عندما أبحث عن كلمات لوصف هذا الفيلم أجد الكثير والكثير. إنه فيلم عن معنى الجمال والرقى عن القبح والتشويه ومحو الذاكرة عن الشغف والحلم وسرقة الحلم. من دار الاوبرا الجميلة الى جراج خرسانى قبيح إنه فيلم عن مأساة حدثت قبل 40 عاما فى فجر 28 أكتوبر 1971 والمكان ميدان الأوبرا خلف تمثال إبراهيم باشا عندما اندلعت ألسنة اللهب فى مبنى الأوبرا المصرية الخديوية، ثالث أعرق أوبرات العالم، لتأتى النيران بالكامل على أعرق وأجمل وأقدم صروح الثقافة المصرية. هذا المبنى الحلم الذى شيده الخديو إسماعيل عام 1869 احتفالا بمشروعه الحضارى لربط الشرق بالغرب: افتتاح قناة السويس. المشهد كالتالى: 28 أكتوبر 71 النيران تلتهم أوبرا القاهرة يأتى جميع أعضاء الأوبرا من كل مكان فنانون وفنيون عازفون ومغنون يقف الجميع مشدوهين من هول الصدمة، البكاء الشديد والمرارة هو المشهد الغالب على وجوه الجميع. النيران تلتهم تراث الأوبرا الذى لا يقدر بثمن الملابس والإكسسوار والديكورات، النوت الموسيقية والآلات والكتب لا يستطيع أحد إنقاذ تراث الأوبرا والمهزلة تكتمل أركانها بوقوف رجال الإنقاذ المدنى عاجزين عن إطفاء الحريق بخراطيم المياه الضعيفة المهترئة. يمر بالمصادفة مصور هاو يحمل كاميرا سينمائية 8 مم يصور الحدث بالكامل ويختفى بعد ذلك. دموع فنانى الأوبرا وفنييها تعبر عن حجم المأساة. الكل يدرك أن المستقبل انتهى وأن حياتهم جميعا تغيرت وأن أحلامهم سرقت منهم بفعل فاعل لا يعرفونه، تنتهى الأوبرا وتختفى إلى الأبد، يمضى الجميع بمرارة من أمام المشهد المهيب. تمر سنون طويلة يتغير الزمان والمكان، المشهد فى الميدان يغلب عليه القبح والعشوائية ولا يبقى من ملامح الماضى سوى تمثال إبراهيم باشا والذى يقبع خلفه ليست الأوبرا العريقة ، ولكن مبنى آخر يمثل تجسيدا لكل معانى القبح الذى أحاطنا إلى حد الاختناق واعتياد القبح الذى أفقدنا الإحساس بالجمال إنه جراج مسلح قبيح ، وهنا تبرز المأساة الثانية، لا أحد يلتفت ولا أحد يهتم بالبحث ومعرفة ماذا حدث؟ ولماذا حدث؟ وكيف حدث؟ تتلاشى الذاكرة، ينسى الجميع أنه خلف تمثال إبراهيم باشا كان يتجسد معنى الجمال والفن الرفيع، والقابع الآن كل هذا القبح والتشويه، ولا يحاول أحد البحث عن الحقيقة إلى أن جاء فنان عاشق للتراث إنه مدير التصوير السينمائى كمال عبد العزيز يأتى بعد سنوات طويلة من الحدث ، ويمضى بكل شغف السينمائى التسجيلى باحثا عن حقيقة المأساة التى غلفها النسيان والإهمال المتعمد، يجمع عشرات الصور الفوتوغرافية التى تؤرخ لهذا المكان العريق الذى أقيمت عليه أوبرا عايدة لأول مرة عند افتتاح قناة السويس، وقدمت على خشبته عروض لأعظم الفرق الأوبرالية فى العالم هذا المكان الذى لم يعد له وجود، ويتوصل صانع الفيلم وبعد بحث طويل للوثيقة السينمائية النادرة والوحيدة التى سجلها الهاوى الذى مر بالمصادفة، إنه الشغف الذى يحرك السينمائى التسجيلى ويبحث صانع الفيلم عن شهود المأساة ممن لا يزالون على قيد الحياة إنهم شهود الحدث الذى كان إيذانا بانهيار الثقافة والفن الرفيع فى مصر ومنهم قائد الأوركسترا د. مصطفى ناجى - بالرينة مصر الأولى د. ماجدة صالح - مغنية الأوبرا فيوليت مقار - صالح عبدون آخر مدير لدار الأوبرا - د. رتيبة الحفنى وغيرهم من نجوم الأوبرا، وكذلك يحوى الفيلم شهادة ثلاث شخصيات من الفنيين العاملين بالأوبرا القديمة، منهم مدير الكهرباء وفنى تغيير المناظر وأحد نجارى الأوبرا والذين تفيض شهاداتهم عن الحدث وعن عملهم بالأوبرا بالحب للمكان ، ولهذا الفن الذى لم يدرسوه ولا يستطيعون فهمه ولكنهم يقدرون قيمته العظيمة ويتحسرون على الأجيال التى لم تر الأوبرا القديمة يجلس كل هؤلاء أمام كاميرا كمال عبد العزيز ليروا شهاداتهم عن المأساة التى عاصروها وهم فى شرخ الشباب ويرونها الآن ومعظمهم شيوخ ليقدم لنا كمال عبد العزيز، بالشهادات الحية والوثائق الفوتوغرافية والسينمائية فى 40 دقيقة، عملا يمثل بعمق روح السينما التسجيلية بكل نقائها وصدقها رغم بساطة الشكل المتعمدة من جانب صانع الفيلم ، فالكاميرا ثابتة تتلقى شهادة الشخصيات وأحاسيسهم ومن خلال المونتاج يتحرك الفيلم عبر الزمن من خلال الوثائق السينمائية والفوتوغرافية. يبدأ الفيلم بعبارة للفيلسوف والخطيب السياسى الرومانى سيسرو: ( أن تكون جاهلا بما حدث قبل أن تولد يعنى أن تظل طفلا إلى الأبد ). بهذه العبارة يكشف لنا صانع الفيلم لمن صنع فيلمه ولماذا ؟ لقد صنعه للأجيال التى لم تشهد ولم تسمع ولم تعرف كيف كنا وكيف أصبحنا كيف تشوهت مصر وكيف تم محو ذاكرتنا واستبدالها بذاكرة هشة كيف تم استبدال الجمال بالقبح والفن الرفيع بالابتذال، فيلم حريق أوبرا القاهرة يثير الكثير من الشجن ويحمل بداخله الكثير من الأسئلة حول هموم الوطن