يحتل الإعلام المكانة الأكبر فى توجيه الرأى العام فى الشعوب. غير أنه مع التداخل المرغوب أو غير المرغوب فيه بين ثقافات شعوب العالم وجدت كثير من دول العالم، خاصة تلك التى لا تملك التقنية الحديثة، نفسها -ونحن منها - فى موقف المتفرج فى الوقت الذى أصبحت فيه شعوبها تتلقى ثقافة الغير دون أن تكون قادرة على نشر ثقافتها هى نفسها كما تريدها فى بلدها دون تدخل خارجى. ومع هيمنة الثقافة الإعلامية الغربيةوالأمريكية خاصة، أصبحت ثقافة تلك الدول هى الأكثر انتشارا. و لقد تنبهت كثير من دول العالم إلى خطورة هيمنة تلك الفضائيات على ثقافة وفكر شعوبها. ومع أن دولة مثل فرنسا وهى إحدى الدول التى تملك مثل تلك القنوات لا تختلف ثقافتها كثيرا - من المنظور الشرقى - عن بقية الثقافات الغربية إلا أنها بدأت فى تحديد نسبة الأفلام الأمريكية التى تعرض فى فرنسا حتى لا تكتسح تلك الأفلام ذات الثقافة الأمريكية الشارع الفرنسى وتطغى على ثقافته. وقد ظهر هذا الانزعاج كذلك على دولة مجاورة لأمريكا هى كندا مع أن الدولتين فى حقيقة الأمر تتفقان فى كثير من الأمور الفكرية والأيدلوجية إلا أن تلك الهيمنة الأمريكية والتخوف من طغيان الثقافة الأمريكية على الثقافة الكندية جعلت وزيرة الثقافة الكندية تصرخ قائلة: «من حق الأطفال فى كندا أن يستمتعوا بحكايات جداتهم، ومن غير المعقول أن تصبح 60% من برامج التلفزيون الكندى مستوردة وأن تكون 70% من موسيقانا أجنبية و95% من أخلاقنا ليست كندية».. فإذا كانت تلك الدول تتنافس على أن تكون ثقافتها هى السائدة ؛لماذا لاننتبه مثلهم ويظل دور الفضائيات العربية فى الأغلب مجرد ترجمة لما تبثه الفضائيات الأخرى غير عابئة بمشاعر البلدان العربية ولا ثقافاتها وكأن ما يحتاجه المتلقى العربى فى هذه المرحلة الحرجة من تاريخه هو المزيد من التغريب وعرض كل ما يخدش الحياء ويؤذى أخلاقنا. ولئن كنا نعيش الآن فى عصر العولمة والسماوات المفتوحة فكان الأجدر بتلك الفضائيات أن تبرز الثقافة والهوية العربية إزاء الهجوم الكاسح للثقافة الغربية التى يبدو أنها أصبحت بضاعة سائغة لأغلب تلك القنوات الفضائية. رغم أن العكس هو الأرجح بعد ربيع الثورات العربية فالعالم كله يتجه بأنظاره إلينا هذه الأيام. فمع انتشار الفضائيات فى عالمنا العربى أواخر القرن الماضى، توقع كثيرون أن تسهم هذه الفضائيات فى دعم الوحدة العربية ورفع سقف الحرية ونشر الثقافة، وتقديم الأخبار الأكثر صدقاً واحتراماً لعقل المشاهد، بل والانطلاق من أسر المحليات إلى فضاء العالميات والدوليات، فلا يصبح المشاهد أسيراً لأخباره القطرية المصاغة بإحكام وتوجيه من القائمين عليها، بل يصبح له مطلق الحرية فى انتقاء المحطة التى تزوده بالخبر الصحيح أو الأكثر إقناعاً على الأقل. أمر آخر توقعنا أن تسهم فيه الفضائيات العربية وهو كسر قاعدة أحادية المعلومات والأخبار التى تتدفق فى كل لحظة من دول العالم الصناعى إلى دول العالم الثالث. ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث على أرض الواقع، وربما يعود هذا الفشل من قبل الفضائيات العربية فى أداء هذا الدور المرجو منها إلى أن الغرب الصناعى ما زال يحتكر الوكالات الإخبارية الأربع الكبرى لبث الأخبار العالمية، وما زال يحتكر مؤسستين أو ثلاثا للصورة الخبرية مع عدم وجود شبكة أخبار عربية فاعلة تمتلك مقومات النجاح لتزويد المحطات العربية بالأخبار المطلوبة، وعدم سرعة تحرك أطقم الشبكات العربية إلى مواقع الحدث، وإدهاش المشاهدين بدقة التغطية وآنيتها. والحقيقة إن أكثر ما تنقله بعض هذه الفضائيات لا يتعدى المظهر الخارجى من ثقافة الغير وبالتالى لابد حتما أن تنقل تشوهات ثقافات تلك المجتمعات الغربية وكان الأجدر بها أن تنقل إلى شعوبها تلك التقنية المتقدمة التى نحن فى أشد الحاجة إليها بدلا من نقل تشوهات تلك المجتمعات التى لفظتها تلك المجتمعات نفسها أو تحاول التخلص منها إن هى استطاعت ذلك. فها هى ظاهرة تفكك الأسرة العربية تبدأ فى الظهور وكثرت نسبة الطلاق فى المجتمعات العربية والإسلامية على نحو خطير لم نعرف له مثيل فى الماضى وزاد عزوف كثير من الشباب عن الدراسة والتعلم وغير ذلك من الأمور الملاحظة. ولا يمكن فى كل ذلك تجاهل دور الفضائيات. نعلم أن المجتمع الغربى والأمريكى نفسه يعانى من تأثير البرامج والأفلام على الأطفال والكبار حيث أدرك علماء الاجتماع والتربية هناك أن لتلك البرامج دورا كبيرا فى تفشى العنف والاغتصاب فى مجتمعاتهم. وإذا كانت تلك الدول تحذر مواطنيها من تأثير تلك البرامج فلماذا تصر فضائياتنا على دخول نفس الجحر الذى يحاول غيرنا الخروج منه. ربما يكون أحد أسباب ذلك أن بعض مذيعينا العرب لايزال مأخوذاً بكل ما هو غربى أو قادم من الطرف الآخر، ويعتقد أن تقليد البرامج الأجنبية يمثل دخولاً إلى عالم الشهرة والمجد. ورغم أن اقتباس أفكار جديدة لبرامج عربية يمكن أن يثرى التجربة بعد تحوير الأفكار لتناسب البيئة العربية، فإن المشكلة أو الظاهرة المؤسفة أن نجد برامج عبر بعض محطات F.M تقدمها مذيعة تتحدث بلغة مزدوجة عربية - إنجليزية، رغم أن جمهور المحطة كلهم من العرب. فعقدة الأجنبى أخذت تتسلل إلى برامجنا ووسائلنا الإعلامية بصورة غير مقبولة، وذلك أن الجيل الإعلامى الحالى الذى صنعته الفضائيات وأطلقته بسرعة الصاروخ لم يقرأ الإعلام جيداً، ولم يتقن الحرفية التى يجب عبرها التخاطب مع الجمهور. * فى الأسبوع القادم نستعرض حال الثقافة العربية فى فضائياتنا العربية ، فإلى لقاء يجمعنا بمشيئة الله.