بين الحين والآخر، وحينما تضيق بي الدنيا، أخرج أحد شرائط المطربة اللبنانية العظيمة فيروز، أطفئ النور، وأجلس لأستمع في الظلام، ليس لأني أحب الوحدة، أو أكره الضوء، لكنني اعتدت أن أستمع لفيروز دون أي مؤثرات، يأخذني صوتها في عوالم ساحرة، تغرقني الموسيقي وكلمات الأغاني في الخيال، وأهرب من الواقع لبضع دقائق، أعود بعدها للحياة وقد غسلت همومي كاملة. جاء صوت فيروز ساحرا كالعادة وهي تشدو بكلمات ابنها زياد رحباني: بتذكر آخر مرة شفتك سنتا بتذكر وقتا آخر كلمة قلتا وما عدت شفتك وهلق شفتك كيفك أنت ملا أنت بتذكر آخر سهرة سهرتا عنا بتذكر كان في واحدة مضايق منا هيدي أمي بتعتل همي منك إنتا ملا إنتا كيفك قال عم بيقولوا صار عندك ولاد أنا والله كنت مفكرتك برا البلاد شو بدي بالبلاد الله يخلي الولاد بيطلع عبالي أرجع أنا وياك إنت حلالي أرجع أنا وياك أنا وانت ملا أنت تعيدني تلك الكلمات إلي أكثر من خمسة وثلاثين عاما، ومن بين سحر صوت فيروز، وكلمات زياد رحباني تطل صورتك في حياتي مرة أخري، وأتساءل أيضا كيفك إنت.. هل صار عندك ولاد.. أين أنت.. في مصر .. ولا بره البلاد. حينما أسترجعك معي أشعر بطزاجة الحب الأول، حيث الكثير من المشاعر الطفولية.. أتذكر حين كنا نختلس لمسة يد سريعة في شارع مظلم حتي لا يرانا أحد، وكأننا بهذا الفعل البسيط العفوي قد اخترقنا عنان السماء. أتذكر القبلة الأولي سريعة مخطوفة مسروقة، لم تكن قبلة حقيقية، مجرد شفاه تلامست سريعا فأشعلت حرارة ومشاعر غير مسبوقة، لم نمر بها من قبل، تصورنا وقتها أن مثل هذه القبلة العابرة هي جواز ارتباطنا إلي الأبد، ولم نكن نعلم أن الحب الأول مثل كل الأشياء الأولي في الحياة ليست أكثر من اختبارات نمر بها لكنها ليست هي الحياة. أغرق من جديد في صوت فيروز، أحاول تصور ملامحك بعد هذه السنوات، وكيف أنني لم أرك منذ أكثر من عشرين عاما.. لكن هذه هي الحياة تمضي سريعا ولا يبقي سوي التعلق ببعض الأغاني والذكريات وكلمات زياد رحباني بصوت فيروز: كيفك إنت.. ملا إنت!