استقرار أسعار الذهب في مصر ونصائح للشراء    قبل تفعيله الثلاثاء المقبل.. ننشر المستندات المطلوبة للتصالح على مخالفات البناء    «العمل»: التواصل مع المصريين بالخارج أهم ملفات الوزارة في «الجمهورية الجديدة»    إعلان جديد من جيش الاحتلال بشأن عملية إخلاء المدنيين من شرق رفح    الرئيس الصيني شي يلتقي ماكرون وفون دير لاين في باريس    تحذير: احتمالية حدوث زلازل قوية في الأيام المقبلة    مفاجأة بشأن مستقبل ثنائي الأهلي    طقس شمال سيناء.. سقوط أمطار خفيفة على مدينة العريش    في يوم شم النسيم.. رفع درجة الاستعداد في مستشفيات شمال سيناء    تحذير من خطورة تناول الأسماك المملحة ودعوة لاتباع الاحتياطات الصحية    تراجع سعر الفراخ البيضاء؟.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية الإثنين 6 مايو 2024    محمد صلاح يُحمل جوزيه جوميز نتيجة خسارة الزمالك أمام سموحة    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الاثنين 6 مايو    تزامنا مع بدء الإخلاء.. تحذير من جيش الاحتلال إلى الفلسطينيين في رفح    موعد وقفة عرفات 1445 ه وعيد الأضحى 2024 وعدد أيام الإجازة في مصر    وسيم السيسي يعلق علي موجة الانتقادات التي تعرض لها "زاهي حواس".. قصة انشقاق البحر لسيدنا موسى "غير صحيحة"    نيرمين رشاد ل«بين السطور»: ابنة مجدي يعقوب كان لها دور كبير في خروج مذكرات والدها للنور    عاجل.. أوكرانيا تعلن تدمير 12 مسيرة روسية    سعر التذكرة 20 جنيها.. إقبال كبير على الحديقة الدولية في شم النسيم    البحوث الفلكية تكشف موعد غرة شهر ذي القعدة    أخبار التكنولوجيا| أفضل موبايل سامسونج للفئة المتوسطة بسعر مناسب وإمكانيات هتبهرك تسريبات حول أحدث هواتف من Oppo وOnePlus Nord CE 4 Lite    طبيب يكشف عن العادات الضارة أثناء الاحتفال بشم النسيم    موعد مباراة نابولي ضد أودينيزي اليوم الإثنين 6-5-2024 والقنوات الناقلة    فرج عامر: سموحة استحق الفوز ضد الزمالك    تعاون مثمر في مجال المياه الإثنين بين مصر والسودان    أحوال جوية غير مستقرة في شمال سيناء وسقوط أمطار خفيفة    حمادة هلال يكشف كواليس أغنية «لقيناك حابس» في المداح: صاحبتها مش موجودة    أول شهادةٍ تاريخية للنور المقدس تعود للقديس غريغوريوس المنير    «القاهرة الإخبارية»: 20 شهيدا وإصابات إثر قصف إسرائيلي ل11 منزلا برفح الفلسطينية    إلهام الكردوسي تكشف ل«بين السطور» عن أول قصة حب في حياة الدكتور مجدي يعقوب    محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان    برنامج مكثف لقوافل الدعوة المشتركة بين الأزهر والأوقاف والإفتاء في محافظات الجمهورية    من بلد واحدة.. أسماء مصابي حادث سيارة عمال اليومية بالصف    أقباط الأقصر يحتفلون بعيد القيامة المجيد على كورنيش النيل (فيديو)    خالد مرتجي: مريم متولي لن تعود للأهلي نهائياً    مدحت شلبي يكشف تطورات جديدة في أزمة افشة مع كولر في الأهلي    بعد ارتفاعها.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 6 مايو 2024 في المصانع والأسواق    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    تزامنا مع شم النسيم.. افتتاح ميدان "سينما ريكس" بالمنشية عقب تطويره    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟.. أمين الفتوى يُجيب -(فيديو)    قادة الدول الإسلامية يدعون العالم لوقف الإبادة ضد الفلسطينيين    تخفيضات على التذاكر وشهادات المعاش بالدولار.. "الهجرة" تعلن مفاجأة سارة للمصريين بالخارج    ما المحذوفات التي أقرتها التعليم لطلاب الثانوية في مادتي التاريخ والجغرافيا؟    بيج ياسمين: عندى ارتخاء فى صمامات القلب ونفسي أموت وأنا بتمرن    مصطفى عمار: «السرب» عمل فني ضخم يتناول عملية للقوات الجوية    حظك اليوم برج الحوت الاثنين 6-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    رئيس البنك الأهلي: متمسكون باستمرار طارق مصطفى.. وإيقاف المستحقات لنهاية الموسم    يمن الحماقي ل قصواء الخلالي: مشروع رأس الحكمة قبلة حياة للاقتصاد المصري    الإفتاء: احترام خصوصيات الناس واجب شرعي وأخلاقي    الأوقاف: تعليمات بعدم وضع اي صندوق تبرع بالمساجد دون علم الوزارة    عاجل - انفجار ضخم يهز مخيم نور شمس شمال الضفة الغربية.. ماذا يحدث في فلسطين الآن؟    كشف ملابسات العثور على جثة مجهولة الهوية بمصرف فى القناطر الخيرية    تؤدي إلى الفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم.. الصحة تحذر من تناول الأسماك المملحة    تعزيز صحة الأطفال من خلال تناول الفواكه.. فوائد غذائية لنموهم وتطورهم    لفتة طيبة.. طلاب هندسة أسوان يطورون مسجد الكلية بدلا من حفل التخرج    المدينة الشبابية ببورسعيد تستضيف معسكر منتخب مصر الشابات لكرة اليد مواليد 2004    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عش ألف عام مع بهاء طاهر
نشر في صباح الخير يوم 08 - 09 - 2009

بعد أحد عشر عاما يعود الروائي الكبير بهاء طاهر إلي عالم القصة القصيرة!
ست قصص بعنوان : "لم أعرف أن الطواويس تطير" أسفرت عن عودته بقوة إلي القصة القصيرة بجناحي طائر حلق في عالم الرواية بست روايات هي : "خالتي صفية والدير"، و"الحب في المنفي"، و"قالت ضحي"، وشرق النخيل"، و"نقطة النور"، و"واحة الغروب"، والتي حصل بها علي الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر العربية" عام 7002، كما حصل بهاء طاهر من قبل علي جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 8991، وحصل علي جائزة مبارك في الآداب هذا العام. د. عزة بدر ؟ ثمن الحرية
وبطواويس المجموعة القصصية الجديدة يختال بهاء طاهر في كامل بهائه وريشه، فاردا مروحة منقوشة بالزهر الملون، واقفا علي شجرة السرد كطائر غرد يمتعنا بقصصه القصيرة بعد طول انقطاع فقد أصدر مجموعته القصصية الأولي "الخطوبة" عام 2791، ومجموعته "ذهبت إلي شلال" قبل أحد عشر عاما !
.. طاووس مغامر هو بطل قصته عنوان المجموعة الجديدة : "لم أعرف أن الطواويس تطير"، طائر ضاق بالأرض، ضاق بقانون الحديقة المشروط في المشي بخفة والمشي وئيدا كأنه يحمل في رجليه حديدا، غافل الطاووس الجميع، وخالف قانون الحديقة الرتيب وغامر بالطيران إلي فروع شجرة عيد الميلاد ليحتفل بمولده أو بحريته من جديد، ولكن فروع شجرة "التنوب" القصيرة، شجرة الميلاد لم تمكنه من الوقوف ثابتا في مكانه فتأرجح مهددا بالسقوط من أعلي، ولكنه وكأنما كان يريد فقط شرف المحاولة أخذ يعلو ويقفز من غصن إلي غصن حتي يستقر علي فرع اقوي متحديا إرادة البشر وسطوة القوانين !، وأجهزة المطافئ ورجالها، والناظرين الذين انقسموا إلي فريقين : فريق معه وفريق ضده، حزب معه، وحزب مع المطافئ !، ولكن الطاووس الهارب من الشباك يحقق وجوده وحريته ولو لدقائق ! هاربا من شباك إنقاذ كاذب لحياته التي أراد أن يعيشها حرا بالطول وبالعرض، حتي ولو كان ثمن الحرية أن يفقد حياته ذاتها! ويتماهي معه الراوي فيقول له : "تحرك!، قاوم، طر!"، ولكن عندما وصل إليه الصياد ورمي شبكته لم يتحرك الطائر كأنه كان ينتظر، فألقي بنفسه مختارا في الشبكة. وقد أصابه الكلل والتعب فبات الراوي يجاذبه وقد علق الجناح، يتشاكيان الأسر والغربة والوحدة، الطاووس في وحشته مستكينا إلي الشبكة حيث برزت بعض ريشاته الملونة من ثقوبها وهو ينتفض ليأتي صوت الراوي حزينا.
- بين بهاء طاهر وأحمد شوقي :
فيقول "يا طائري العجوز.. أشباه عوادينا"، وبهذه العبارة، وبكل هذا الشجن والأسي يردنا بهاء طاهر إلي مطلع قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي والتي يقول فيها: "يا نائح الطلح أشباه
عوادينا نشجي لواديك أم نأسي لوادينا"
وهي قصيدة بعنوان "أندلسية" كتبها شوقي في غربته، أما قصة "الطاووس" فقد كتبها بهاء طاهر من وحي غربته إذ تدور أحداث القصة في مهجره الذي سافر إليه للعمل، لتتعانق الغربة التي صورها شوقي في أندلسيته، والغربة التي صورها بهاء في قصته فتوقف كلاهما أمام طائر انكسرت محاولاته كي يولد من جديد فوقع أسيرا، يقول شوقي لطائره في الأندلسية: "ماذا تقص علينا غير أن يدا
قصت جناحك جالت في حواشينا
رمي بنا البين أيكا غير سامرنا
أخا الغريب : وظلا غير نادينا"
ويقول بهاء طاهر علي لسان الراوي : "طفا في داخلي حزن ثقيل مباغت وأنا أنظر إلي "نيكولا" الذي يمشي محني الرأس وأنا أفكر في كل ما جري : في هذا الطاووس المغامر العاجز، وفي نفسي وفي الآخرين في هذا المكان في حيرة من عادوا إلي بلادهم وحيرة من بقوا في الغربة، في الزمن الذي جري ويستحيل أن يعود، في الحب المخذول، وفي ضياع الحب، في القسوة التي نتعمدها، والقسوة التي نمارسها دون قصد، في الشيخوخة، وفي الوحدة، بالذات في الوحدة.
- الطواويس معارضة قصصية لقصيدتين:
تساقينا مع بهاء في قصته ذلك الشجن الموصول بقوله "أشباه عوادينا" وهي مطلع قصيدة شوقي ليحرك في نفوسنا معني الغربة، وصوتها، غربة الوطن، وغربة القلب ووحدته، نلمسها في مشاعر "نيكولا" الرجل المجروح الذي تركته حبيبته وهجرته، وحب مارلين صاحبته، الحب المخذول حيث قست علي نفسها وعلي حبيبها، مارلين وهي تنزل يد نيكولا برفق عن كتفها، وهو يميل بكليته إليها هامسا:
"ربما لو".. فتقول مارلين "لا! ليس ربما لو.. ليس أي ربما !" ووقف نيكولا ينظر في اتجاهها لحظة قبل أن يمضي مطأطئا رأسه، وكأن لسان حاله يقول : "أضحي التنائي بديلا عن تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا"
ولولا اختلاف اللغة لقالها نيكولا، فقصيدة النص "اشباه عوادينا" لشوقي هي أيضا معارضة لقصيدة "ابن زيدون" الشاعر الأندلسي "أضحي التنائي" والتي كتبها ابن زيدون في فراق ولادة بنت المستكفي، وهو الشاعر الأندلسي الذي يعد من أشهر شعراء العربية وعرف باسم "بحتري" الغرب، وله مع ولادة قصة تشبه حكاية "نيكولا" و"مارلين"، فقد جري "نيكولا" خلف "جونلة أخري" بين يوم وليلة كما تقول مارلين!، وولادة غضبت علي ابن زيدون لما استزداد من غناء جاريتها دون أن يستأذنها فعاتبته وفارقته وكتبت تقول :
"لو كنت تنصف في المودة بيننا لم تهو جاريتي ولم تتخير
وتركت غصنا مثمرا بجماله
وجنحت للغصن الذي لم يثمر"
وهكذا نجد في النص القصصي لبهاء طاهر "لم أعرف أن الطواويس تطير" معارضة فنية جديدة لقصيدتين ضاربتين بجذورهما في معاني الغربة والشجن هما "أندلسية" شوقي، و"نونية" ابن زيدون، وها هو النص السردي يعانق نصوص الشعر بمس كلمتين لهما فعل الشعر في متن النص وهما : "أشباه عوادينا"، والعوادي هي ما يصيب الإنسان من حوادث الدهر وملماته.
- سودوكو!
وإذا كان رجال المطافئ يحرسون حياة الطواويس في الحديقة الغربية، فإن رجال الحراسة في قصة "سكان القصر" لا يعرفون من يحرسون بالضبط في الحي القاهري ؟! فهناك الكتل الخرسانية المربعة التي تحف بالأرصفة من جميع الجهات والحواجز الحديدية التي تسد شارعين وتقطع جزءا من الشارع العمومي، وترفع هذه الحواجز فقط لمرور سكان البيوت المجاورة للقصر والمزودين برخص استثنائية للمرور ويتتبع خيط السرد في قصة "سكان القصر" حكاية هذه الحراسة علي مستويين : مستوي السكان المحيطين بالقصر ورؤيتهم لها، ومستوي الحراس أنفسهم الذين يقومون بحماية ما لا يعرفون ويحرسون من لا يرون!
وتظل المعالجة الفنية لرؤية السكان مصورة لحذرهم وخوفهم لدرجة تصور بعضهم أن القصر مسكون بعبدة الشيطان، أما المعالجة الفنية للحراس فقد تميزت بلغة قص ساخرة، ومواقف أكثر سخرية، فعربة لب وسوداني عابرة كانت كفيلة بإثارة المتاعب واستنفار جهود رجال الحراسة، ينصبون لها الكمائن وتخرج رئيسهم عن طوره فيخرج إلي عموم حراسه ساخطا : "هو لا يصدق نفسه حتي الآن.. لا يصدق فعلا أن ما حدث قد حدث، كان يريد فقط أن يعرف كيف سيتصرفون لو حاول أحد أن يعبر الحواجز الحديدية" فيتفق مع بائع اللب والسوداني أن يمر بعربته ! من المنطقة المحظورة !
ثم يكتشف أن رجاله لا يستطيعون حتي مواجهة عربة لب!، وتتداعي أسئلة الحراس فيقول أحدهم : " "نريد أن نعرف الذين نحرسهم بالضبط لنؤدي عملنا كما يجب !" فيجيب رئيسهم : أنت تحرس أكل عيشك يا أفندي !
وهكذا تتوه الحقيقة في متاهة القصر وغموض سكانه، وتنتهي القصة بتقاتل الحراس فيما بينهم بعد أن أغلقوا الأبواب حتي لا يري الناس في الجوار حقيقة ما يجري فيتساءلون ولكن يجاوبهم الصمت.
وتكمن أكثر العناصر الفنية في هذه القصة في عنصر المفارقة حيث لا يدري الحراس من يحرسون ؟، ثم تقاتلهم دون سبب واضح، وخفاء العلاقة بينهم وبين سكان القصر، والمفارقة في موقف السكان المحيطين بالقصر الذين لا يعرفون من هم جيرانهم، ومن هم سكان القصر الذين يعيشون معهم في نفس الجوار. ومن جهة أخري يظهر عنصر المفارقة عندما ينتقل الخط الدرامي في قصص المجموعة من قصة إلي قصة فيدهشنا أن مصير طائر كالطاووس المغامر يهم فرقة من رجال المطافئ، والناس جميعا في الجوار بينما يتعرض بائع اللب والسوداني للضرب والنهب والسلب من الحراس المنوط بهم حماية الأمن! لمجرد مروره بمكان تكتنفه الحراسة.
ومثل هذا النسيج الضام لقصص المجموعة يظهر أبعادا، ويعقد مقارنات تستدعي التفكير، ويجعل من القارئ شريكا في النص وكأنه يكمل لعبة "السودوكو" بصور بصرية وفنية متجاورة تكشف عن الخيط الدرامي الذي يشد المجموعة من أول قصة إلي آخر قصة.
- قطط مضروبة !
وإذا كانت قصة "الطاووس" بالذات قد استغرقتني فإن القصص الأخري بهذه المجموعة قد أمتعتني، ففي قصتيه "قطط لا تصلح" و"كلاب مسعورة" يمضي كاتبنا ليفجر قضية كل هذه الكائنات التي فقدت حريتها وطبيعتها وبريتها، فالقطط في قصته فقدت "قططيتها" وهي تعبير نحته بهاء طاهر بمهارة ويعني به الطبيعة الخاصة للقطط فقد تحولت في هذه القصة إلي كائنات هادئة، مسالمة، تأكل بحساب وقدر، وقد تخلصت من طبيعتها البرية الأولي بعد أن حقنتها صاحبة الحديقة بأدوية خاصة، وأجرت لهذه القطط عمليات تعقيم لكي لا تلد!
فيقول أحد العاملين في الفندق - الذي تحيط به الحديقة بما فيها من قطط. "ما تصرفه المدام علي القطط في شهر واحد لدي الطبيب هو ضعف مرتبي ! هل تصدق أنها تذهب بها إلي طبيب في المدينة مرة كل شهر علي الأقل ؟
وما الغرابة في ذلك يا سعيد ؟
أعرف أنهم يحقنون القطط لحمايتها من الأمراض
- نعم وهي تجري لها عمليات أيضا لكي لا تلد
- للذكور أو للإناث ؟!
- كله ! للذكور والإناث!
- عاد ينظر إلي القطط بنوع من التشفي وقال :
- كلها قطط مضروبة !
فيكون رد الفعل الساخر والساخط للراوي وهو يقول : "في الواقع يا أستاذ سعيد، كلنا قطط مضروبة!"
- وعند هذه الجملة "الشفرة"، الحادة القاطعة يكشف لنا الراوي عن معاناة الجرسون سعيد الذي حصل علي ليسانس الفلسفة، ولكنه نسي القراءة والكتابة، وعن معاناة الراوي الذي أرسله مديره مفتشا في مجال غير تخصصه ليقرأ في ملفات العاملين، ويغرق في تفاصيل التفتيش عليهم، أما هم فقد اعتبروه جاسوسا يكتب عنهم التقارير ليرسلها إلي مديرهم - مناع الخير المعتد الأثيم - وهيهات يشرح لهم المفتش بطل القصة الفرق بين التفتيش والتجسس ثم يبدأ في محاسبة نفسه.
0ألا أتلصص بالفعل علي أعمالهم وأتابع تقارير المفتشين الذين أتوا قبلي وكل الأوراق السرية المدفونة في ملفات خدمتهم، ليست لي مصلحة طبعا فيما يصيبهم من ثواب أو عقاب فهل يمكن إذن أن أقول أنه تجسس شريف أو برئ ؟!
لا، فأنا أعرف سأقدم نتائج التفتيش إلي شخص غير برئ وغير عادل علي الإطلاق، ويجد لذة في توقيع العقاب، وأنا مخلب هذا المعتدي الأثيم شئت أم أبيت، فلماذا إذن لم أصر علي رفض المهمة !"، ويتعالي صوت الضمير في نفس هذا المفتش فيهمس للنادل سعيد في حوار قصير دال :
كان يسألني سعيد بتهذيب شديد:
- سعادتك تأمر بشيء آخر ؟
- قلت وأنا أواصل الإشارة للقطط.. أنا لم أطلب شيئا من الأصل يا سعيد حتي أطلب شيئا آخر ، ولكن ما رأيك أن نرفض..
- نرفض ماذا بالضبط سيادتك ؟
- لا شيء يا سعيد يمكنك أن تنصرف.. شكرا
- وهنا لا يخرج صوت الضمير إلي دائرة الفعل، ويظل سعيد ناقما علي القطط التي تعالج في شهر واحد بضعف مرتبه !، قطط مطلقة السراح في الحديقة بينما لا يتمتع هو بهذه الحرية فهو محبوس تسجل صاحبة العمل عليه حركاته وسكناته عن طريق جواسيسها فإذا ترك ورديته ذات يوم، فإنها تخصم نصف راتبه.
- ورغم اختلاف نظرة سعيد والمفتش للقطط فالأول يراها متمتعة بما لا يتمتع به هو من حرية ورعاية ويراها الثاني قد فقدت طبيعتها الأساسية أو " قططيتها" مما جعلها مسخا مشوها، وقد أسقط عليها إحساسه بفقدان قدرته علي التمرد والرفض.
- وتختم القصة فيقول المفتش : "عندما رأته القطط ينصرف بدأت تتقدم نحوي في بطء، وهمست لها وأنا أمد يدي نحوها : تعالوا يا إخوتي وأخواتي !
فأتوا طائعين
- وهنا يصيح المفتش بالقطط كما صاح بطل قصة "الطواويس"، وكأن لسان حاله يقول : "أشباه عوادينا".
- عينه في عيني !
- وتأتي قصة "الجارة" لتتوج قصص هذه المجموعة والتي تحمل خصائصها الأثيرة، وهي البحث عن الحرية والتململ من القيود، والتي بدت من أول قصة في المجموعة وهي بعنوان "إنت اسمك إيه ؟"، القصة التي يحرص فيها الحفيد علي أن يحقق ذاته، ويكتشف العالم من حوله فتكون مكتبة جده هي منجم اكتشافاته، حيث يعثر علي الروايات الروسية فيمزق أغلفتها وعبثا يخبئونها منه ويفتشون فمه باحثين عما التهم من "دستوفسكي" و"تولستوي"!
- ولكن محاولات الطفل في الاكتشاف لا تنتهي وتتوج القصة الطريفة بمحاورة بين الجد والحفيد ينهي فيها الحفيد المعركة لصالحه بين دهشة الجد وحيرته، الجد الذي أدرك رغبة الطفل في الحرية والخروج والانطلاق بالسيارة لا الاكتفاء بلعبة تشبهها، وفي المشهد الأخير تبرز المفارقة بين الجد والحفيد، الجد بهدوئه واتزانه، والحفيد بثورته وضجته وعنفوانه
- في حوار دال يصفه الراوي فيقول :
كانت علامات الغضب في وجهه، وهو يهز السماعة وعينه في عيني لأنه في الحقيقة يتساءل : ما هذا الجد الذي لا يعرف غير كلمة "كخ" وليست عنده عبية "عربية" للفسحة، فضلا عن أنه ليس له أي اسم مقنع فهو "جاجا" كما يقول أخوه الأكبر، وهو "ولا حاجة" كما يقول الجد نفسه !، جدو حاجة ! ليس له اسم مقنع !
أما الجد فيقول :
كان ينبغي أن أظل عاقلا، ولكنني استسلمت أمام نظرته وقلت بهدوء: أيوه يا أحمد "كخ"!
تناثرت أحشاء السماعة في الأرض، وهي تطلق رنين الوداع الأخير وصرخ أحمد في وجهي بتعليق نهائي - كاكا !
قصة الحفيد هذه هي المشهد الأول في هذه المجموعة القصصية لتؤكد عنفوان النفس الإنسانية ورغبتها في التمتع بالحرية واكتشاف العالم، ولتأتي القصة الأخيرة في المجموعة "الجارة" لتؤكد هذا المعني نفسه حتي ولو بلغ الإنسان مبلغ الشيخوخة، فهذه المرأة الفرنسية العجوز تصر علي الاستمتاع بحياتها وحيدة بعد أن تخلي عن رعايتها ابنها، فهي تتسوق بنفسها، وتتعثر، وتسقط، وتنكسر قدمها، ولكنها تخرج من المستشفي علي مسئوليتها الخاصة، وعندما مرضت مرضها الأخير، وقبل إصابتها بالغيبوبة.
أغلقت باب بيتها بالمفتاح وأخفته في جيب سري قبل أن تداهمها الغيبوبة بلحظات ثم تمددت علي باب جيرانها الغرباء - الرجل المصري وزوجته الفرنسية ترفض الجارة أن تكون نزيلة بيت المسنين أو رقما من أرقام نزلاء المستشفي، بل تخرج دائما علي مسئوليتها، تنهض مثل شجرة شامخة تتعلق بمقولة زوجها المتوفي عندما كان يهمس لها.. "عيشي ألف عام".. وها هي تدفع بالحماسة والحياة إلي نفس كل من يقترب منها بحكاياها الطريفة، بقدرتها علي التعلق بأهداب الحياة بتفاصيل عشقها للدنيا.
- يوم يمكن أن تعيشه :
وينقل لنا النص تمسك هذه السيدة الثمانينية بالحياة، فقد فرت من إجراء جراحة قائلة : "هل تعرف ما هو عمري ؟ أنا لا أريد أن أموت وأنا مخدرة، أريد أن أكون مفتوحة العينين وأنا أودع الدنيا ولا أريد أن أودعها باختياري، لن أجري الجراحة لأني لا أريد أن أفرط في يوم يمكن أن أعيشه، لن أفرط في هذه الهدية باختياري، "ما أهمية أن أعيش مائة عام علي هذا السرير أو علي سرير مثله في أي مكان ؟! هل يساوي هذا نهارا من نزهة في حديقة وسط الخضرة والأشجار وجمال الأزهار ؟، هل يساوي وقفة ساعة علي شاطئ البحر ؟، هذا يا صديقي هو الألف عام الحقيقي، أن نفرح بكل دقيقة في هذه الدنيا قبل أن نودعها".
مثل الطاووس المغامر العجوز كانت هذه "الجارة" التي رفضت محاولات روزالين لإقناعها بالجراحة، تماما كالطاووس الذي ناوئ رجال المطافئ وقاوم شباكهم!، السيدة الثمانينية تقول :
"أنا أنفع نفسي لا أضرها، تأكدي من ذلك يا روزالين، وأنت أيضا يمكن أن تنفعي نفسك قبل فوات الأوان، وأنت يا صديقي لا تضيع وقتك !" وأنت يا عزيزي القارئ.. ما رأيك ؟.. أنت مع الطاووس العجوز المغامر أم مع رجال المطافئ، مع من حسمت أمرك.
أنا مع الطاووس، ومع السيدة الثمانينية، مع نهار من نزهة، مع وقفة تطول أو تقصر علي شاطئ البحر، أنا مع "عويس" الذي انحني بجانب الجارة الثمانينية وهي في غيبوبتها ليقول : "لا.. لا تخذليني يا جارتي الشجاعة، أنا ألتمس من شجاعتك الأمل الذي ضاع مع عمر انقضي دون معني ولا فرح فلا تتركيني وحيدا !
هيا عيشي ألف عام.. كما وعدت زوجك"..
فأهمس "لا تتركيني وحيدة.. هيا نعيش ألف عام !".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.