهرة لدى فندق Ritz صديق قديم لنزار فى باريس ليسأله باهتمام وغضب شديد قائلاً: «ويحك أخى نزار هل جننت؟ كيف بعت كل تاريخك وعروبتك من أجل أمسية بلهاء فى صالون أسود بمنزل صحفية تحمل الجنسية الإسرائيلية، وكل باريس تعلم تلك الحقيقة؟».

لم يجب نزار على المتصل، بل أغلق من هول المفاجأة التى وقعت على رأسه مثل الجبل الهاتف، ودارت برأسه ساعتها آلاف الأفكار وهو يسأل نفسه عن سبب ما فعله به صديقه الكاتب المصرى الكبير أنيس منصور.

احتاج نزار ليلتها الكثير من الشراب المهدئ والانفراد مع نفسه حتى يمكنه استيعاب سر إصرار أشرف مروان صهر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على حضور صالون تامار جولان بالتحديد وعندما أسرف بالشراب هاتف منزل أنيس منصور المعروف عنه أنه يكتب يومياً بداية من الرابعة فجراً حتى طلوع النهار.

على الطرف الآخر بالقاهرة اعتقد أنيس أنها مكالمة رئاسية هامة حيث اعتاد ذلك من الرئيس السادات فرفع سماعة مكتبه مرحباً بكلمة أفندم» التى استخدمها فى المكالمات الرسمية.

على الطرف الآخر سمع صديقه نزار قبانى وهو ثقيل اللسان يسبه بأفظع الألفاظ بينما حاول استيعاب وفهم ما يحدث وهو منصت إلى نزار وهو ينتحب حزناً على صداقتهما التى دامت عشرات السنين وهو يتهمه أنه متعاون مع العملاء الإسرائيليين.

ولما حاول أنيس استبيان الحقيقة بين كلمات نزار المتلعثمة صدمته معلومة أن المستشرقة الفرنسية التى طلب منه الرئيس السادات اصطحاب أشرف مروان إليها صحفية إسرائيلية مقيمة بشكل دائم فى باريس.

أغلق أنيس منصور الخط وجلس على مقعد مجاور للهاتف يلتقط أنفاسه يعزى نفسه فى فقدان صداقة طويلة وطيدة مع نزار قبانى، وفى تفكيره غضب مما فعله الرئيس السادات معه، بينما قرر نزار فى باريس أن يذهب إلى تامار جولان مع أول ضوء للصباح.

وعندما فتحت تامار بابها للشاعر الكبير الذى ظل يشرب تقريباً طيلة ساعات الليل وهى شبه عارية بملابس النوم صفعها نزار على وجهها وسبها بالفرنسية واصفاً إياها بالعاهرة الصهيونية وبعدما أغلقت بابها استند نزار على أقرب حائط وأفرغ معدته بسبب الغضب.


بالتوازى مع تلك الأحداث مر لقاء مروان مع ميشا فى لندن بشكل روتينى، ثم فاتح مروان ميشا محذراً جهاز الموساد من سهولة كشف تامار جولان، وعندما حاول ميشا التقليل من شأن معلوماته منكراً معرفته بتلك السيدة واعتبارها غير ذات جدوى، باغته صهر الرئيس جمال عبد الناصر بمعلومة مقابلته لها بلندن عام 1970 وأنه أدرك حقيقتها منذ الوهلة الأولى مؤكداً لميشا أنه التقاها للمرة الثانية بالصدفة البحتة فى باريس وقد تخفت بهوية صحفية عاملة لحساب شبكة BBC وأن لها صالوناً ثقافياً شهيراً.

عندها أجبر مروان المراوغ ضابط الموساد ميشا على الابتسام بعد أن استفز ملكاته وبدا وقتها وكأن مروان درس على مر الأعوام نفسية ضابط عمليته أكثر مما درسه ميشا خبير علم النفس فى شخصية مروان.

اضطر ميشا ساعتها أن يحاور ذكاء مروان الذى أكد أنه كشف جانيت من النظرة الأولى لأنه لا ينسى وجه المرأة الجميلة خاصة لو أنها إسرائيلية على حد تعبيره ذلك اليوم فى لندن.

وعندما استفسر مروان من ضابط عمليته عن كيفية التصرف إذا قابلها مرة أخرى نصحه ميشا أن يتجاهل تواجدها وألا يلفت إليها الأنظار وشدد عليه ألا يتحدث مع أحد فى مصر عنها مهما كانت الأسباب.

وفى هذه الأثناء شعر ميشا أن واجبه نقل الحوار مع معلومات مروان إلى تل أبيب فوراً، فهاتف قيادة الموساد من شقة اللقاءات التى اشتروها بربع مليون جنيه استرلينى لعملية مروان بمنطقة «ماى فير» التجارية الراقية التابعة لبلدية «ويست منستر» مركز أعمال وتجارة وسط لندن.

وبعدما شرح ميشا الوضع والملابسات إلى اللواء «إسحاق حوفى» مدير جهاز الموساد الإسرائيلى فى الفترة من 1 إبريل 1974 وحتى 1 سبتمبر 1982 كلفه حوفى بإطلاع مروان على قشور العملية مادام تعرف على بطلتها ربما تعاون معها مستقبلاً.

أغلق ضابط العمليات ميشا الهاتف مع تل أبيب وقد حصل على الضوء الأخضر من قائده الأعلى لتبادل المعلومات مع مروان عن العميلة تامار جولان وقبلها أثنى على ذكاء أشرف مروان وسرعة بديهته وذاكرته الفولاذية ثم قدم ميشا له الشكر لحرصه على حماية عميلة مهمة لإسرائيل أثناء أدائها لمهمتها الرسمية بميدان العمليات فى باريس.

وفى الحوار طلب ميشا من أشرف مروان الاستعداد للتعاون بعد شهور قليلة مع العميلة تامار جولان فى القاهرة عندما ستقترب من الفريق أول محمد عبد الغنى الجمسى دون منحه أية تفسيرات إضافية.

تأكد أشرف مروان أن العملية لا علاقة لها باغتيال الجمسى لكنها محاولة للتقرب منه فشعر بالارتياح ثم تظاهر أمام ميشا برفضه لفكرة محاولة جهاز الموساد الدفع بضابطة عمليات خاصة للاقتراب من الجمسى حتى لو كان الأمر لمجرد استمالته وليس لتجنيده.

فطلب منه ميشا تنفيذ المطلوب دون نقاش ووسط الحوار سقط ميشا بالحديث بعدما أوقعه مروان المخضرم كاشفاً أن أصل الفكرة يرجع لوزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر وأن تقريراً حرره كيسنجر عن الجنرال الجمسى هو أساس الخطة الإسرائيلية الطموحة.

استدرج أشرف مروان ضابط تشغيله ميشا الذى وثق به ثقة عمياء فحكى ميشا أن كيسنجر حرر بخط يده مساء الاثنين الموافق 14 يناير 1974 بمقر إقامته بفندق «كتراكت» بأسوان تقريراً سرياً للغاية. سجله عقب لقائه مع الرئيس السادات والجمسى للتباحث النهائى حول شروط التوقيع على اتفاقية فض الاشتباك الأولى التى وقعت فى جنيف السويسرية بتاريخ 18 يناير ,1974 وفى خضم ملاحظاته كتب كيسنجر واصفاً الجمسى أنه صاحب قلب إنسانى رقيق وعقل عسكرى من فولاذ يهدد مصالح واشنطن ناصحاً وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA ببذل الجهد لمحاولة استمالة الجمسى بهدف تحقيق المصالح الأمريكية العليا بنظام السادات مع تحييد دور الجمسى المعارض وربما الإطاحة به بغرض تمرير مفاوضات السلام مع مصر طبقاً للشروط الإسرائيلية.

المثير أن نصيحة وزير الخارجية هنرى كيسنجر بشأن استمالة الجمسى قوبلت برفض تام من «وليام إيجان كولبى» المدير العاشر لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA فى الفترة من 4 سبتمبر 1973 حتى 30 يناير ,1976 الذى شدد على أن فكرة هنرى كيسنجر بشأن الجمسى ساذجة وتتضمن مخاطر غير عادية لدرجة أنها تهدد الدور الأمريكى بالشرق الأوسط برمته حال اكتشفت مصر والسادات ما يحاك ضد الجنرال المصرى القوى مساعده فى المفاوضات.

وعلى عكس وليام كولبى تلقفت الفكرة السيدة «جولدا مائير» الثابت شغلها منصب رئيس الوزراء الإسرائيلى - الرابع - فى الفترة من 17 مارس 1969 حتى استقالة حكومتها بتاريخ 3 يونيو 1974 - وعلى ضوء التفاصيل قابلت جولدا مائير وزير الخارجية الأمريكية هنرى كيسنجر بمنزلها بمدينة القدس واستمر اللقاء بينهما بداية من الرابعة عصراً حتى الخامسة والنصف عصر الثلاثاء الموافق 15 يناير 1974 وفى ذلك اللقاء وضعت جولدا أول تصور للسعى وراء الفريق أول محمد عبد الغنى الجمسى.

ومن معلومات ميشا التى كشفها للدكتور أشرف مروان يبرز توثيق معلوماتى أثبت أن جولدا مائير سلمت ملف الجمسى مع تقرير كيسنجر تلك الليلة 15 يناير 1974 بشكل رسمى للواء «تسفى زامير» - تسيفيكا - مدير جهاز الموساد فى الفترة من 1 سبتمبر 1968 حتى 1إبريل 1974 غير أن زامير لم يكمل العملية واضطر للتقدم باستقالته الرسمية صباح الاثنين الموافق 1 إبريل 1974 بعد ساعة واحدة من صدور أولى توصيات لجنة أجرانات عن أسباب هزيمة جيش الدفاع الإسرائيلى أمام الجيش المصرى فى حرب أكتوبر 1973 ليكمل المهمة بعده اللواء اسحاق حوفى الشهير باسم «حاقا».

وسأكشف فى الحلقات التالية التفاصيل الكاملة مع كل الأسباب الخفية التى دفعت وزير الخارجية الأمريكية هنرى كيسنجر ثم جولدا مائير ومن ورائهما جهاز الموساد للتفكير بشأن الجمسى بالذات بعدما فاضلوا بينه وبين قيادة مصرية دبلوماسية شهيرة.

المهم لم ينته اللقاء المثير للغاية بين الدكتور أشرف مروان وضابط تشغيله ميشا بمنزل الموساد الآمن بضاحية «ماى فير» وسط لندن فقط عقب تلك المعلومات التى لا تقدر بثمن بالنسبة للرئيس السادات ومصر.

بل كشف ميشا بالحوار دون قصد وتقديرا منه أن مروان والجمسى وأنيس منصور لم يكونوا المصريين الأكثر شهرة الذين صادفوا «تامار جولان» حيث تعثرت فيها بطريق الصدفة سيدة الغناء العربى «أم كلثوم» أثناء حفل غنائى نظم لها بتونس صادف وجود جولان حيث وقعت ليلتها حادثة مهمة للغاية سجلها ملف الصحفية نقيبة الموساد.

استغرب أشرف مروان من معلومات ميشا المتعلقة بالسيدة أم كلثوم ولم يفهم وقتها السر وراء ظهور تامار جولان كصحفية متخصصة فى الشئون الإفريقية لسيدة الغناء العربى أثناء إحيائها حفلاً غنائياً فى تونس بتاريخ 31 مايو 1968 غنت فيه قصيدة «الأطلال».

عاد الدكتور أشرف مروان إلى القاهرة بعدما نفذ خطة الرئيس السادات وفى المطار بلغه أن الرئيس بانتظاره داخل استراحة القناطر الخيرية وكان مروان يعلم أن لقاءات الرئيس السادات فى استراحته الرئاسية بضاحية القناطر خصصها للملفات عظيمة السرية التى لا تقبل التأجيل.

اصطحبت السيارة الحكومية أشرف مروان إلى مقر الرئيس السادات الذى قابل مروان بالترحاب مهنئاً إياه بسلامة الوصول لأرض الوطن طالباً منه الجلوس حتى يقص عليه التفاصيل مع كل ما مر عليه فى باريس ولندن.

فأفرغ مروان جعبة أسراره فى حجر الرئيس حتى وصل بحديثه إلى معلومة السيدة أم كلثوم التى توفيت بتاريخ 3 فبراير 1975 ما أثار الرئيس السادات وانتزع منه الحزن ليترحم عليها وعلى فنها الجميل.

أنهى الرئيس السادات ومروان واللواء فوزى عبدالحافظ الذى حضر الجلسة كعادته قراءة الفاتحة على روح سيدة الغناء العربى ثم شرع مروان فى شرحه للتفاصيل خاصة معلومات ميشا المؤكدة عن تامار جولان.

وحتى يقطع الشك باليقين طلب الرئيس السادات اللواء كمال حسن على لأخذ مشورته فيما يخص سيدة الغناء العربى ففجر حسن على معلومات سرية أكدت أن «فاطمة إبراهيم السيد البلتاجى» الشهيرة باسم أم كلثوم صدر لها من الرئيس جمال عبدالناصر قرار خاص سرى للغاية اعتبرها ثروة قومية وملف أمن قومى مصرى.

فى تلك اللحظة عاد الرئيس السادات بذاكرته لتلك الأيام الخوالى إبان عهد الرئيس جمال عبدالناصر وهما يشهدان حفلات أم كلثوم وجولاتها حول العالم لحساب المجهود الحربى وتنهد السادات وكأنه يتحدث إلى الماضى قائلاً:

«والله فيك الخير يا جمال خير ما عملت الله يرحم الاثنين لأنهم فى دار الحق».

ثم عاد ليستمع إلى معلومات اللواء كمال حسن على الذى أكد أن جميع رحلات السيدة أم كلثوم خارج مصر منذ 1 يناير 1955 حتى يوم عودتها من الولايات المتحدة الأمريكية ووفاتها بمصر فى 3 فبراير 1975 صاحبتها عناصر مصرية محترفة عملت لحمايتها بسبب قيمتها القومية بالنسبة لمصر.

وأن مسألة التأكد من معلومات ميشا بشأن السيدة أم كلثوم والصحفية تامار جولان فى تونس لن تكون مستحيلة بل بالتأكيد يوجد للواقعة بنسبة كبيرة يومية رسمية سجلتها.

وبمطالعة يوميات حراسة سيدة الغناء العربى أم كلثوم فى رحلاتها إلى الخارج برزت بالفعل واقعة سجلت فى تونس أثناء إحيائها حفلاً غنائياً فى 31 مايو 1968 غنت فيه السيدة أم كلثوم «الأطلال».

فى تلك الليلة تقدمت إحدى الصحفيات الأجنبيات من غرفة السيدة أم كلثوم قبيل دقائق من بداية الحفل وأصرت على دخول غرفة الفنانة المصرية الكبيرة لالتقاط صورة لها معها وأخذ تصريح شخصى منها لحساب شبكة BBC وعندما تدخل الأمن بهدوء فى محاولة لإبلاغها أن ذلك ممنوع بأمر أم كلثوم نفسها لأنها عادة ما تركز بقوة وتقرأ القرآن وتراجع أبيات القصيدة قبيل الصعود على المسرح ثارت الصحفية حتى سمعت أم كلثوم ما يحدث من جلبة وحوار أمام غرفتها، فطلبت إدخال السيدة الأجنبية التى تصيح بالفرنسية على الحراس ومنظمى الحفل.

وعقب استقبالها لها قدمت تامار جولان نفسها للسيدة أم كلثوم باسمها الحقيقى كصحفية يهودية إسرائيلية تعمل كمراسلة لحساب شبكة BBC وصحيفة الأوبزرفر متخصصة بالشئون الإفريقية وتقيم فى باريس.

فوجئت السيدة أم كلثوم بذلك الموقف الذى يمكن أن يستخدم ضدها وضد مصر، فقررت التعامل مع الموقف بدبلوماسية وحزم فقالت موجهة حديثها إلى الصحفية تامار جولان باللغة العربية بينما ترجم لها منظم الحفل الحديث إلى الفرنسية:

«أظن أنى آخر إنسان على الأرض يرغب رؤية وجهك ولو كنت إنسانة عادية لاستقبلتك فى بيتى بمصر لكنك غير ذلك وأرى من حقى أن أطردك حالا من أرض غرفتى العربية كما ستطردكم مصر وجيشها العظيم من أرضها قريباً وحتى ذلك اليوم لا أرغب فى لقائك فتفضلى بهدوء خارج غرفتى».

انتهت أزمة الصحفية الإسرائيلية تامار جولان مع سيدة الغناء العربى أم كلثوم بتونس ومن يعود إلى الجرائد الفرنسية الصادرة صباح 1يونيو 1968 سيجد أخباراً قصيرة للغاية عن طرد السيدة أم كلثوم لصحفية إسرائيلية فى تونس كانت هى تامار جولان.

أما عن سر ظهور تامار جولان علانية بالقرب من شخصيات مصرية وعربية وإفريقية هى قمة الشهرة وبؤرة الأضواء وتعمدها منذ عام 1967 افتعال المشاكل وإبراز الأنباء صحافياً وإعلامياً فأجاب الرئيس السادات بخبرته نيابة عن الحاضرين.

حيث اكتشف أن أسلوب بناء هويتها الصحافية بالموساد اعتمد على وضعها تحت الأضواء الإعلامية الملتهبة حتى يذاع اسمها بالعالم على أنها صحفية الشئون الإفريقية تامار جولان التى طردتها السيدة أم كلثوم مثلاً وعليه اختصر الموساد الطريق ووفر أعواماً يحتاجها كل عميل لتحقيق استقرار وتأكيد هويته المزيفة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.