كانت سيناء مثل الابن المُهمل من أهله إلى أن اختطفته عصابة فالتفتوا له.. «و.. آه يا ابنى الحبيب.. لم نكن نقدر غلاوتك».. هكذا صرخنا فى صيف 1967 «آه.. سيناء الحبيبة لم نكن نقدر غلاوتك».. وكما فعل أهل الابن الذى أهملوه من نضال إلى أن استعادوه.. وكما أخذت الأم ابنها فى حضنها بعد سنين.. هتفنا «بالأحضان يا سينا». * محمود المراغى وأنا أبحث فى مراجعى عن سيناء وجدت مرجعا.. «سيناء الحرب.. والمكان» أوراق مهمة من معلومات تاريخية ومشاهدات شخصية فى زيارات ومقابلات مع أهل سيناء رصدها ونشرها الكاتب السياسى والاقتصادى.. محمود المراغى. توقفت مع سيل الذكريات.. مع زميل الدراسة والعمل لسنين طويلة.. الصحفى المتميز والنقابى الذى عمل بجدية وصدق وأخلاق راقية فى نقابة الصحفيين لسنين طويلة.. كان الراحل علامة من العلامات المشرفة فى نقابتنا.. أتذكره دائما كلما يحين موعد الانتخابات كنت أعطيه صوتى.. لعضوية المجلس، وعندما رشح نفسه لمنصب النقيب أعطيته صوتى بالرغم من أن منافسه كان أكثر نفوذا بموقعه المهنى والمادى وطبعا فاز بهما.. أتذكر محمود المراغى الآن.. بحكمته وتفكيره المنظم، أفتقد كلماته وتصوره وحلوله للأمور الصعبة.. فليس غريبا أن يقودنى شعور مبهم ما يسمونه «اللاوعى» إلى ما كتبه عن سيناء فى وقت مفروض فيه إجراء انتخابات نقابة الصحفيين، نقابتنا العزيزة!! * سيناء.. وشعار المستقبل من هذه الأوراق المهمة التى كتبها محمود المراغى عن سيناء.. شخصية شبه الجزيرة.. فهى ذات موقع فريد.. أرض صعبة، مياه قليلة.. طرق أقل.. ثروات مدفونة.. وناسها مجتمع صغير ينتشر فى مساحات هائلة.. يتجمع فى أماكن محدودة، ويتناثر فى أماكن كثيرة.. أبرز تجمعاته فى العريش.. وردا على ما يدعيه بعض مفكرى الصهيونية من حقوق تاريخية فى سيناء!! يقول: إن معظم من كتبوا عنها لم ينكروا عليها مصريتها، فالتاريخ يذكر أن سيناء كانت دائما جزءا من مصر.. وعندما عثر رجال الآثار على كتابات هيروغليفية فى صخور جبل «المغارة».. استطاعوا أن يكتشفوا الصلة بين شبه الجزيرة ووادى النيل قبل تاريخ الأسرات.. منذ سبعة آلاف عام.. وكانت سيناء منذ القدم ساحة قتال، وقد وصل عدد الجيوش التى عبرتها 46 جيشا آخرها.. إسرائيل. ومن التاريخ وضح «المراغى» لنا أن الاستعمار البريطانى لمصر هو الذى انتزع سيناء من حضن أمها الحنون.. مصر.. فقد جعلت السلطات البريطانية لأبناء سيناء هوية خاصة وجعلت الخروج منها والدخول إليها بتصاريح خاصة.. فقد اعتبرها الاستعمار شيئا آخر غير مصر.. وظلت هذه الفكرة قائمة لسنين طويلة.. وقد حاولت مصر بعد ثورة يوليو 1952 الاهتمام بسيناء وكان أهم ما تم فى مجال التعدين والبترول. لقد ظهرت هذه الأوراق المهمة للكاتب العزيز الراحل «محمود المراغى» قبل أن تعود سيناء كاملة إلى مصر.. وتصور بل تنبأ عن مستقبل سيناء عندما تعود كاملة لمصر.. ساحل البحر المتوسط شواطئ ومصايف ومدن.. الجنوب سياحة مزدهرة.. والشمال وديان ومزروعات.. كتب أن المجهول فى سيناء أكثر من المعلوم فيها.. ولابد أن يكون شعار المستقبل.. جزءا من قلب مصر فى سيناء. * سقف مصر ويرشدنا الجغرافى العظيم د.جمال حمدان إلى عبقرية المكان فى سيناء.. فى كتابه الرائع ذى المجلدات الأربعة عن «شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان» فى الجزء الأول خصص فصلا كاملا عن شبه جزيرة سيناء.. أعجبنى ما وصفه عن الجبال الشاهقة فى جنوبسيناء بأنها ليست فقط سقف سيناء بل سقف مصر جميعا.. ويشاهد هذا المنظر الفريد ركاب الطائرات الذاهبة إلى الجنوب.. كتب عن تلك الجبال وخواصها.. وأعلاها.. كتابات تفصيلية لمن يهمه الأمر.. ونقرأ من كلمات العالم الجغرافى عن سيناء: «تبدو سيناء بكتلتها المندمجة المكتنزة كثقل معلق.. أو مثل سلة مدلاة على كتف مصر الشرقى فى أقصى الشمال، لا تلتحم بها إلا بواسطة برزخ السويس».. والبرزخ فى علم الجغرافيا هو قطعة أرض ضيقة محصورة بين بحرين موصلة بين أرضين.. ويقول: «قبل حفر قناة السويس كان لشبه جزيرة سيناء ثلاثة سواحل وقناة السويس حولت هذه السواحل الثلاثة إلى ساحل واحد متصل يلف شبه الجزيرة من جميع الجهات إلا على حدود فلسطين فهى أطول سواحل مصر عامة». ويرشدنا د. جمال حمدان عن الثروات المعدنية فى شبه الجزيرة، وكم هى زاخرة بها.. يحدثنا عن الوديان والهضاب والجبال والواحات الجبلية المعلقة.. معلومات قيمة لنفهم معنى سيناء فى حياتنا. وكتب الجغرافى العظيم: «إن سيناء المستقبل لن تعود إلى سيناء القديمة المنعزلة.. وهنا يأتى دور التخطيط القومى الواعى الفاعل ليذيب العزلة.. فبعد دروس العدوان الإسرائيلى المتكرر، وتجربة احتلال العدو التعسة أصبح ربط سيناء بالوطن مصر ودمجها فى كيانه العضوى، وإدخالها فى دائرة كهربائه الحيوية والحياتية بديهية أولية للبقاء. والمواصلات والتصنيع والزراعة والتعمير هى أدوات هذا التخطيط الحضارى». وكأن د. جمال حمدان كتب هذا لمن لا يقرأ.. ونصح لمن لا يسمع!!.. وإذا كان بدأ الاهتمام بسيناء بعد استرداد الأرض كاملة فى أوائل ثمانينيات القرن الماضى.. إلا أن الاهتمام لم يكن عاما لكل ثروات شبه الجزيرة.. والتعمير لم يكن عاما لكل سكانها ولكل من يرغب فى تعميرها. * سيناء إحساس عندما ذهبنا فى رحلة إلى شمال سيناء فى أوائل تسعينيات القرن الماضى لم تبهرنى كما بهرتنى طبيعة الجنوب.. طبيعة الشمال مختلفة تماما عن الجنوب الجبلية فى أرض منبسطة شديدة الاتساع والوضوح.. وكان الرجل المحب لهذه المنطقة المحارب القديم «منير شاش» الذى كان محافظا يعرف شعور كل من يزورها لأول مرة، خصوصا إذا كان زار الجنوب! فقال لنا «سينا إحساس».. وأن المنطقة الشمالية التى تطل على البحر المتوسط لا تستطيع الاعتماد على السياحة كما فى جنوبسيناء. لكن هذه الأرض الشاسعة بها تربة خصبة تصلح للزراعة. وشاهدنا على الطبيعة الأراضى الزراعية التى أنشئت حديثا بجهود عظيمة للمحارب القديم.. شاهدنا مزارع.. زيتونا.. فواكه.. قمحا.. خضارا.. وفهمنا أن الأراضى فى هذه المنطقة تحتاج لعناية.. كانوا يتحدثون ومازالوا.. عن الأمل فى «ترعة السلام» التى وعدوا بها لزيادة استصلاح الأراضى،الزراعة هناك تقوم على الأمطار ومياه الآبار. الآمال الكبيرة لشمال سيناء.. وجنوبها للاستفادة بثرواتها الطبيعية.. الآمال الكبيرة ألا نهملها حتى لا تخطفها عصابة من العصابات وإن كان الخطف لمجرد جزء منها.. لأن سيناء كانت وستبقى إن شاء الله جزءا من قلب مصر.