عندما تجلس على شاطئ بحر وتنظر إلى أمواجه، ربما تأتى إلى رأسك كلمات من أغنية: الموجة بتجرى ورا الموجة عايزة تطولها، فتبتسم وتكمل كلماتها: تضمها وتشتكى حالها من بعد ما طال السفر.. ربما تفكر فى السفر، وتتخيل أنك سافرت إلى شاطئ بعيد فى الجهة المقابلة للبحر التى لا تراها، فقط ترى السماء فى الأفق دائرة كاملة على الماء كأنها تحتضن البحر.. وتتأمل ملكوت الله.. وربما إذا استمرت جلستك بدون إزعاج تنزل إلى أعماقك. تتذكر وجوها فى حياتك ومواقف حسب حالتك النفسية فى هذه اللحظة إما أن تسعدك الذكرى.. أو تغمك.. لتخرج من أعماقك، وتعال معنا ننزل إلى أعماق البحر لنعرف بعض أسراره. لنعرف من كتاب أسرار البحر للعالم المصرى رجب سعد السيد وهو ليس فقط من المتخصصين العلميين فى أمور البحار وأعماقها، بل هو أيضا كاتب وأديب.. وقد شرح بالأرقام فى كتابه مساحات الماء التى حول كوكبنا الأرضى.. ويشرح لنا إذا كانت الأنظمة البيئية على اليابسة تتنوع من أراض زراعية، صحراء، وديان، غابات، جبال، وسواحل، ويرتبط بكل منها أنواع مميزة من الكائنات الحية نباتية وحيوانية، فالبحر أيضا تتنوع أنظمته البيئية، لا تختلف كثيرا عن الأرض ويعطينا مثلا بين بيئة الغابات الاستوائية المطيرة وبيئة الشعاب المرجانية فى البحار، فالحياة فى كل منهما غنية كثيفة، شديدة التنوع، وشعاب المرجان هى أدغال البحار. أسرار العنف والحب اخترت من كتابه القيم البسيط نوعا من كائنات البحر التى يتهافت عليها سكان الأرض، وهى الاستاكوزا يقول فى كتابه: إن هذا الاسم له رنينه الخاص فى معظم سواحل العالم، وهى مجموعة من القشريات البحرية التى تشتهر فى معظم البلاد العربية بأسماء مختلفة.. منها الكركند وعقرب الماء، وإذا ورد اسمها فى حديث ارتسمت الابتسامات على الشفاه وتناقلت الألسن كلمات مثل: القوة والنشاط والحيوية. يقول الكاتب العالم رجب سعد السيد إنه حاول أن يتحقق لدى العلماء وليس فى المطاعم من صدق المقولات والوصفات الشعبية المرتبطة بالاستاكوزا.. فلم يجد أبحاثا علمية متصلة بهذا الموضوع مباشرة تؤكد أو تنفى الخبرة الشعبية بأسرار الاستاكوزا. وقد قادته المصادفة إلى صورة لنقوش جدارية فى معبد الدير البحرى بجنوب مصر، فوجد الفنان المصرى القديم نقش رسما واضحا للاستاكوزا، مما يؤكد أن تلك الخبرة الشعبية بالقدرة التنشيطية للاستاكوزا ليست وليدة عصرنا. وشرح العالم فى كتابه عن البحوث العلمية المختصة بأسرار البحار عن هذا الكائن القشرى البحرى ذى المظهر المزعج إلى من لا يعرفه، أما من عرفوه على مائدة الطعام فهم يكتفون بتجربتهم ولا يهمهم كثيرا أن يضيفوا معلومات إلى ما تحصل لديهم! شرح لنا أنواع الاستاكوزا وألوانها فى بحار العالم، والبروتينات التى يحتوى عليها لحمها، وكذلك الهرمونات المؤثرة! ولماذا هى شرسة فى حربها، ووديعة فى حبها، حدثنا عن استعانة فريق أبحاث جامعة هارفارد الأمريكية عن هذا الكائن بأحد علماء الأخلاق والسلوكيات لمراقبة أحواض خاصة لتربية الاستاكوزا.. وقد كتب ملاحظاته الطريفة عن عدوانها واستكانتها. وتوجد أبحاث تكشف عن سر آخر للاستاكوزا غير تأثير مكوناتها، وأخلاقها وتصرفاتها، وعلى من يلتهمها! تقول هذه الأبحاث إن تبادل التفاهم بين الاستاكوزا عن طريق رسائل كيمائية يحملها بولها ورائحة أجسامها، تستقبلها على أجهزة استقبال دقيقة منتشرة على الشعيرات التى تغطى جسمها، وبناء على تلك الرسائل تستجيب لنداءات الحب.. أو صيحات الحرب. فإذا وصل مضمون الرسالة تكفلت العينان بمراقبة ومتابعة تحركات الحبيب، أو تحرشات الخصم. معلومات كثيرة عن هذا الكائن البحرى الذى يتهافت عليه سكان الأرض كتبها العالم الكاتب رجب سعد السيد، وفى نهاية بحثه هذا يقول: مازالت أمام العلماء علامات استفهام عديدة تحتاج إلى الوقت والجهد، وليس علينا إلا انتظار البحث العلمى ليفسر لنا من خلال الاستاكوزا.. لماذا يتحول البشر دون سبب ظاهرى واضح فى كثير من الأحيان إلى العنف والقتل، وماذا فينا أو خارجنا يصيبنا بتلك الحالة الشائعة التى نسميها الحب. صالونات تجميل السمك لنذهب إلى سر آخر من أسرار البحر فى كتاب عجائب المخلوقات للدكتور العالم عبدالمحسن صالح لنتعرف على هذه السمكة العجيبة الصغيرة الحجم التى نشاهدها فى الأفلام الخاصة بعالم البحار، وهى تقف فوق أو تحت أو فى فم سمكة كبيرة تلتقط بفمها أشياء لا نعرفها من السمكة الكبيرة التى تقف لها باستسلام، شرح لنا الكاتب العلمى عمل هذه السمكة التى أطلق عليها علماء البحار اسم سنيوريتا فهى من أكبر عائلة سمكية تسكن مياه البحار والمحيطات، وتوارثت امتلاك صالونات للتجميل ومستشفيات للتطبيب مع أنها لا تملك من المؤهلات غير فمها الصغير المدبب الذى يساعدها على القيام بوظيفتها فى خدمة الأسماك الأخرى التى تصاب بأمراض فطرية وبكتيرية وطفيليات تعيش على جلودها وزعانفها وداخل خياشيمها وفمها. ولأن الخالق العظيم لا يترك مخلوقاته بدون حماية فقد سخر للأسماك ملايين المستشفيات وصالونات التجميل التى تديرها وتشرف عليها عائلة السمكة سنيوريتا. ويحدثنا د. عبدالمحسن صالح كيف قام علماء البحار بتجارب علمية لمعرفة هذه الحقيقة وتأكدوا منها.. وقد وجدوا أن السمكة سنيوريتا لا تصاب بالأمراض بتنظيفها الأسماك الأخرى، بل أصبح لها غذاء طيبا! كما اكتشف العلماء أكثر من أربعين نوعا من الأسماك الصغيرة التى تقوم على تمريض وتجميل الأسماك الكبيرة، لكن أشهرها هى عائلة سنيوريتا، وتعرف الأسماك التى تطلب التنظيف أو التجميل أين تجد هذه الصالونات التى تقع عادة بين الشعب المرجانية، أو بجوار النتوءات الصخرية، أو على مشارف الأعشاب البحرية. ووجدوا أن بين الأسماك الكبيرة والأسماك الصغيرة التى تقوم بعمليات النظافة وعد شرف بألا تلحق بها أى أذى، فهى تدخل فمها لتنظفه، وإذا شعرت السمكة المصابة بخطر فهى تلفظ السمكة الصغيرة من فمها لتختفى فى مكان آمن، وتهرب السمكة الكبيرة أو تدخل فى معركة مع أخرى مثلها، فمن دراسة العلماء لم يجدوا سمك النظافة الصغير فى بطون السمك الكبير، بل أسماكا أخرى صغيرة، وهى ظاهرة لم يفهمها العلماء، فهل السمك لديه القدرة على التفريق بين النافع وغيره؟! الذكر زبون دائم لصالون التجميل! على الرغم من وجود أسماك صغيرة ملونة تشبه أسماك النظافة إلا أن السمك الكبير يتعرف عليها بألوانها الزاهية المزركشة بإتقان مع اختلاف صارخ فى اللون مع أرضية البيئة المائية التى تعيش فيها، وكأن هذه الألوان البديعة بمثابة لافتات حية تقول: نحن هنا لخدمتكم فلا تهاجمونا أو تأكلونا. وقد لاحظ العلماء وهم يدرسون هذه الكائنات أن بعض الأسماك تذهب إلى هذه الصالونات دون أن تكون مصابة بأمراض، واكتشفوا أنها من الذكور فهى تذهب بسبب إصابتها بجروح خوفا من حدوث ميكروبات بسبب معاركها من أجل الإناث من الأسماك.. وبعضها يذهب للزينة، ففى عالم الأسماك الذكور أجمل من الإناث، فالذكر زعانفه مزركشة، طويلة، وألوانه بديعة، فيذهب إلى هذه الصالونات لمجرد تلميع ألوانه حتى يروق للإناث. وتذهب الأسماك إلى هذه الصالونات فى جماعات، ويحدث التنافس على الأسبقية فى التنظيف أو التجميل، لكن السمكة الجميلة سنيوريتا لا تحب الفوضى لأنها تقوم بعملها بإتقان وسرعة فتتركها وتسرع إلى مخبئها إلى أن تنتظم، ويأخذ كل دوره بالترتيب. وكما بدأنا بالتأمل فى سطح البحر نعود للتأمل بكلمات من شاعر الإسكندرية اليونانى كافافيس: فلأقف هنا ولأرى أنا أيضا الطبيعة مليا.. شاطئ بحر رائع، أزرق، أصفر فى صباح، سماؤه صافية، كل شىء جميل مفعم بالضياء.. فلأقف هنا ولأخدع نفسى بأنى أرى هذه حقا.. ولا أرى خيالاتى، ومتعة وهمية.