اللواء علاء الدين عبدالعزيز.. رئيس حي دار السلام.. رافض الرشوة بعشرات الآلاف من الجنيهات.. «ثمانون ألفاً» قابلة للزيادة مع كل توقيع بالموافقة منه. ليس غنيا «مستغني».. ولكنه مثل معظم أهل مصر يعيش وأهل بيته علي مرتب الوظيفة «رئيس حي».. ومعاش كلواء متقاعد. وظيفته أمارة بالسوء وسط ضعاف النفوس «راشون ومرتشون» من محترفي مخالفة القانون وسارقي أراضي الدولة.. ولكن القيمة والمبدأ وفخر الأبناء لا تقدر بثمن. يريد من الدولة أن تنظر إلي مرتبات موظفي المحليات.. ويقر بأن هناك مليون شيء يقول لموظف الحي «ارتشي» مقابل شيء واحد فقط يمنعه.. وهو الضمير. سألناه من أنت؟ فأجابنا قائلا: «اسمي اللواء علاء الدين عبدالعزيز مواليد 1957 وتخرجت في الكلية الحربية في 1 أكتوبر 1978 وأنا طالب في الثانوية العامة تطوعت في كتائب الدفاع الشعبي أثناء حرب أكتوبر. متزوج ولدي ولد وثلاث بنات، هم: دنيا وحاتم ونورهان وآخر العنقود ياسمين، دنيا فهي خريجة إرشاد وحاتم بكالوريوس تجارة ونورهان في الجامعة تدرس علوم الحاسب الآلي ونورهان في الصف الثاني الثانوي.. وفي النهاية أنا من قرر أن يكون بهذا الشكل والوضع». سألته: أي شكل وأي وضع؟ أجابني: «نشأت في أسرة فقيرة جدا، ودخلت إحدي الكليات ودون علم أهلي قمت بتحويل الملف إلي الكلية الحربية حتي أصبح ضابطا، وكان سبب قراري هو توفير مصاريف التعليم، فكنت وقتها في الحربية أدرس وآخذ جنيهات في الشهر، أصرف علي تعليمي وأعطي الباقي لوالدتي حتي أساعدها في مصروف البيت. من ثم فإن من يريد أن يفعل شيئا ولديه إصرار وإرادة يستطيع أن يفعل ما يريد، إن كان ما يريده خيرا أو شرا، وبالفعل أخذت ماجستير علوم عسكرية بتقدير امتياز.. قبل رئاسة الحي عملت في جميع المناصب القيادية. وأيضاً رفضت الرشوة.. ثمانون ألفا كبداية!؟ - «ما فعلته ليس صعبا ولا مستحيلا أن يفعله أي أحد، بل بالعكس هو الأساس والأصل.. لست بطلا ولكنني انتصرت للقيم والمبادئ التي تربيت عليها منذ نعومة أظافري والتي التزمت بها طوال حياتي العسكرية وسألتزم بها مادمت أتنفس وإلي أن يأتي قضاء الله. قاطعنا دخول رجل عجوز يتكئ علي عصا خشبية إلي مكتبه حيث كنا نجري الحوار.. وقد جاء يشكره ويدعو له بشدة لأنه قضي له حاجة وبعدما خرج ضحك اللواء علاء بصوت عال وقال: أنا إللي مأجر هذا الرجل، فضحكنا معه. وعاد ليكمل قائلا: «جائني مصريان، أحدهما يعمل في دولة الكويت، والآخر في الإمارات ويريدان البناء في 11 شارع الإمامية بعزبة خيرالله وهي أرض ملك دولة وكنت قبلها بيومين تقريبا أوقفت أعمال حفر هناك بتلك الأرض وحررت محضرا، وبالطبع أخبرتهما أن هذه الأرض ملك الدولة ولا يستطيع أحد البناء عليها، فقال أحدهما إنه لم يعلم ذلك عندما قام بالشراء هناك. ولأن القانون لا يحمي المغفلين فأخبرته أن الدولة ليس لها شأن بذلك، وأنني كرئيس حي دار السلام أعاقب إذا خالفت هذا الأمر لأن أرض الدولة معروفة، ولابد قبل شراء أي شيء أن يرجع إلي الحي ويسأل في إدارة المحليات عن أراضي الدولة والأراضي الخاصة والأراضي العامة فعرض 50 ألف جنيه ثمنا لموافقتي فقلت له بالحرف الواحد «اجروا من قدامي».. اعتبرت المسألة انتهت عند هذا الحد». لماذا.. وقد كان يمكنك الإبلاغ عنهما في هذا الوقت المبكر!؟ - نعم كان يمكنني ولكنني امتنعت لسببين.. الأول أن أفتح لهم بابا لمراجعة النفس وقد كنت صارما جدا في الرد الفوري بمعني آخر إعطاء فرصة لصحوة الضمير وتقويم النفس الضعيفة. والثاني: حجم الضرر الذي قد يقع علي أسرتهما من تشريد وإيذاء وكنت أتمني أن يفهما الرسالة.. ولكن محاولاتهما استمرت و معها الاتصالات وفي كل مرة يتأكد الإصرار ويزداد». قاطعته.. كم يوماً استمر هذا الإصرار؟ - فبادرني قائلاً: أسبوعين. ولم ينتبها!؟ - لا.. بل ذهبا إلي عضو في المجلس الشعبي المحلي الأستاذ عصام عبدالرسول الذي جاء إلي وقال: «الناس دول حبايبي وعايزين نخلصلهم المصلحة عشان أنا كمان لي مصلحة وأنت هيكونلك مصلحة». قاطعته متسائلة وما أول ما فكرت به والواضح أن «المصالح» كتير وستتكرر؟ - فأجابني مسرعا: «من غير تفكير وجدت نفسي أسأله سؤالا واحدا ومحددا وبملامح وجهي المستفهمة: إنت مش خايف أبلغ عنك؟ وبنفس السرعة رد وبمنتهي الاطمئنان قائلا: لأ.. طبعا لأنه محدش بيكره الفلوس، فأجبته بحدة أنا بقي بكره الفلوس إللي تيجي بطريقة غير قانونية وغير مشروعة، وعندما ذهب من مكتبي اعتقدت أنه لن يتحدث معي ثانية. ولكنه فعل!!؟ - «نعم .. بل زاد إلحاحه بالاتصالات». مش مصدق إن فيه حد بيكره الفلوس الحرام!! - «نعم لم يصدق.. وهنا أخذت الموقف وبعد أن تخوفت من أنه قد يجد مخرجا غيري أو أحد المساندين، ويستمر الفساد فأخبرت الرقابة الإدارية وطلبوا مني أن أجاريهم حتي يتم ضبطهم متلبسين بقضية الرشوة. وبالفعل عندما تحدث معي مرة أخري أخبرته بأن يأتي إلي مكتبي وسألته عايز إيه؟ قال لي سندفع لك 50 ألف جنيه ويبنوا علي أرض الدولة في الإمامية وكل دور زيادة 10 آلاف جنيه وهم يريدون بناء 3 أدوار يعني 80 ألف جنيه، فمثلت عليهم أنني طماع حتي يثقوا بي وأخبرتهم أن يعطوني فرصة ووقتا لأن هذه الأرض كنت سأستخدمها في شيء ما حتي أستطيع سحب جواب التخصيص وكان عصام وأحمد عبداللاه يجلسان أمامي وكنا قد وضعنا كاميرا في المصحف الذي بجوار المكتب ليصور المشهد والمايك علي الآلة الحاسبة، ووضعتهما فوق المكتب واتفقنا علي أن يتم التسليم في كازينو «سي هورس» وقبل أن يغادر مكتبي كان يتفق معي أن هناك أرضا أخري بالإمامية ويريد أن «يخلص فيها» فقلت له صبرك علي لما نخلص من الأولي، وهذه هي «الحدوتة بالكامل». فبادرته مؤ كدة.. لا.. هناك التفاصيل؟ - فقال لي مبتسما وعيناه تضخ بالحيوية والفخر: «في البداية اتفقت أنا والرقابة الإدارية علي خطة معينة، لكن عندما جاء إلي الكازينو كادت الخطة تفشل لأنه لم يحضر معه الفلوس ولم تكن هناك خطة بديلة. فقمت بارتجال خطة أخري وهي أن نخرج أمام السيارة وأجعل اتجاهنا أمام الكاميرا وكنت متفقا مع الرقابة الإدارية علي كلمة السر «دول كام» عندما آخذ الفلوس أقولها حتي يأتوا مسرعين لضبط عصام عبد الرسول وهو متلبس في قضية الرشوة. وبالفعل عندما أمسكت المقدم 10 آلاف جنيه قلت له دول كام ووضعتها في جيبي العلوي في القميص فأخبرني 10 آلاف وهو يكمل الجملة، كانوا قد تقدموا بالكاميرات وهو أتت له حالة هيستيرية، وقال صور ياسيدي صور، ثم قال إيه ده؟ وانتبه عندها أنه كمين وفي بادئ الأمر أنكر وقال إنني الذي طلبت منه الفلوس وعندما تمت مواجهته بالتسجيلات التي حدثت صوتا وصورة استسلم وتم وضع القيود في يديه ولم يكن معه الرجلان اللذان طلبا الخدمة وجعلاه الوسيط والمفاوض بيني وبينهما وتم ضبطهما وإحضارهما وهما الآن في النيابة». هل كانت الأسرة علي علم؟.. وكيف اكتشفت الأمر؟ - «في بداية الأمر لم أشعرهم بأي شيء ولم أخبر عائلتي وأبنائي بما يحدث وهم فوجئوا عندما أخبرهم الجميع أن صورتي في الجرائد، لكنهم كانوا يشعرون من خلال قلقي وتوتري لأن لدي مبدأ أن أي تسرب في هذا الموضوع حتي و إن كان بسلامة نية أو «زلة لسان» فسينتهي الموضوع وستفسد القضية. وعندما علموا ورأوا صورتي فعلوا ما سيفعله أي ابن وزوجة فكان الفخر والاعتزاز بي يملأ أعينهم والفرحة تكسو وجوههم، وقالت ابنتي: أنا فخورة بك جدا يا بابا، وقال ابني: ياريت كل الناس تعمل كده، وأنا لم أفعل ذلك حتي أسمع وأري هذه التعبيرات منهم فقط، وإنما مبدئي وانضباطي ونفسي القوية هما السبب في رفضي اختراق واعتراض القوانين مهما بلغ الثمن وأصحاب النفوس الضعيفة هم الذين يقبلون ذلك». هل هي أول محاولة رشوة تتعرض لها؟ - «هي أول رشوة بشكلها ومعناها الصريح، فقبل ذلك تعرضت لموقف، لكنه ناتج عن جهل شديد وحسن نية لسيدة عجوز تبيع الخضروات والفواكه طلبت من حفيدها إزالة الأقفاص، لأن ذلك يؤدي إلي إشغال طريق عام، وعندما رأتني السيدة جاءت مسرعة وقالت: والنبي يابيه إحنا غلابة خلينا هنا وخد إللي إنت عايزه كله تحت أمرك، معتبرين أن كل شيء في هذا البلد لا يتم إلا بمقابل، والمقابل هنا أن آخذ شيئا ليس من حقي. فالرشوة أيا كانت قيمتها وصورها هي رشوة وعادة تكون مقابل أعمال مخالفة للقانون، وحدث معي العديد مثل هذه المواقف، وبالطبع الذي يعرض الرشوة لابد أن يأخذ جزاءه لأنه إذا تركته قد يلجأ لغيري ليساعده. نأخذ بعين الاعتبار أن حالتك المادية كانت من دوافع ومبررات رفضك للرشوة؟ - «بالتأكيد لا، فأنا كما أخبرتك عشت في أسرة فقيرة وتفكيري بأن أصبح شخصا جيدا كان شغلي الشاغل وبالفعل كنت في الجامعة من المتميزين، لذلك بعد سنوات دراستي ذهبت في بعثة إلي إنجلترا، وبعدما عدت إلي مصر ذهبت في بعثة أخري إلي أمريكا، وهكذا وسفري وعملي هما نتاج ما أعيش فيه الآن من رغد الحياة، وأنا أري أن أي إنسان لابد أن يتعب حتي يكسب المال ويشعر به ولو كنت مازلت فقيرا كنت رفضت وفعلت مثلما فعلت الآن، ولكن هناك غيري كثيرين أنفسهم ضعيفة ويقبلون الرشوة في المحليات». ولكن.. وكما قال د. زكريا عزمي الفساد للركب في المحليات؟ - «لن أنكر هذا، وبالفعل لكن بدون تشجيع للفساد أنا ضد الخروج علي القانون، فأنا أريد من الدولة أن تنظر إلي مرتبات موظفي المحليات لأنها أدني مرتبات، فأكبر موظف مرتبه لا يتعدي 500 جنيه ولا يوجد لديه بديل. أنا علي الأقل لدي بديل وهو معاش من القوات المسلحة، وهو مبلغ يكفيني ولكن من ليس له بديل ماذا يفعل؟. هناك أشياء كثيرة ومغريات كبيرة يتعرض لها الموظف في الحي، ولا يوجد أي مانع يمنعه من أخذ الرشوة سوي شيء واحد مقابل مليون شيء يقول له أن يأخذ الرشوة.. وهو الضمير. من يمتلك ضميرا يقظا دائما ونفسا قوية وهو من يصمد أمام أي مغريات، وعادة موظفو المحليات أكثر أناس تقدم إليهم رشوة بسبب كثرة المخالفات الموجودة بالأحياء المختلفة، فلابد أن ترتفع مرتبات موظفي المحليات لأنها أضعف مرتبات علي الإطلاق. والفساد دائما يأتي من المخالف فلن تجد موظفا بالمحليات يطلب رشوة للانتهاء من أوراق رسمية وإنما المخالف هو دائما من يعرض وأحيانا يفكر الموظف أن هذا المحضر الذي حرره إذا قام بزيادة اسم أو نقصان اسم وأخذ مقابل ذلك 500 جنيه وهو مرتب شهر سيأخذه في دقائق، قد تضعف الرشوة نفسه وتغمض عينيه عن الحق والقانون وما هو مشروع. فالمحليات هي الثوب الأبيض والمفسدون نقاط سوداء في هذا الثوب ولابد أن نحافظ علي بياض هذا الثوب ولا نجعل المفسدين يلوثونه». ألم تخف علي عائلتك عندما أبلغت عن الشخص الذي قدم الرشوة..؟ - «بالطبع وضعت سلامتهم أمام عيني، ولكني أري أن أي شيء يحدث في سبيل تطبيق القانون هو جهاد وأهلي وعائلتي عهدوا المخاطر معي دائما.. ولا أعتقد أن تسوء الأمور هكذا ويزيدون الطين بلة بدلا من قضية رشوة تصبح قضيتي رشوة وجريمة قتل أو تهديد بعدم الأمان لأهل بيتي. وأنا أريد أن أقول شيئا لجميع الناس في مختلف تخصصاتهم، «امش عدل يحتار عدوك فيك» ولابد لكل شخص كلف بمهمة أن ينفذها ويستميت من أجل تحقيقها، وأن كل مواطن يجعل بداخله إصرارا وعزيمة بعدم التعدي علي القانون والخروج عنه ولا داع لمقولة الغاية تبرر الوسيلة، لأن سد الاحتياج بالرشوة «وسيلة قذرة» لا تقرها أعراف و لا أديان.