لم تطأ قدماي مدينة وتعلق بها قلبي.. وتمنيت ألا أغادرها مثل "الأقصر".. وشعرت لأول مرة في حياتي بمعني وقيمة كلمات أغنية فيلم "غرام في الكرنك".. وبالتحديد جملة "وكل عام وقت المرواح.. بتبقي مش عايزة تروح.. وتسيب بلدنا". وصلت بنا الطائرة عبر الساعات الأولي من الفجر.. أنا وزملائي يتقدمنا رئيس تحريرنا محمد عبدالنور، والفنان محمد طراوي ومي كرم وأماني زيان ومحمد عاشور ويارا سامي.. وأنا معهم. الطريق من المطار لمكان إقامتنا تضيئه الأنوار وتحيط به الأشجار.. وفوق رءوسنا تحلق البالونات "المناطيد" وتتطاير في سماء الأقصر. لم تغفل أعيننا.. استقبلنا شروق الشمس.. وبدأت رحلتنا التي استغرقت أربعة أيام، التي رافقنا فيها جوزيف الشايب مسئول العلاقات العامة بمحافظة الأقصر. - الأقصر بلون الذهب قال المؤرخ والشاعر اليوناني هوميروس عن الأقصر في النشيد التاسع من الإلياذة: "هناك في طيبة المصرية حيث تلمع أكوام الذهب.. طيبة ذات المائة باب.. حيث يمر في مشية عسكرية أربعمائة من الرجال بخيلهم ومركباتهم من كل باب من أبوابها الضخمة". و"طيبة" هو الاسم القديم للمدينة الساحرة "الأقصر".. التي أول ما يلفت انتباهك فيها.. هو اللون الذهبي، فقد تلونت بيوتها بلون آثارها.. ليست البيوت فقط، بل مبانيها الحكومية.. ومركز الشرطة.. ومحطة السكة الحديد التي شيدت علي الطريقة الفرعونية.. وعلي ما يبدو أن مسئولي المدينة لم يريدوا للأقصر أن تفقد أصالتها وعراقتها، فأبقوا عليها ومزجوها بالتطور الحضاري في صورة جميلة. ارتفعت أمام أعيننا محطة السكة الحديد.. بوابة جديدة تزداد بها بوابات الأقصر.. لوحة عمرانية مهيبة.. تتصدرها سلسلة من الأعمدة الفرعونية الشامخة واللمسات التراثية. قالوا لنا في الأقصر.. إن المحطة لم تكن كذلك قبل سنوات.. كانت كئيبة وحزينة ومعزولة عن مشهد المعبد، رغم عظمته وامتداده.. فقد كانت العشوائيات تحاصر المكان وتشوه الرؤية.. وتدمي القلب. زالت العشوائيات.. واتسعت الرؤية علي مشهد بانورامي من المحطة إلي المعبد. - أعظم دور عبادة في التاريخ معبدالكرنك، الذي استمرت أعمال التشييد والبناء فيه مدة ألف وخمسمائة عام.. وكان مهدداً بالزاول قبل عشر سنوات.. فقد حاصرته المياه الجوفية ودنست قواعد أعمدته المقدسة. طابور من الحناطير المستحماة في انتظار القادمين إلي المدينة.. ترددنا للحظة.. ولكننا قررنا السعي إلي المعبد، فهي تجربة خاصة جداً والطريق إليه جزء من المتعة. المعبد مجمع مذهل من المعابد الرهيبة.. تبلغ مساحته ثلاثة وستين فداناً.. بدأ تشييده الآله "آمون رع" وزوجته الملكة "موت" وابنهما الإله "خنسو" وتوالي عليه الملوك الفراعنة وسعي كل ملك إلي إضافة جزء جديد إلي المعبد. يروي تاريخ المعبد برنامج يومي يبث بكل لغات العالم بالصوت والضوء بين هياكله وأعمدته وتماثيله العملاقة الشامخة. سرنا ضمن الحشود الزائرة.. لحظة بداية العرض تسمرت أقدامنا جميعاً علي اختلاف أشكالنا وألواننا وثقافتنا وجنسياتنا ومعتقداتنا.. وخيم الصمت علي المكان.. وانطلق عبق التاريخ.. استدعي الماضي.. وعشنا فيه. ساعة ونصف.. هي مدة العرض.. واقفين علي أقدامنا.. لم نشعر بالوقت.. ولا بالتعب.. وعند البحيرة المقدسة تلألأت مياهها.. ولمعت أعيننا.. وتوالت الصور علي جدران المعبد، لتعلن عن نهايته. عند باب الخروج من المعبد قطعة كبيرة من الحجر الصلب رقد فوقها تمثال كبير لجعران.. قال جوزيف مرافقنا في رحلتنا: إن هذا الجعران مقدس.. وهو رمز للتفاؤل عند قدماء المصريين وقد حفر ونقش علي كثير من جدران المعبد والمعابد الأخري والبرديات.. وعندما ظهرت الكتابة الفرعونية استخدمت صورة الجعران لكتابة كلمة هي الفعل "خبر" وهذه الكلمة تحمل عند الفراعنة معني "يأتي إلي الوجود".. وتقول الكتب: "إن كلمة الجعران أحد الطلاسم الجنائزية الخاصة.. وكانت توضع بين طيات أكفان الموتي وكثيراً ما كانت تنقش عليها الفقرة الثلاثون من كتاب الموتي التي يوضح فيها السلوك المنتظر من القلب أثناء احتفال وزنه.. والتي تقول: "قلبي يا أوفي جزءاً من كياني.. لا تقف شاهداً ضدي أمام المحكمة.. لأنك الإله الموجود في جسمي وخالقي المحافظ علي أعضائي". حول الجعران دار عدد من الزائرين.. وقفت أتابعهم.. لم أنطق بكلمة.. ولكني عددت اللغات التي داروا فيها حول الجعران.. وفي طريق الخروج من المعبد.. سألت إحداهن.. قالت: يقولون إن من كانت له أمنية يريد تحقيقها.. يدور حول "الجعران المقدس" سبع مرات. استغرق خروجنا من معبد الكرنك عبر ساحته الواسعة الطويلة وقتاً طويلاً.. ومشينا خطوات كثيرة.. وفي الطريق قال جوزيف: هل تتصورون أن هذه الساحة كانت حظيرة لتربية الأغنام والماعز. لم أصدق ما سمعته.. وحمدت الله أنها أول زيارة لي.. ولم أشهد البهائم ترعي فوق رءوسي الآلهة.. وتدنس أرواح الملوك المسجاة تحت طبقات المعبد. - طريق الكباش يقول التاريخ: إن معبد الأقصر كان جزءاً متكاملاً من معبد الكرنك.. يوصل بينهما طريق يمتد تقريباً إلي ثلاثة كيلومترات، تحرسه الكباش. هذا الطريق أنشأه الملك أمنحتب الثالث صاحب واحدة من أشهر قصص الحب في التاريخ الفرعوني.. التي علي أثرها تزوج من حبيبته ابنة الشعب "تي"، ليرفعها إلي درجات الملكات. كان طريق الكباش تسير به المواكب المقدسة للملوك والآلهة وكبار الكهنة والوزراء ورجال الدولة في احتفالات مهيبة كل عام.. بينما يصطف أبناء الشعب علي جانبي الطريق يرقصون ويلعبون في بهجة وسعادة. يوجد علي جانبي الطريق الذي يبلغ طوله نحو ثلاثة كيلومترات وعرضه سبعمائة متر ألف وثلاثمائة وخمسون تمثالاً.. تأخذ التماثيل شكلين.. الأول جسم أسد ورأس إنسان.. والثاني جسم كبش ورأس كبش. تسمرت أقدامنا أمام الطريق وأعمال الكشف تجري فيه.. وصورة عمال ومهندسين يتصببون عرقا تحت شمس الأقصر العفية.. تم الكشف عن معظم الطريق تقريباً الذي كان يحيط به سور من الطوب اللبن لحمايته من أي تعديات. يقولون في الأقصر: إن هذا الطريق كان غارقاً في مياه الصرف الصحي.. وزراعات القصب.. ومساكن وعشش وزرائب وملاعب ومقابر الكومنولث. وأنت في طريقك هذا سيستوقفك "معبد الأقصر".. الذي بناه أمنحتب الثالث ورمسيس الثاني، الذي شيد صرحاً في مدخل المعبد يضم تمثالين ضخمين شامخين يمثلانه جالساً.. وقد أقام رمسيس مسلتين لتزينا مدخل المعبد.. مازالت إحداهما قائمة حتي الآن.. أما الأخري فتزين ميدان الكونكورد في العاصمة الفرنسية باريس. لا يمكن أن تنظر حولك في الأقصر.. إلا وتلمح عيناك لمسة تاريخية أو صرحاً تراثياً لجيوش وعصور قد مضت.. ولا يمكن أن تنسي فيها نصر أحمس علي الهكسوس.. ومازالت الأقصر تحقق النصر والإنجازات وتسجل بصمة للمصريين في القرن الحادي والعشرين من خلال خطة تطوير الأقصر.. ليس مبانيها وأعمدتها وآثارها فقط.. ولكن أيضاً البشر فيها. فاختلف الناس.. تطوروا مع تطور المدينة.. أصبحوا أكثر وعياً بها وحرصاً عليها.. شعروا بقيمة المكان وثرواته التي بين أيديهم.. أحبوها.. فأحبتهم.. وفتحت لهم أبواب الرزق.. - الأقصر بالأرقام ثلثا تراث العالم.. ثمانمائة مزار سياحي.. خمسة وثمانون فندقا.. واحد وأربعون مطعماً سياحيا.. مائة وسبع وسبعون شركة سياحية.. مائة وثمانون فندقاً عائماً.. خمسة وتسعون بالمائة نسبة إشغال الفنادق.. وتحت الإنشاء خمس قري سياحية.. وثمانية عشر فندقاً يشترط عليها أن يكون ثمانون بالمائة من العاملين فيها من أبناء الأقصر بشهادة الميلاد.. بالقرب من المعبدين يوجد مركز للاستعلامات السياحية، لخدمة جميع القادمين إلي المدينة من وفود أجنبيته ومصريين.. يستقبلك فيه بابتسامة مرحبة العاملون فيه، الأقصريون الأصل.. يقدم المركز الخدمات لجميع الوسائل البصرية والسمعية.. المركز مستعد لاستقبال الزوار طوال الأربع وعشرين ساعة.. ويتضمن شبكة الإنترنت.. أماكن للجلوس.. المعلومات بجميع لغات العالم.. ويعد أيضاً مركزا لرجال الأعمال.. وبهدوء تام.. يحصل الجميع علي ما يريد من معلومات.. - نحن.. ودنجلة يمر نهر النيل وسط الأقصر.. فيقسمها نصفين.. شرقاً حيث تشرق الشمس.. وغرباً حيث تغرب في مدارها حيث ترقد الحياة بسلام في وادي الملوك والملكات.. وادي الموتي. النيل في الأقصر له شكل ثانٍ.. فهناك المياه شفافة تحيط بها الجبال والآثار والأشجار.. أما مياهه فتحتضن المراكب الشراعية والبخارية والذهبية. الذهبية التي أطلق عليها اسم "دنجلة" واحدة من أشهر مراكب الأقصر وربما أضخمها.. تاريخ هذه الذهبية يقول إنه تم بناؤها في إنجلترا عام 5381. أول مالك لها كان السلطان حسين كامل وبعده الخديو عباس حلمي وتوفيق قبل الملك فاروق.. ثم آلت ملكيتها للفنان فريد الأطرش، لتصبح الأن ملكاً للفنان التشكيلي الأقصري محمد أحمد الصعيدي. الذهبية قصر متحرك فوق سفح النيل.. يقول الفنان الصعيدي: عندما امتلكت الذهبية.. كان هدفي تحويلها إلي مرسم خاص بي.. ولكن كثيرين طلبوا مني عدم الاستئثار بها لنفسي، فهي أثر وتراث من حقق جميع البشر الاستمتاع به. - سألناه عن سر اسم دنجلة.. فأجاب: عندما جاءت الكاتبة الإنجليزية إيميليا إدوارد أحدي كاتبات انجلترا الشهيرات.. أخذت الذهبية في رحلة من الدلتا حتي أسوان قبل بناء السد العالي.. وبالتحديد إلي بلد اسمها "دنجلة".. ومن هنا أطلق عليها هذا الاسم. - سألناه عن سر شهرة دنجلة.. فأجاب.. ربما لأنها كانت اليخت الخاص للسلطان حسين كامل قبل الملك فاروق.. وربما لأن أول من قام برحلة نيلية عليها كان رجل الأعمال البريطاني ورائد السياحة العالمية توماس كوك.. الأسباب عديدة وربما أيضاً لأن معظم ركابها وملاكها كانوا من الملوك والمشاهير. إذا التفت إلي البر الشرقي وأنت فوق "دنجلة" ستري لوحات ممتدة ليس لها مثيل المسجد والكنيسة والمعبد علي ضفاف النهر.. ولتري الأقصر وقد مزجت الماضي بالحاضر.. ولا أدري لماذا تذكرت أغنية "صورة" لحليم.. التي تقول كلماتها: خضرة وميه.. وشمس عفية.. وقبة سما زرقة مصفية.. ونسايم سلم وحرية.. ومعالم فكر ومدنية. ربما لأنها تجسد صورة الأقصر كما رأتها عيناي. - أم كلثوم في الأقصر ثلاثة شوارع رئيسية.. شاع معبد الكرنك.. شارع الكورنيش.. وشارع المحطة.. من هذه الشوارع تتفرع الطرق الجانبية التي توصلك إلي اتجاهات المدينة المختلفة.. إحدي هذه الاتجاهات وصلنا فيه إلي السوق.. والذي يطلقون عليه "السوق الإفرنجي"، حيث تتقارب المحلات والبازارات وتتشابك.. الحلي مع العطارة، مع الهدايا التذكارية.. تشتهر الأقصر بالمنتجات المرمرية.. والحنة والتوابل.. وفي أزقة السوق تنتشر محلات بيع الذهب والحقائب والبضائع الجلدية والأدوات المنزلية والهدايا التذكارية والمنحوتات النموذجية التي تشمل قوالب من الآلهة وملوك وملكات الفراعنة وورق البردي والمقاهي. وكان لابد لنا من استراحة قصيرة نلتقط فيها أنفاسنا.. وقادتنا أقدامنا نحو مقهي ينبعث منه صوت كوكب الشرق أم كلثوم تغني أمل حياتي ياحب غالي ما ينتهيش.. يأحلي غنوة سمعها قلبي ولا تتنسيش.. خذ عمري كله.. بس النهاردة خليني أعيش. وعلي أقرب مقاعد خالية.. جلسنا. للمقهي الشعبي مذاق خاص.. مكانه.. شكل الطاولات والكراسي فيه.. القهوجي.. حتي طبيعة الزبائن فيه. يدور القهوجي بين الطاولات بخطوات سريعة.. يلبي طلبات الزبائن، ويحمل أكواب المياه الباردة علي صينية يسيل منها الماء أيضاً.. وبحركة لا إرادية يدور بالفوطة علي الطاولات حتي يستقر الزبائن علي طلباتهم.. وتسمع صوت صاحب المقهي الذي اختار لقهوته اسم "أم كلثوم".. وهو يصيح علي طلبات الزبائن ليؤمنها صانع المشروبات بأقصي سرعة ممكنة. علي المقاهي يدور البوهيجي يحمل كرتونة بين يديه.. أشار أليه أحد زملائي.. في صمت وهدوء تسلل إليه.. ووضع الكرتونة تحت قدمية.. وسحب حذاءه، وعاد به بعد قليل نظيفاً لامعاً.. علي المقهي.. عرب وأجانب.. مشروبات ساخنة وباردة.. وشيش بمذاقات مختلفة.. تفاح، عنب.. فراولة.. وعلاقات حميمة بين الغرباء.. وبين الزبائن والقهوجي وصاحب المقهي إنها حالة إنسانية متفردة، بين ضحك.. ولعب.. وجد.. وحب.. وعلي أمل اللقاء مرة أخري.. - أجا ممنون لم يحط أثر من آثار الأقصر بما حظي به تمثالا ممنون الرابضان في إباء وشموخ وشمم علي الحد الفاصل بين الصحراء والوادي.. بين مدينة الأحياء ومدينة الموتي. وبالرغم من كونهما مجرد تمثالين من روائع إبداع الفنان المصري القديم.. إلا أنهما لها مكانة خاصة جداً لما يتميزان به من سمات لا تتوافر في أي أثر.. فأول ما يميزهما ضخامتهما المبالغ فيها.. وتصدرهما لمدخل المعبد الجنائزي للملك "أموتوفيس" أوامنحتب الثالث، الذي لم يبق من آثاره سوي هذين التمثالين العملاقين.. سمة أخري لهذين التمثالين هي تلك الأصوات الموسيقية التي كانت تصدر عنهما، فتؤنس وحدة المكان الساكن في مدينة الخلود بلحنها الشجي عند الفجر. وقد زعم مؤرخو اليونان أن أحد هذين التمثالين سكن روح قائدهم "أجا ممنون".. وأن تلك الموسيقي ليست سوي نجوي أجا ممنون لأمة التي كان يناجيها كل صباح بصوت حزين. أما الخيال الشعبي فقد صورهما حبيبين يتناجيان.. وأطلقوا عليهما اسم "شامة و"طامة".. شامة الحبيب وطامة الحبيبة.. والموسيقي نجوي الحبيبين. ونسي الناس اسم صاحب التمثال "أمونوفيس" أو "أمنحتب الثالث" والد أخناتون أول دعاة التوحيد.. وزوج الملكة "تي".. وظل اسم القائد اليوناني ممون صاحب الأسطورة الشهيرة عليها. مرت أيامنا في الأقصر التي تحتضن علي ضفتي نيلها أعظم حضارة عرفها التاريخ.. وحانت ساعة الرحيل.. وحقيقي ماكناش عايزين نروح. فلم تعد الأقصر مجرد آثار تاريخية ونماذج معمارية مهيبة.. ولكنها تحولت إلي كائن حي.. إلي إنسان سرت الروح فيه، لتصبح مدينة بدروبها وشوارعها.. آثارها وأعمدتها.. نهرها وجبالها.. أهلها وناسها.. فهل يدهشكم بعد كل هذا.. عشقي لها؟!