بقدر حبى الشديد لمصر والذى لا أتصور أن أحداً يحبها مثلى - هكذا يتصور كل حبيب مع محبوبته - وعلى قدر عشقى لتراب أرضها، وعلى قدر ما تعادل حضارتها 3000 ضعف الحضارة الأمريكية، إلا أن الصدمة الحضارية التى أصابتنى لما شاهدته وعشته ولمسته فى أمريكا، جعلنى أتأسف على (معشوقتى) أم الدنيا، التى مازالت تعيش فى عباءة الماضى وتتغزل فى حضارتها دون أن تحاول - مجرد محاولة - لصنع مستقبلها، فى الوقت الذى يجرى فيه غيرها بسرعة الصاروخ نحو مستقبل ليس فقط أفضل.. بل حالم لأبنائه.. أقصد أمريكا، التى لا تبحث عن المظهر.. لكنها تبحث عن الجوهر. وإن كنت أتصور أن هناك شيئين لو تخلت عنهما أمريكا حقا ستكون (سيدة العالم) عن جدارة، وهما (البلطجة) بأن تفرض سيطرتها ونفوذها وقوتها على العالم وفق أهوائها وأغراضها، و(معاداة الإسلام) تحت مسمى التطرف والإرهاب لتحقيق مصالحها.
الغريب الذى لم أفهمه حتى الآن.. كيف لأمريكا أن تتصدى لقضايا الحرية وهى أحيانا تمارس القمع؟! وكيف تتصدى لقضايا القهر وهى أحيانا تمارس القهر؟! وكيف تتصدى لقضايا الظلم وهى فى كثير من الأحيان تظلم؟! إنه حقا مجتمع متناقض، ولكن ما يشفع لتناقضه أنه فعلا عالم منجز.. وإنجازه الأكبر يكمن فى إطلاقه لحرية التعبير عن الرأى واحترامه لكل من يعيش على أرضه تحت مظلة دولة القانون.
كل هذه الخواطر جاءتنى وأنا أعيش أجواء الدورة الثانية لمهرجان (تكساس) للفيلم العربى الذى تنظمه مؤسسة (camcsi)- (الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة) بالتعاون مع (اليونسكو) والذى استمر أسبوعا وشاركت فيه تسع دول عربية هى: (مصر) و(العراق) و(فلسطين) و(الأردن) و(لبنان) و(السعودية) و(سوريا) و(تونس) و(اليمن) .. اللافت أن معظم الأفلام المشاركة والتى وصل عددها إلى 30 فيلما يجمعها هم واحد هو هم بحث الإنسان العربى عن الحرية وعن موضع قدم له فى عالم خالٍ من القهر والظلم والعبودية المجتمعية، وأن يحيا حياة آمنة فى ظل وطن هادئ خالٍ من الحروب والأوجاع، فنرى معاناة الشعوب من الحروب والدمار وحياة المخيمات والملاجئ فى أفلام (اسمى محمد) و(أسطوانة الحرب) و(طيور نسيمة) و(عيد ميلاد سعيد) و(أطفال الحرب)- من العراق - والتى تحكى عن استمرار حرب المصالح الشخصية بعيدا عن مصلحة الوطن رغم انتهاء الحروب الفعلية، وحلم أطفال العراق للعودة للحياة، والشعور بالحرية مثل الطيور، وكيف أن الحروب حرمت أطفال العراق من الاحتفال بأعياد الميلاد مع آبائهم فاحتفلوا بها على قبورهم، وهى أيضا نفس معاناة الشعب السورى كما صورها فيلم (العودة إلى الوطن) من خلال المقاومة الشعبية ضد فساد النظام القمعى، وهو نفس الدور الذى لعبته ومازالت تلعبه المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلى منذ احتلالها عام 1948 أملا فى تحرير الأرض، من خلال الفيلمين الفلسطينيين (لما شفتك) و(إسماعيل)، وإن كان الإحساس يختلف بين مقاومة فلسطينية مشروعة ضد احتلال عدو يقهر ويظلم شعوب غريبة عنه، وبين مقاومة سورية اضطرارية ضد نظام - للأسف - يقهر شعب هو منهم وهم منه، وهو كذلك نفس حال المقاومة اللبنانية التى تضامنت مع القضية الفلسطينية ضد العدو الصهيونى الذى تسبب فى تهجير الفلسطينيين وتشريدهم من أراضيهم إلى كل بقاع الدنيا ومنها مخيم (عين الحلوة) فى لبنان، وكيف أن الصورة الفوتوغرافية قادرة على تسجيل كل الذكريات بحلوها ومرها وتحديدا ذكريات المعاناة من الحروب والدمار والويلات التى عاشتها الأجيال المتعاقبة، وذلك من خلال الفيلمين اللبنانيين (العالم ليس لنا) و(ستديو بيروت).. قضية المعاناة المجتمعية صورها الفيلم المصرى (أم أميرة) من خلال امرأة تعانى من عجز زوجها القعيد والذى لا مورد رزق له، وابنتها المصابة بمرض خطير فى القلب وتحتاج لجراحة ملحة عجزت عن إجرائها فى المستشفيات الحكومية التى تعانى من الإهمال الجسيم، ولم تجد أمامها سوى المستشفيات الاستثمارية لإنقاذ حياة ابنتها، ولكن كيف لها تدبير نفقات هذه المستشفيات فى ظل ظروفها الصعبة، فتضطر لبيع البطاطس المقلية، إلا أن القدر كان أسرع منها فى إنهاء حياة ابنتها. نفس المعاناة نراها فى الفيلم التونسى (سباط العيد) - أى حذاء العيد - من خلال الطفل الفقير الذى يساعد كل جيرانه من كبار السن والمقعدين، وفى يوم العيد يذهب لشراء حذاء جديد مع والده الذى يعجز عن دفع ثمن الحذاء الذى يختاره الابن، فيعود حزينا ليجد الحذاء قد سبقه إلى البيت بعد أن اشتراه له جاره القعيد الذى كان يقضى له احتياجاته والذى تصادف وجوده فى المحل، فآثر أن يفرحه كما أسعده الطفل كثيرا. قضية البحث عن الحرية.. سواء حرية المرأة، أو حرية العقيدة أو حرية الفكر، نراها فى أفلام (وجدة) السعودى والذى تحلم فيه الفتاة بشراء دراجة هوائية وقيادتها فى الشارع مثل الشباب، وتلبى لها الأم أمنيتها، و(إحساس الحياء) الجزائرى الذى تعانى فيه فتاة محجبة تدرس فى فرنسا من الخجل وفى نفس الوقت من اضطهاد المجتمع للمحجبات، فتضطر لخلع الحجاب لتتمكن من دخول الامتحان، و(البيت الكبير) اليمنى الذى يتطلع فيه أبناء الوطن لحرية الفكر والتعبير عن الرأى.
فى النهاية علينا أن نتوقف أمام هذه الحزمة من الأفلام التى نقلت صور المعاناة المختلفة التى يعيشها المجتمع العربى.. ما نقلته هذه الأفلام فى معظمه أمر واقع واجب الالتفات إليه، ولكن يبقى السؤال: هل هذه الأفلام فعلا وضعتنا أمام الصورة التى من أجلها يجب تعاطف المجتمعات الدولية معها، والبحث عن حلول فورية وجذرية لها، أم أنها جاءت لتشويه صورة الإنسان العربى والإساءة إليه تحت مسمى حرية التعبير عن الرأى.