بسبب عدم التزامهم .. وزارة التموين تتوعد أصحاب المخابز السياحية المتلاعبة في أسعار الخبز السياحى والفينو    بالصور.. كنيسة رؤساء الملائكة تحتفل بأحد الشعانين    نشرة «المصري اليوم» الصباحية.. أسرة محمد صلاح ترفض التدخل لحل أزمته مع حسام حسن    اعتقال عشرات المؤيدين لفلسطين في عدد من الجامعات الأمريكية    الزمالك يسعى لخطف بطاقة التأهل أمام دريمز بالكونفيدرالية    عاجل.. مدحت شلبي يفجر مفاجأة عن انتقال صلاح لهذا الفريق    الفرح تحول لجنازة.. تشييع جثامين عروسين ومصور في قنا    حالة الطقس اليوم الأحد ودرجات الحرارة    الأزهر: دخول المواقع الإلكترونية المعنية بصناعة الجريمة مُحرَّم شرعاً    الأهرام: أولويات رئيسية تحكم مواقف وتحركات مصر بشأن حرب غزة    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأحد 28 أبريل    عيار 21 بكام.. انخفاض سعر الذهب الأحد 28 أبريل 2024    بطلوا تريندات وهمية.. مها الصغير ترد على شائعات انفصالها عن أحمد السقا    لا بديل آخر.. الصحة تبرر إنفاق 35 مليار جنيه على مشروع التأمين الصحي بالمرحلة الأولى    كينيا: مصرع 76 شخصًا وتشريد 17 ألف أسرة بسبب الفيضانات    محاكمة المتهمين بقضية «طالبة العريش».. اليوم    موعد مباراة إنتر ميلان وتورينو اليوم في الدوري الإيطالي والقناة الناقلة    تصفح هذه المواقع آثم.. أول تعليق من الأزهر على جريمة الDark Web    الأطباء تبحث مع منظمة الصحة العالمية مشاركة القطاع الخاص في التأمين الصحي    سيد رجب: بدأت حياتى الفنية من مسرح الشارع.. ولا أحب لقب نجم    السكك الحديد تعلن عن رحلة اليوم الواحد لقضاء شم النسيم بالإسكندرية    لتضامنهم مع غزة.. اعتقال 69 محتجاً داخل جامعة أريزونا بأمريكا    زلزال بقوة 6.1 درجة يضرب جزيرة جاوة الإندونيسية    التصريح بدفن جثة شاب صدمه قطار أثناء عبوره المزلقان بقليوب    ماكرون يعتبر الأسلحة النووية الفرنسية ضمان لبناء العلاقات مع روسيا    أتلتيكو مدريد يفوز على أتلتيك بلباو 3-1 في الدوري الإسباني    اشتباكات بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي غرب رام الله    تسليم أوراق امتحانات الثانوية والقراءات بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    فضل الصلاة على النبي.. أفضل الصيغ لها    غدا.. محاكمة عاطل متهم بإنهاء حياة عامل في الحوامدية    عضو اتحاد الصناعات يطالب بخفض أسعار السيارات بعد تراجع الدولار    حسام البدري: أنا أفضل من كولر وموسيماني.. ولم أحصل على فرصتي مع منتخب مصر    بالأسماء.. مصرع 5 أشخاص وإصابة 8 في حادث تصادم بالدقهلية    هيئة كبار العلماء السعودية تحذر الحجاج من ارتكاب هذا الفعل: فاعله مذنب (تفاصيل)    بعد التراجع الأخير.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد 28 أبريل 2024 بالأسواق    هل مرض الكبد وراثي؟.. اتخذ الاحتياطات اللازمة    حسام غالي: كوبر كان يقول لنا "الأهلي يفوز بالحكام ولو دربت ضدكم (هقطعكم)"    إصابة 8 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ربع نقل بالمنيا    نصف تتويج.. عودة باريس بالتعادل لا تكفي لحسم اللقب ولكن    اليوم، أولى جلسات دعوى إلغاء ترخيص مدرسة ران الألمانية بسبب تدريس المثلية الجنسية    عمرو أديب: مصر تستفيد من وجود اللاجئين الأجانب على أرضها    غادة إبراهيم بعد توقفها 7 سنوات عن العمل: «عايشة من خير والدي» (خاص)    نيكول سابا تحيي حفلا غنائيا بنادي وادي دجلة بهذا الموعد    الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري للبيع والشراء اليوم الأحد 28 إبريل 2024 (آخر تحديث)    تحولات الطاقة: نحو مستقبل أكثر استدامة وفاعلية    متحدث الكنيسة: الصلاة في أسبوع الآلام لها خصوصية شديدة ونتخلى عن أمور دنيوية    ما حكم سجود التلاوة في أوقات النهي؟.. دار الإفتاء تجيب    الأردن تصدر طوابعًا عن أحداث محاكمة وصلب السيد المسيح    تشيلسي يفرض التعادل على أستون فيلا في البريميرليج    هل يمكن لجسمك أن يقول «لا مزيد من الحديد»؟    23 أكتوبر.. انطلاق مهرجان مالمو الدولي للعود والأغنية العربية    دهاء أنور السادات واستراتيجية التعالي.. ماذا قال عنه كيسنجر؟    السيسي لا يرحم الموتى ولا الأحياء..مشروع قانون الجبانات الجديد استنزاف ونهب للمصريين    أناقة وجمال.. إيمان عز الدين تخطف قلوب متابعيها    ما هي أبرز علامات وأعراض ضربة الشمس؟    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من الإصابة بهذا المرض    " يكلموني" لرامي جمال تتخطى النصف مليون مشاهدة    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عهد مع الحياة
نشر في صباح الخير يوم 17 - 01 - 2024

هذه الرواية تأخذ بيد أبطالها المغتربين إلى موطنهم، وتشد على أيدى المقاومين الذين يحملون شعلة أرواحهم ليوقدوا شمسًا جديدة تطل على بلادهم، ويقبسون من حكاياتهم نورًا يضىء الطريق أمام الآخرين، يأخذون عليهم عهدًا بالحياة ضد الحزن والغربة .. إنها رواية فى محبة الحياة.
«يافا - حكاية غياب ومطر» رواية مهمة للكاتبة الفلسطينية نبال قندس، وقد صدرت الطبعة الثامنة من الرواية عن الدار العربية للعلوم - بيروت - لبنان.



مذكرات ويوميات
تعتمد الرواية على فن تسجيل المذكرات، والرسائل لنتعرف من خلالهما على بطلتين أساسيتين هما الساردة الفتاة العشرينية التى تعمل مراسلة صحفية لقناة تليفزيوينة، و«يافا» الكاتبة والصحفية الأربعينية التى اعتزلت مهنتها كما اعتزلت الناس إثر استشهاد أخيها وخطيبها «حسن القطان» فى ثورتهما ضد الاحتلال الإسرائيلى، والانضمام إلى المقاومة.
تريد الفتاة العشرينية أن تخرج جارتها من عزلتها وصمتها لكن «يافا» تكتفى بحزنها وما ينبعث فى بيتها من موسيقى وأغان شجية.
رسائل دافئة
العشرينية تتغلب على وحدتها بسبب سفر حبيبها إلى منفاه بكتابة الرسائل إليه تارة وكتابة الرسائل تارة أخرى لجارتها «يافا»، تحاول أن تبث فى نفسها حياة كادت أن تخبو بسبب غياب الحبيب، وقسوة الوحدة. تعرف نفسها لقارئها فتقول: (عشرينية، مراسلة صحفية لقناة تليفزيونية، طفلة صغيرة تعشق المطر، والموسيقى، والشعر، ورائحة الكتب والقهوة، والتراب المبلل بالمطر، وأحضان الأمهات والأطفال، كاتبة صغيرة وأم لرواية وحيدة تنام فى المكتبات والمخازن، وبيوت بعض القراء الذين غمروهم بدفئهم.
برسائلها الدافئة إلى حبيبها المغترب تقترب من عالمها هى، وكأنها بطاقة الحب السحرية تكتشف ذاتها، تعرف ما تريد، وتعبر عن نفسها بطلاقة وحرية فتقول له:
عليك أن تعلم أننى حين أحتفظ بقلبى فى ثلاجة الموتى ثلاثة وعشرين عامًا ثم أشعله كمصباح لأجلك، هذا يعنى أننى أتوقع منك أن تعطى قلبى حقه لا أن تسبب له حمى القلق، كونى أحب الكتابة كثيرا لا يعطيك الحق بأن تجعل كل حياتى بين الكلمات وعلى الورق، أريد أن أمشى معك تحت المطر، أغنى لك، أزور والدتك، وأكون نصيبك، فهل هذا كثير؟
وتصنفر الساردة وحدتها بالأغانى التى تعشقها، كعتبات تزين نصها (مذكراتها) لتأخذ قارءها إلى عالم رهيف مشحون بالعاطفة، لوحدة لا تجد من يؤنسها، فتسمعنا من أغنيات فيروز ما يتصل بالإحساس بالاغتراب: أديش كان فى ناس/ ع المفرق تنطر ناس/ وتشتى الدنى، ويحملوا شمسية / وأنا بأيام الصحو ما حدا نطرنى.
لابد عائد
ولكن تأتى المفارقة عندما نرى أن الساردة تستطيع أن تتغلب على وحدتها، وإحساسها بالاغتراب عندما تؤمن بأنها هنا تعيش فى مدينتها «يافا» فتطمئن، وتثق بأن حبيبها لابد عائد إليها وإلى موطنه، فتقول: «أنت بعيد، بيننا مسافات كبيرة، تعيش شتاءك وحدك فى الغربة، وأعيش الشتاء هنا فى الوطن، فى مدينتنا، لكن على الرغم من المسافات أثق بك، وأشعر أنك فى قلبى، قريب جداً، أثق بقلبك وحبك، وأثق أن المسافات لن تضعف حبنا، بل ستمنحه القوة والقدرة على الاستمرار.
تواصل الفتاة الكتابة لحبيبها فتكتب له عن أحوال مدينتهما، وتسجل تمردها وغضبها على الاحتلال الإسرائيلى الذى يسلبها حقوقها وأحلامها فتقول: (لو أننى أغادر الحافلة فى هذه اللحظة فأراك أمامى لنحقق هذا الحلم الصغير الذى لن يعرقل مسير العالم، ولن يجعل من الأطفال أيتاما ولا جوعى، لن يدمر البيوت، أو يشرد أهلها لن يقصف مدرسة أو ملعب كرة قدم، ولن يخطف من يد طفل رغيف خبز، لماذا تقف الحياة فى وجه أحلامنا البسيطة؟ بينما تفسح الطريق للحروب والدمار والقتل، لماذا تغلق الحدود أبوابها؟ فلا تعيدك إليّ بينما تظل مفتوحة للدبابات والأسلحة؟!



فكر بغيرك
ونمضى مع الساردة التى تستطيع أن تثرى نصها بنصوص أخرى، حكايات تولد من قلب حكايات، كلها تؤكد التمسك بالجذور، بالدفء الذى كان، بالبيوت التى تنتظر أصحابها، فتبدأ بعتاب حبيبها الذى اختار الغربة بينما تحكى له على أولئك الذين يتمنون العودة للدفء وللديار فتقول له: (كيف تعيش فى مدينة لاتشبهك، ولا تجد فى طرقاتها وجه أمك، ورائحة كفيها المخضبتين بالحناء).
ثم تقص عليه حكايات الذين يعيشون فى المخيم فتبدأ رسالتها بعتبة نصية من أشعار محمود درويش يقول فيها:
«وأنت تعود إلى بيتك/ فكر بغير/ لا تنس شعب الخيام».
وكأنها تذكر حبيبها بالواقع الأليم للمخيمات والأهل الذين يعيشون فيها، وتذكره بأن لا ينساهم فى البلد الغريب فتقول له: (لقد كان أسبوعى مرهقا، صادما، لكل من تبقى فى كيانه ذرة من الإنسانية، أو كل لى مدير العمل كما أخبرتك سابقا مهمة الذهاب إلى مخيمات اللاجئين المقامة على الحدود، والتى يقطن فيها آلاف اللاجئين.
بالقطن والغيم والحب
وتتوالى الحكايات داخل النص لترصد ما قاله لها بعض النازحين إلى المخيمات فتقول على لسان فتاة التقت بها فى المخيم:
كانت أمى تجلس فى زاوية الغرفة محتضنة بين ذراعيها جسد أخى الصغير، وكنت أجلس إلى جانبها قليلا، ثم أغادر إلى الزاوية المقابلة خوفا من صوت أنفاسها، ودقات قلبها المرتعشة، بقينا على هذه الحال حتى بدأ صوت القصف يدوى فوق رؤوسنا، وكانت السماء تمطر رعبا، غادرت مكانى أتحسس طريقى فى الظلام بعد أن انقطعت الكهرباء، اقتربت منها، وقبل أن أصل إلى حضنها، وقعت الكارثة، وانهار البيت فوق رؤوسنا، البيت الدافئ الذى كان يضم على صغره أكبر أحلامنا، وطموحاتنا، ملابسنا الأنيقة التى كانت تختارها أمى بعناية، أدواتنا المدرسية، الألوان، كراسة الرسم، ألعابنا المحشوة بالقطن والغيم والحب.
أبوأحمد وأبوسليم
ويضم النص الروائى حكايات أخرى عديدة لأولئك الذين يحلمون بأرض الوطن فلم يدركوا الحلم، مثل «أبوأحمد» جد «يافا» الذى انقطعت أخباره فى حرب حزيران 1967 ، ولم تعرف عنه زوجته من يومها شيئا، ومثل الحاج «أبوسليم» (الذى توفى تاركا خلفه الدكان، والبندقية القديمة التى ظلت معه بعد الحرب معلقة فى صدر الواجهة المقابلة للباب، مات قبل أن يرى «حيفا» و«يافا» و«عكا» وكل شبر من الساحل الفلسطينى، رحل من دون أن يودعنا، وقبل أن يتذوق برتقال «يافا» أو سمك «عكا» الطازج، قبل أن يتنفس هواء البحر المنعش، غادر «أبوسليم» قبل أن أرافقه إلى طبيب العيون ليفصل له نضارة جديدة.
سجون الاحتلال
وترصد الساردة مناخ الحذر، والترقب والاضطهاد، وكل ما يعانى منه الأهالى بسبب بالمحتل فتقول: (ففى هذه الأيام يخشى الجميع من أى سؤال يطرح، حتى لو كان «شو طابخين اليوم؟»، فالمخبرون ينتشرون فى كل مكان، ويسجلون ما قيل، وما لم يقل، والسجون لاتستثنى أحدا، لا طفلا ولا كهلا، ولديها دائما متسع لمساجين جدد، كل كلمة تقال تصل إلى الآخرين، وقد صارت قضية كبرى، يبدأ الكل بتحليلها لقياس مدى علاقتها بالوضع السياسى، من الصعب على الناس الحديث فى أى موضوع كان، فآذان الحيطان تصغى، والسجون على استعداد لاستقبال الجميع.
طوق النجاة
تخرج الساردة من عالم رسائلها لحبيبها إلى عالم رسائل آخر لجارتها الوحيدة «يافا» وكأن الرسائل الصامتة هى شفرة التواصل فى مناخ يستلزم الحذر، ويهاب الكلمات المسموعة، فتصبح الرسائل المخطوطة وسيلة للتواصل، والكشف عن الذات - طموحاتها ورغباتها، وآلامها، وتوقها للتواصل مع الآخرين، تريد الساردة العشرينية أن تتحدث إلى جارتها «يافا»، تشعر بأن بينهما أمورًا مشتركة، فهما تحبان الموسيقى، وصوت فيروز، ورائحة الكتب، وعندما تعلم الساردة أن «يافا» كانت تعمل بالصحافة، وكانت مقالاتها تستلفت القراء، وكذلك رواياتها وقصصها بعد أن أسرت لها الخالة «أم سلمى» بكل ذلك، زادت رغبة الفتاة فى الاقتراب من «يافا» فهما نسيبتان وقريبتان للكلمة، لهذه الحروف المجنحة التى تحلق فى بياض الورق، لتطالع القراء فى الصحف فتحمل إليهم دفقات النور، وشحنات الأمل، لذا ظلت الفتاة العشرينية تكتب ليافا رسائل عن الأخبار المهمة فى الصحف، عن حالة الطقس، عن اقتباساتها المفضلة من الكتب التى قرأتها، عن رسائلها لحبيبها، تحدثها كأنها صديقتها المقربة، وتنجح هذه الرسائل فى تغيير حياة «يافا» فتبدأ فى الخروج من عزلتها، ويطالعنا النصف الثانى من الرواية بمذكرات (يافا) التى تبدأ فى كتابة يومياتها، وكيف استقبلت الفتاة وقامت برعايتها عندما أصابتها الحمى، لوقوفها المستمر تحت المطر أمام باب بيتها فتقول «يافا»: (لا أدرى كيف غافلتنى نفسي؟ وأدخلت هذه الفتاة إلى هنا؟. كيف رق قلبى لها حين رأيتها تتهاوى على عتبة المنزل هذا الصباح، كل ما أعرفه أننى استعدت تاريخى كاملا فى اللحظة التى سقطت فيها أمام الباب، ووجدت نفسى أرض نحوها، وأنتشلها كأننى أجد فيها عمرى الذى ضاع منى من دون أن أنتبه أن طوق النجاة كان طيلة الوقت أمام عينى، من دون أن أمتلك الجرأة الكافية لأمد يدى نحوه.



مازالت هناك حياة
وتفصح مذكرات (يافا) وبوحا عن سر غموضها، وعزوفها عن مقابلة الآخرين، وهذه العزلة التى فرشتها على نفسها فظلت لمدة عشر سنوات لاتفتح بابها، وتطلب من البقال أن يترك لها ما تحتاج من أطعمة أمام الباب، فتحكى «يافا» معبرة عن ذاتها، حيث تبدو المذكرات وسيلة فنية مناسبة ليتدفق السرد، والكشف عن مخاوف الذات، ومونولوجها الداخلى فتقول:
كنت قد عاهدت نفسى ألا أفتح هذا الباب لأحد، أن لا أخالط البشر مجددا كى لا أعيش فقد آخر يوجع قلبى الذى ما عاد يحتمل المزيد، فكل الذين عبروا فى حياتى لم يمروا هكذا بهدوء وسلام.
كانوا يملأون أرصفتى بالصخب والفرح، بكل أنواع الزهر والعطر حتى اعتادهم ثم يغيبون تاركين خلفهم مقاعد فارغة، تظل مخلصة لهم، وإن غابوا ألف عام.
وتفصح «يافا» عما أحدثته رسائل الفتاة فى حياتها من تغيير، فهذه الصغيرة برسائلها العفوية وحكاياتها الجميلة أعادت بعض النور إلى حياتها، وتصف وقع أول رسالة منها عليها فتقول: (دهشتى بها كانت أكبر من كل شيء، فبعد أن ظننت أننى صرت نسيا منسيا جاءت هذه الفتاة لتذكرنى أننى لست شبحاً، أن هناك من يهتم لأمرى، وأن خارج جدران هذا البيت مازال هناك حياة.
لغة الحب
وتمضى «يافا» فى الكشف عن ذاتها فتبوح بقصة حبها لحسن القطان الصحفى والأديب الذى أرسل الموساد الإسرائيلى بعناصر مسلحة ترتدى ملابس مدنية لاغتياله فى وضح النهار أمام منزله، لقد كان قريبها ورفيق طفولتها ومعلمها، كان يكبرها بست سنوات، شهد مولدها، وحملها على كفيه، علما لغة لحب فلسطين، لغة تبقى وتدوم فى القلب أبد الدهر فتقول عنه:
حسن معلمى فى كل شىء، علمنى لغة الورد حين كان يقطف لى كل صباح وردة من حديقة المنزل، وعلمنى لغة الموسيقى حين كان يأخذنى برفقته إلى المعهد الموسيقى، حدثنى عن فلسطين، والبحر والسماء، وعلمنى أسماء العصافير، وكل شيء عنها، نوعية طعامها، شكل جسمها، أسماء ريشها الناعم، عن القرى الفلسطينية المهجرة، عن الحرب، عن الأبطال والشعراء والفلاسفة.
أما والده فقد كان يجمع الأسرة، وأقاربه، ويعزف لهم بعض الأغنيات الشعبية، ويحدثهم عن «حيفا» و«يافا» و«عكا»، وكل المدن التى استولى عليها الصهاينة أثناء النكبة، وعن معاناتهم حين طرودا من منازلهم، وتشردوا فى كل مكان، وعن حياة المخيم القاسية، ومحاولات العودة إلى الأرض، وعن الذين استشهدوا أثناء محاولاتهم.
عقوبة بسبب مقال
«حسن» الذى كتب أول قصيدة لفلسطين وهو فى السابعة عشرة من عمره، كما نشر أول مقال وطنى وسياسى له فى أحد الصحف المحلية، ثم علمت «يافا» أنه اعتقل بسبب هذا المقال، وافتداه أبوه بعد أسبوع بكفالة دفعها، وصار «حسن» بعد ذلك أكثر تصميمًا وإصرارًا على المضى فى الطريق الذى اختاره، أكمل «حسن» دراسته الجامعية فى بيروت ليشهد فصلا آخر من عذاباته وآلامه بسبب اندلاع الحرب الأهلية فى لبنان فتقول «يافا»:
عاد متعباً كمن يحمل العالم على كاهله، شاب فى الثانية والعشرين من العمر، تتكئ على ظهره بشاعة الحرب الأهلية، ورائحة الموت، وتطل من عينيه فوهات البنادق، والمدافع، والرصاص وتسمع فى بحة صوته أزيز الطائرات التى قصفت مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية.
كأنه عاد من الغربة جسدا من دون روح، كنت أخشى أن أغرق معه فى دوامات أسئلة أعرف أنه لن يجيب عليها، وأننى سأخشى طرحها فى ذلك الوقت على فلسطين، والوطن العربى، وحسن.
تعلم «حسن» فى بيروت فنون القتال، وحمل البندقية، وكان يشتبك ورفاقه مع قوات الاحتلال وتصف (يافا) كيف كانت صورة «حسن» ترعب جنود الاحتلال حتى بعد استشهاده، فلقد فتشتها إحدى المجندات الإسرائيليات، وعندما وجدت صورته فى حقيبتها سألتها عن صاحبها بغضب، مازالوا يذكرون «حسن» ويخشونه بالرغم من كل ما مضى من زمن على غيابه، وتصف «يافا» كيف كان الجنود الصهاينة يخشونهم وهم يقفون عند الحاجز، وكان الشبان والشابات الفلسطينيون يتغنون بأغنيتهم التى تزلزل المكان، وتخيف الصهاينة فتقول:



موطنى.. موطنى
مازلت أذكر وجوه كل من كانوا فى الحافلة، كأننى رأيتهم أمس، مازلت أذكر نظرة الخوف فى عين الجنود، حين فتح السائق جميع نوافذ الحافلة، وصار يردد بأعلى صوته أغنية «موطنى» والأصوات المترددة التى صارت بعد دقائق قوية، تردد معه الأغنية بكل ما ملكت من إرادة:
موطنى.. موطني/ الجلال والجمال/ والسناء والبهاء/ فى رباك فى رباك/ والحياة والنجاة/ والهناء والرجاء/ فى هواك/ فى هواك/ هل أراك / هل أراك/ سالما منعما/ وغانما مكرما/ هل أراك فى علاك / تبلغ السما/ موطنى.. موطنى.
يصرخ الجندى بنا لنصمت، فيزداد صوتنا علوا مثل راية منتصرة وحرة، يتصبب العرق من جبينه، يطلق رصاصة فى الهواء، فيحلق صوتنا معها ليسبقها، يزداد وجهه ا حمرارا، فتزداد وجوهنا تألقا وفخرا.
نبوءة تتحقق
وتمضى «يافا» لترصد هى الأخرى حكايات الأسرى فى سجون الاحتلال، فيحتوى النص على حكايتها، وحكايات الآخرين مما يجعل الذات تنفتح على تجارب أخرى، ربما تكون أكثر قسوة، لكنها لا تلبث أن تشرق بأنوار الحرية فتقول:
بعد أن اجتزنا الحاجز، راح أحد الشبان يحدثنا عن الأسرى فى السجون، عن الأمل بالحرية، بالرغم من الأحكام القاسية، والأوضاع الصعبة التى يرزحون تحت حملها الثقيل عن أسير رافقه فى سجنه، حكمت عليه المحاكم الإسرائيلية ب 62 عاما، و52 عاما مؤبدا لقتله أحد الجنود، وكان يردد على مسامع الشاب المحكوم عليه بأربعة أشهر أنه سيخرج من السجن قبله، وكنت أعجب من أمله بالخروج بالرغم من الحكم الطويل الذى حكم به عليه، ومع هذا كأن النبوءة حصلت، فخرج من السجن قبلى فى صفقة لتبادل الأسرى، كانت سعادتى بتحقق أمله، وخروجه أكبر من سعادتى يوم حريتى.
وجع لا يبكى ولايكتب
ومنذ بدء الانتفاضة كان «حسن» قد تحول من كاتب إلى ثائر يدعو الأهالى فى المدن القريبة للتظاهر ضد الجيش الإسرائيلى، وصار «حسن» ورفاقه يخططون لخطف جنوب الصهاينة لمبادلتهم بالأسرى الفلسطينيين القابعين فى سجون الاحتلال.
وتتذكر «يافا» كلمات «حسن» الرائعة والتى كانت تصطفيها بالحب والحنين فتقول لها:
أنا لك حين يزهر الياسمين فى حديقة منزلنا، وحين يفوح عبير زهر اللوز على جبال المدينة، وحين ينشد الأطفال نشيدنا الوطنى فى طابور الصباح، أنا لك فى كل حرف كتبته، وكل رصاصة دافعت بها عن وطنى، وكل أغنية فلسطينية سمعناها من أمى فى أعراس الجيران والأصدقاء، وأنا لك حين تلامس جباه المصلين تراب المسجد الأقصى فى صلاة طاهرة.
لكن «يافا» عندما تتذكر السيارة القاتلة التى مرت أمامها وأطلقت الرصاص بكثافة على سيارة «حسن» ثم فرت هاربة قد سببت لها وجعا لا يبكى، ولايكتب.
وترثى «يافا» حبيبها وخطيبها «حسن» فتقول:
القبر مظلم وبعيد عن «حيفا» لم يعد «حسن» إلى بيارات جده، لم يدفن بجانب البحر كما اشتهى ليسمع خطوات العشاق على الرمل، لم يعلمنى فن صيد السمك، لم نذهب إلى «بيسان»، ولم نصعد جبال «الكرمل» و«الجليل» فلماذا تأخذونه بعيدًا؟!
بحثا عن زهرة لوز
ثم يشرق النص بعد غيم، ويصفو بعد أحزان، وتنتفض (يافا) لنفسها ثائرة على حزنها، وعزلتها فتقول فى مونولوج داخلى: (ليست هذه الخائفة التى تقف جنب الباب هى «يافا» التى أحبتها «حسن» ليست الكاتبة الجريئة، ولا الطفلة الذكية».
وتبدأ فى الخروج من عزلتها، وتفتح أبواب قلبها للفتاة العشرينية، وتستقبلها فى بيتها، وتقنعها الفتاة بكتابة مذكراتها لتضمها لرواية تشتركان معا فى كتاباتها فتسرد كل منهما حكايتها فيها ويضمهما كتاب واحد، تحتاران فى اسم الرواية لكن الفتاة تطلق عليها اسم: «يافا - حكاية غياب ومطر» فهو اسم البرنامج الذى ستقدمه الفتاة فى القناة التليفزيونية التى تعمل بها وستكون أول حلقة مع «يافا» الكاتبة التى اعتزلت الكتابة خمسة وعشرين عاما، وعادت لتقص على المشاهدين تفاصيل عزلتها، وتتحدث عن روايتهما الجديدة. وتصف الفتاة ما طرأ على حياة «يافا» من تغيير فتقول: (أتوجه إلى العمل هذا الصباح، وفى قلبى الكثير من الأمنيات التى زرعتها «يافا» فى روحى، ونحن نشرب القهوة فى حديقة منزلها، وجهها بشوش كوردة غارقة فى الندى، تفتحت قبل ثوان، تبدو أصغر من عمرها بكثير، تجلس على الكرسى المقابل، وتحدق فى وجهى بحثا عن زهرة لوز أضاءت وسط الغياب.
فى البلدة القديمة
لقد تغيرت حياة الفتاة وحياة «يافا» فلقد علمها «حسن» حكمته عندما قال لها:
أثمل فرحا، وأنت تحملين راية كل القضايا التى آمنا بها، عليك أن تجتازى خوفك عليّ لأننى لا أملك نفسى لأعدك بأن أحفظها، أنا ملك لفلسطين، وأنت كذلك، وكل من على هذه الأرض ملك لها، وستأخذنا جميعا إلى أحضانها حين تشتاق لنا.
لقد تذكرت كلماته فبعثت فى نفسها الحماس، وساعدتها الفتاة فى الخروج من عزلتها فخرجتا إلى شوارع المدينة، والبلدة القديمة قرأت بيت عائلتها العتيق، وبيت عائلة «حسن» ومدرستها الثانوية والابتدائية، ومقر الصحيفة التى كانت تكتب لها، بعثت من جديد، واندفعت تدفع الفتاة دفعا نحو الحياة، بروايتهما معا، بذكرياتهما معا، وانطلق صوت «يافا»، صوت الحياة ونبضها، لتصنع حكمتها، وتنشد أنشودتها:
لن أدع أحدا بعد الآن يخون عهده مع الحياة، هذا ما صرخت به بأعلى صوتى حين انتهت المقطوعة الموسيقية التى كنت استمع إليها أنا وهذه الشابة الجميلة التى أعادت إليّ الحياة بعد ربع قرن من الموت المؤجل، هذا ما قررت أن أفعله بعد أن قصصت عليها حكايتى كاملة.
لتضمها هذه الرواية التى بين أيدينا «يافا - حكاية غياب ومطر»، ولتتوجها الساردة بعودة حبيبها من البلد البعيد ليحضر حفل توقيع الرواية وليصبح الحب أيقونة هذه الرواية وأنشودتها، فالغائب إلى عودة، أو كما تقول «نبال قندسى» فى مقدمة روايتها «عد حبيبى قبل المطر وزهر اللوز»..
لتحكى عن الفتاة التى «جاءت إلى قلب حبيبها على غيمة، وتركت خلفها الكثير من المطر».
ولتكون روايتها بحق عهدا مع الحياة، عهد حب، وانتماء، ودفاعاً عن كل ما هو جميل وأصيل، ونبيل فيها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.