تأملت طويلا هذا القول المأثور أو الحكمة التى نتذكرها عند وقوع الحدث، ثم نتركها تعود للنوم بعد أن نفرغ شحنات الغضب والاستياء فى مقالات تنشر أو أحاديث نتبادلها فى التليفزيون أو الإذاعة. لماذا نتركها تذهب للنوم بكل مخزونها من الكراهية والحقد والمغالطات لتعود تفاجئنا بالاستيقاظ من حين لآخر وقد تكون أشد ضراوة من سابقاتها؟! ما موقفنا الحقيقى من الفتنة؟ لماذا لا نقدم للفتنة الكأس الملكية «كما تروى لنا مؤامرات القصور» حتى تتجرعه وتموت، ولا تعود للاستيقاظ مرة أخرى؟! هذا ما طاف ببالى وأنا أتابع ما يكتب وينشر ويبث عن الحدث الجلل الذى جرى ليلة عيد الميلاد فى نجع حمادى بالصعيد. وتوقعت نفس السيناريو الذى ننفذه فى كل مرة عندما تستيقظ الفتنة لنلعن الذى أيقظها، ونتبارى فى إيهام الناس بأن مصر بخير، وأن أبناء مصر من المسلمين والمسيحيين سوف يتعانقون ويتذكرون الماضى وأحداثه التى جرت فيها فتن طائفية فتغلبنا عليها بحكمة المصريين ووطنية الأقباط والمسلمين الذين يرفضون تلك الأحداث المارقة التى يبثها المتعصبون من الطرفين! وما أن تهدأ النفوس ويطوى النسيان الحدث حتى تعود الأمة إلى مسيرتها، وتذهب الفتنة إلى النوم بعد أن لعنها الجميع ألف مرة، وتذكر المصريون تلك المواقف التى جرت فى الماضى تأكيدا لوحدة الأمة، وأن الأقباط والمسلمين نسيج واحد فى وطن واحد وأن الفتنة أو التعصب أو الاتهام بالكفر شىء عارض وسوف يطويه النسيان! هكذا نظن! لا ياسادة.. لا شىء يطويه النسيان.. فالأقباط والمسلمون يعودون إلى منازلهم ويتجاذب كل منهم الحديث مع أهل بيته، ودون أن يقصد يجعل التعصب وعدم قبول الآخر حيا ويقظا فى النفوس.. وتذهب الفتنة إلى النوم فى صدر الجميع.. المسلمين والأقباط.. ولكنها باقية! والحقيقة يا قوم أن مصر يعيش فيها شعب فريد من نوعه وليس كبقية شعوب العالم.. شعب محب للسلام ويكد ويكدح من صباح ربنا لمساه.. شعب راض وقنوع ويؤمن بالقضاء والقدر وبما قسمه الله له. وهو شعب شديد الإيمان بالله سواء كان على ديانة آمون أو مسلما أو مسيحيا، والموت فى سبيل الله سنة مصرية عرفها أتباع آمون وماتوا فى سبيل القضاء على أتباع «رع» حتى عاد الجميع لديانة آمون. وعرفها أقباط مصر من المسيحيين عندما اضطهدهم العسكر الرومان وقتلوهم بالآلاف ليرتدوا عن دين الله.. ففضلوا الموت والاستشهاد على ترك المسيحية! وهكذا بدأ التقويم القبطى منذ عصر الشهداء ونحن اليوم جاوزنا منتصف شهر طوبة 1726.. والمسلمون والمسيحيون دافعوا عن الوطن خلال حروب إسرائيل المفتعلة وضد الإنجليز وتعرض المسلم والمسيحى فى مصر لرصاص الإنجليز.. والفتنة نائمة فى الصدور.. هذا تاريخ عشناه وعرفناه ومازلنا نعيشه.. نحن نعيش والفتنة فى صدورنا.. ولعلنا نذكر جميعا يوم العبور فى السادس من أكتوبر عندما هتف المسلم والقبطى: الله أكبر.. الله أكبر. فالأصل فى الشعب المصرى أنهم جميعا أقباط، فالقبطية ليست دينا كما سبق وأوضح الشيخ أحمد حسن الباقورى رحمة الله عليه، عندما خطب فى بداية ثورة يوليو قائلا:كلنا أقباط فمنا من هم أقباط مسلمون وأقباط مسيحيون. ويتجاور المسلم والمسيحى فى مصر فى السكن والعمل وفى الطعام وفى الملبس، وهناك من يتشارك فى الزراعة أو الصناعة أو يتعاون فى العلم والمعرفة. ورغم دعاوى التكفير أو عدم مشاركة المسيحى أو التعامل معه فإن الحياة اليومية فى مصر تشهد مشاركة يومية حقيقية بين المسلم والمسيحى.. رغم الفتنة النائمة فى الصدور.. ذلك أن الوجدان الإنسانى للمسلم أو المسيحى فى مصر هو واحد، ويظهر ذلك واضحا كالشمس عندما تدق طبلة أو يعزف أحدهم لحنا على الناى أو الربابة.. نجد أن الجسد المصرى للمسلم أو المسيحى يتمايل ويطرب لهذه الألحان لأن الاثنين صاحبا وجدان واحد، وهم واحد والآلام واحدة.. أما والأمر كذلك فهل نترك الفتنة نائمة فى الصدور؟! كيف يمكن إخراجها والقضاء عليها؟ سؤال أطرحه اليوم لأن هناك بوادر تمهد الطريق لعمل جاد من أجل إخراج الفتنة النائمة فى الصدور، وذلك بمناقشة أسبابها ووضع الحلول الناجعة للقضاء عليها. وبداية الحل هو الاعتراف بالمشكلة وتشخيصها وإخراجها للعلن ومناقشتها، وأخذ المشكلة بشكل جاد جدا واعتبارها مشكلة تهدد أمن المواطن المصرى.. ومناقشة المشكلة لا تكون بمجرد طرحها فى الصحف والمجلات أو الحديث عنها فى التليفزيون والإذاعة، ولكن بتكوين لجنة تكون مهمتها الأساسية، هذا الملف الملتهب والمحتقن! ولقد فتح الرئيس محمد حسنى مبارك لنا الطريق الذى يجب أن نسلكه والدروب التى يجب أن نسير فيها.. فقد ناشد الرئيس العلماء والمفكرين والمبدعين بإعادة الانتشار السريع فى المجتمع لأننا فى خطر. قضية الوطن الأولى اليوم هى حماية النسيج الوطنى من التمزق والتآكل. ثم قال الرئيس مبارك بوضوح شديد إن الدولة المدنية باتت مطلبا ملحا للمصريين للاطمئنان على مستقبل مصر والمصريين. نعم يا سيادة الرئيس أصبحت الدولة المدنية مطلبا ملحا وضرورة مستقبلية.. والدولة المدنية أو الدولة الحديثة ليست جديدة على مصر فقد بدأت منذ قرنين من الزمان.. وعندما نسى العالم فى بداية القرن التاسع عشر مصر، وتولى قيادتها محمد على الكبير استطاع بناء الجيش لأول مرة فى مصر، كما بنى الترسانة البحرية، وأرسل البعثات، وقاد الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى مسيرة التنوير، وكان محمد على الكبير يحبس المبعوث بعد عودته فى القلعة حتى يفرغ من ترجمة أهم كتب العلم الذى تخصص فيه. لم يعجب القوى العظمى فى ذلك الزمان بريطانيا العظمى وفرنسا والخليفة العثمانى هذا التقدم الذى وصلت إليه مصر خلال 35 سنة، فعقدت مؤتمر لندرة عام 1840، والذى فيه تحدد نمو مصر فى المستقبل، ومازال مؤتمر لندرة يحكم مصر حتى اليوم، فكلما حاولت مصر الخروج لبناء اقتصادها وتحديث صناعتها أو الأخذ بأسباب التقدم والعلم نفاجأ بما يقودنا إلى الوراء والتأخر بدلا من التقدم. وانتشرت دعاوى كثيرة فى مصر منها ما أراده الخديو إسماعيل من أن تكون مصر قطعة من أوروبا فغير من مجرى نهر النيل وبدلا من مروره عند سفح الأهرامات بالجيزة تحول إلى أن يقسم مدينة القاهرة نصفين تماما كما يفعل نهر السين فى باريس، وبنى حديقة الحيوان وجنينة الأرومان حتى تصبح مدينة القاهرة قريبة الشبه من مدينة باريس، وكما كانت باريس عاصمة النور والتنوير فى أوروبا، كذلك القاهرة ستكون عاصمة النور والتنوير فى البلاد العربية والإسلامية.. ورفع الحزب الوطنى بقيادة مصطفى كامل باشا شعار عودة الخلافة العثمانية.. وتصدى لهذه الدعوة الشيخ على عبدالرازق بإصدار كتابه الرائع «الإسلام وأصول الحكم». ومنذ بداية القرن العشرين بدأت تباشير الدولة المدنية الحديثة تظهر. وظهر عدد كبير من العلماء والمفكرين الذين قادوا الفكر التنويرى من قاعات الدراسة فى الجامعة المصرية. ويرصد لنا أستاذنا العميد الدكتور طه حسين فى مقال مهم بعنوان «لماذا نحب مصر» كتبه عام 1930، جاء فيه أن عددا كبيرا من المفكرين والمثقفين المصريين يتحدثون عن الوطنية بمفهوم دينى، وعن الجنسية بمفهوم دينى وآخرون يفهمونها فى حدود جغرافية فيقولون إن كل دولة دينها الإسلام هى وطن للمسلم، وما عداها من دول تعتبر غربة، وإن كل دولة تتحدث العربية هى وطن، وماعداها تعتبر غربة. ثم شرح الدكتور طه حسين كيف أن الإسلام كدين يرسم حدودا فى الضمائر والقلوب وليس فى الأرض والجغرافيا، وأن الوطن الحقيقى هو الوطن الذى لا يفرق بين مواطنيه بسبب الدين أو اللون أو الجنس.. وأن الحقوق والواجبات يحددها دستور الأمة وهذه هى الدولة الحديثة أو الدولة المدنية حيث يخضع الجميع لسيادة القانون. ولقد ذكرت هذا المقال للدكتور طه حسين والذى كتبه منذ ما يقرب من ثمانين عاما لأن سيادة الرئيس ناشد عقلاء الأمة أن ينتشروا فى المجتمع ليدافعوا عن الأخطار التى تهدده. أريد أن أقول إن مفهوم الدولة المدنية أو الحديثة ليس واضحا فى ذهن المسلمين والمسيحيين فى مصر، وإننا جميعا فى حاجة إلى إعادة تربية فى هذا المجال حتى نكون جميعا فى مستوى فهم موحد لمفهوم الدولة المدنية أو الدولة الحديثة التى تكون فيها السيادة للقانون وليس للتعصب أو الفكر السلفى أو التخلف. إننى مع دعوة الرئيس الجادة فى هيئة للدعوة والمراجعة والمتابعة حتى يستقر مفهوم الدولة الحديثة أو الدولة المدنية بين الناس. وحتى تتكون هذه الهيئة فلابد من تغيير مناهج الدراسة فى المدارس الابتدائية والثانوية على مطالعات وقراءات فى كتابات المفكرين من أبناء النصف الأول من القرن العشرين. لماذا قامت وزارة التعليم بإلغاء كتب المطالعة التى تحوى مقالات للدكتور طه حسين؟! ولماذا حاولوا مؤخرا إلغاء كتاب الأيام للدكتور طه حسين من المدارس الابتدائية والثانوية؟! هناك عمل دءووب منظم يجرى فى وزارة التعليم لاقتلاع جذور التنوير التى قدمها الإمام الشيخ محمد عبده، وعلى باشا مبارك، والشيخ رفاعة رافع الطهطاوى، والدكتور طه حسين، وأستاذ الجيل أحمد لطفى السيد، والشيخ على عبدالرازق ود. زكى نجيب محمود، والدكتور إبراهيم بيومى مدكور لماذا لا نعيد طباعة كتب عصر التنوير التى طبعها الراحل د. سمير سرحان فاختفت فى يوم واحد لأن القوى الظلامية وقوى التخلف اشترتها بالكامل حتى لا يقرأها أحد. كانت بداية الانتشار السريع لبناء الدولة المدنية والحديثة البيان الذى صدر عن المجلس الأعلى للصحافة برئاسة الأستاذ صفوت الشريف رئيس المجلس والذى جاء فيه: «إن المجلس الأعلى للصحافة بحكم مسئولياته يرى أن من واجب المفكرين وأصحاب الكلمة فى مختلف صورها المكتوبة والمسموعة والمرئية نشر وترسيخ أفكار وقيم المواطنة قولا وعملا وإعلاء الدستور واحترام سيادة القانون الذى يجب أن يعلو فوق الأشخاص فهما وتطبيقا، وتحذير المواطنين من احتمال أى فتنة طائفية، لأن تعريض استقرار المجتمع من خلال هذه الفتنة يهدد مختلف مصالح الوطن والمواطنين فى تحقيق التنمية والتقدم.. كما ناشد المجلس الأعلى للصحافة المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية والإعلامية إلى إنعاش ذاكرة الأمة بمختلف المواقف والأقوال والحكايات وصفحات تاريخ مصر المجيد الحديث فى كيفية تصدى المسلمين والأقباط لمحاولات اختراق هذه الوحدة وكيف تصدى المسلم والقبطى للاحتلال الإنجليزى، وفى معارك الاستقلال والتحرير، وكيف تعايش المسلمون والأقباط بمفهوم أن الدين للخالق والوطن للجميع. وأكد بيان المجلس الأعلى للصحافة فى ضرورة أن تكون رسالة من يعتلى المنبر فى المسجد والكنيسة تأكيد أن الدين سلام ومحبة وأن الذين ارتكبوا جريمة نجع حمادى إنما اغتالوا فرحة المصريين جميعا فى عيد مجيد.. وضرورة الكف عن طلب الفتوى من علماء الدين فى مساندة قضايا سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية هى حق أصيل تمارسه الدولة المدنية.. وباختصار شديد فإن بيان المجلس الأعلى للصحافة والذى أعلنه الأستاذ صفوت الشريف يعتبر ورقة عمل لكل من يهمه أمر هذا الوطن الرائع الذى نعيش فيه حتى تظل مصر هى مصدر الحكمة والنو ر والعلم للعالم، كما كانت منذ آلاف السنين. وليس صدفة يا قوم أن سيدنا إبراهيم جاء إلى مصر وتزوج من مصرية هى هاجر، وأن سيدنا موسى عليه السلام خرج من مصر، وأن سيدنا المسيح عيسى جاء مع أمه العذراء مريم إلى مصر، وأن الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام تزوج من ماريا القبطية، وبذلك أصبح المصريون أخوال أمة الإسلام.. لهذا ينادينى أستاذنا فهمى عمر وأستاذنا عبدالرحمن الأبنودى قائلين: يا خال كلما التقينا.