عام مضي علي غياب صديقي الذي أحبه د. مصطفي محمود. والسؤال الذي أطرحه علي نفسي منذ رحيله صباح 31 أكتوبر «تشرين أول» عام 2009 هو هل مات فعلا مصطفي محمود؟ أم أن الذي مات هو الجسد فقط! والإجابة الواعية تقول إنه لم يمت، بل هو حي يعيش بيننا من خلال الصرح الشامخ الذي تركه لمصر في شارع جامعة الدول العربية وميدان مصطفي محمود بحي المهندسين. أذكر أنه عندما بدأ مصطفي محمود يفكر في بناء مسجد محمود لم يكن يبغي سوي تخليد اسم والده في مكان يذهب إليه الناس ليقتربوا من الخالق عز وجل. أما المستوصف والمستشفي وتوفير الخدمة الصحية للفقراء فقد كانت لإحساسه العميق بأن هذه الخدمة يجب توفيرها للفقراء بقروش قليلة. وكان هو أحد المحتاجين إليها في صدر شبابه. فالدكتور مصطفي محمود لم يكن دراسًا للطب من أجل الطب، ولكن لكي يكتشف سر الإنسان، ويحاول معرفة ذلك النظام الدقيق الذي بداخل جسد الإنسان. لهذا يروي لنا مصطفي محمود بأنه عندما كان طالبا بالسنة الثانية كلية طب «قصر العيني» ويدرس علم التشريح كان يستغرق في دراسة جسد الإنسان ليس لكي ينجح في الامتحان، ولكنه كان يبحث عن السر وراء هذا الإبداع المعجز والنظام الدقيق لجسد الإنسان لدرجة أنه في بداية حضوره لمحاضرات علم التشريح في مشرحة قصر العيني.. انتهت المحاضرة، وانصرف الأستاذ والطلبة، وأغلق الفراش المشرحة، ثم فوجئ بعد ساعة بمن يطرق علي باب المشرحة مناديا: افتحوا الباب.. أنا محبوس جوه! وكان مصطفي محمود هو الطالب الذي انغمس في تأمل جسد الإنسان فلم يشعر بانتهاء المحاضرة أو انصراف الطلبة. ويعيش بيننا اليوم د. مصطفي محمود من خلال ما تركه لنا.. مستشفي محمود بشارع النيل الأبيض بالعجوزة، وهو مجهز بأرقي وأحدث الأجهزة. والصرح الشامخ في ميدان مصطفي محمود بشارع جامعة الدول العربية الذي يقدم خدماته للفقراء والمحتاجين والذين يصل عددهم إلي ما يقرب من مليون متردد علي العيادات المختلفة سنويا. ويشرف علي هذا الصرح الشامخ مجموعة من كبار أطباء قصر العيني. ويدير المنظومة الرائعة التي تركها لمصر مصطفي محمود مجلس إدارة من المتخصصين في مختلف التخصصات الطبية دعاهم مصطفي محمود لتقديم الخدمة تطوعا في البداية! وبعد مرور أربعين يوما علي وفاة مصطفي محمود أقام مجلس الإدارة حفل تأبين تحدث فيه الكثيرون وكان يحضره معالي وزير التضامن الدكتور علي المصيلحي.. وأثير موضوع جودة الخدمة الصحية في مؤسسة مصطفي محمود الخدمية. وذكر رئيس مجلس الإدارة أنه أحيانا يضطر لرفع مساهمات المترددين لكي يحافظ علي تقديم الخدمة الجيدة. حيا معالي الوزير د. علي المصيلحي هذا الاتجاه في التفكير، ولكني أحسست في داخلي أن مثل هذا الاتجاه في التفكير لا يتفق وما كان د. مصطفي محمود يسعي لتحقيقه من خلال جمعية مسجد محمود. فالجمعية تعتمد أساسا علي تبرعات أهل الخير وعلي ما يقدمه أبناء مصر من زكاة وتبرعات لمثل هذه المؤسسات التي تقدم خدمات صحية واجتماعية للمواطنين المحتاجين وكل دخل مصطفي محمود شخصيا. وأذكر أن عددا كبيرا من الأصدقاء وزملاء الجامعة الذين وفقهم الله ونجحوا فيما أقاموه من مشروعات طلبوا مني زيارة د. مصطفي محمود للتبرع لمشروع المسجد والمستشفي وتقديم الخدمة الصحية بقروش قليلة للفقراء والمحتاجين. كنت أصحبهم إلي مكتب د. مصطفي محمود في الجامع وأتركهم معه وأنصرف. وأعتقد أن هذا السيل من المتبرعين مازال يتردد علي مسجد محمود. لهذا لم أناقش في حفل التأبين موضوع زيادة الأجر لتقديم خدمة جيدة، فالخدمة الجيدة يجب أن تتوافر ليس من مساهمات الفقراء، ولكن من تبرعات أهل الخير وهي والحمد لله وفيرة ومتصلة! وهناك موضوع آخر أحب أن أثيره في ذكري رحيل مصطفي محمود وهو: لماذا لا يوجد أحد من أسرة مصطفي محمود في مجلس الإدارة؟ أذكر أن الدكتور مصطفي محمود في حياته عين ابنه أدهم بعد تخرجه في كلية التجارة مديرا عاما لمؤسسة مسجد محمود. ولست أدري لماذا لم يستمر أدهم مصطفي محمود في إدارة المؤسسة؟ هل هو الذي ترك أم أن رفاقه اكتفوا بوجود د. مصطفي محمود واستغنوا عن ابنه الذي كان قليل الخبرة في البداية! والسؤال البديهي الذي يجب أن نطرحه اليوم: من يرث مصطفي محمود.. أسرته أم رفاق الطريق وأبناؤهم؟! لقد أقام مصطفي محمود صرحا مهما يخدم المجتمع المصري فهل نترك هذا الصرح يتوارثه أبناء رفاق الطريق ولا يكون هناك أي أثر لابني مصطفي محمود أدهم وأمل، وأحفاد مصطفي محمود أولاد أدهم وأمل؟! هذا السؤال يجب أن يطرحه مجلس إدارة جمعية مسجد محمود وجمعية مصطفي محمود حتي يكون لأسرة مصطفي محمود وجود في هذا الصرح الكبير من أجل الحفاظ علي الفكرة الرائعة وتطويرها كلما احتاجت إلي التطوير بتطور المجتمع الذي تخدمه. أنني أعلم أن الدكتور مصطفي محمود اختار نخبة من الأطباء في مختلف التخصصات لكي يسهموا معه في إنشاء هذا الصرح وكان مصطفي محمود يضع كل ما يكسبه من كتاباته في هذا الصرح. مصطفي محمود وضع ثروته كلها في هذا الصرح، ولم يترك إرثا ماديا لابنيه أدهم وأمل، ولعل رفاق الطريق يفكرون في أن يضموا إلي مجلسهم واحدا من ابني مصطفي محمود ولتكن أمل مصطفي محمود لأنها لا تعمل وولداها كبرا وعلي وشك التخرج في الجامعة، وهي أيضا خريجة كلية الآداب. أمل مصطفي محمود هي الأقرب إلي ضرورة التواجد في مجلس الإدارة بحكم أنها الابنة البكر وبحكم أنها لا تعمل حتي اليوم لأنها تفرغت لخدمة والدها بعد وفاة أخته الحاجة زكية. وتساؤل آخر مهم وهو أن د. مصطفي محمود كان يهتم بالعلم، وكان لديه مرصد فلكي، ويقيم أسبوعيا ندوات تتحدث في أمور العلم والإيمان. ولعل برنامجه الشهير العلم والإيمان الذي أضاء بصيرة الكثيرين ممن شاهدوه في التليفزيون.. لماذا لا تقوم جمعية مصطفي محمود بتقديم هذه الحلقات في واحدة من قاعات المسجد حتي يتردد عليها الشباب لمشاهدتها.. إنها ثروة روحية تصلح لجميع الأجيال. وإذا كان التليفزيون لا يبثها، فلماذا لا تقوم جمعية مصطفي محمود ببثها أسبوعيا في قاعة الندوات بمسجد محمود؟! كذلك لماذا لا تقوم الجمعية بعقد الندوات لنشر قيم العلم والإيمان التي نادي بها مصطفي محمود والتعرف علي علم الفلك من خلال المرصد الذي اشتراه ومازال في المسجد. إن مسجد محمود ومستشفي محمود ومشروعات الصدقة الجارية التي ساعدت بعض الفقراء والمحتاجين علي بدء حياة كريمة لابد أن تستمر. إن الخدمة الطبية الجيدة للمحتاجين عمل جيد ويقوم عليه مجلس الإدارة خير قيام، ولكننا نحتاج إلي استكمال الفكر المتكامل للدكتور مصطفي محمود، وذلك من خلال نشر أعماله علي أوسع نطاق واستمرار دعوته بين الناس حتي تصبح جمعية مسجد محمود وجمعية مصطفي محمود منارة يهتدي بها الناس إلي الإيمان المعتدل الصحيح الذي يخدم الناس ليس بالكلام ولكن بالعمل. كان من الممكن أن يكتفي مصطفي محمود بالكتابة وكتبه الكثيرة تحمل آراءه وأفكاره للناس، ولكنه اختار وسيلة عملية يصل بها إلي عقل وروح وجسد الإنسان. فقام بعمل حلقات العلم والإيمان، وكتب المسرحيات والروايات والقصص القصيرة، وكتب خواطره وأفكاره في كتب كثيرة تجدها في المكتبات ثم قام ببناء المسجد والمستوصف والمستشفي لتكون الفكرة متكاملة ونطبق العقل علي الفعل. عام مضي علي رحيل مصطفي محمود وأتمني ألا يختصر رفاق الطريق أفكار مصطفي محمود إلي خدمات طبية فقط، ولكن نشر دعوته للعلم والإيمان هي أولي واجبات جمعية مسجد محمود وجمعية مصطفي محمود الكائنة بشارع جامعة الدول العربية وميدان مصطفي محمود.