سمير فرج: طالب الأكاديمية العسكرية يدرس محاكاة كاملة للحرب    رموز «الحوار الوطني» يتحدثون عن المبادرة الأهم بتاريخ مصر الحديث    تباين أداء مؤشرات البورصات الخليجية خلال تداولات الأسبوع    محافظ الإسكندرية: معرض ثابت كل أسبوعين لدعم الأسر المنتجة    وزير خارجية إسرائيل: سنؤجل عملية رفح الفلسطينية إذا توصلنا لاتفاق بشأن المحتجزين    شيفيلد يونايتد يودع البريميرليج بعد الخسارة أمام نيوكاسل بخماسية    أمن الجيزة يضبط تشكيل عصابي لسرقة السيارات بالطالبية    ياسمين عبد العزيز تكشف ظهورها ببرنامج «صاحبة السعادة» | صور    أبو حطب يتابع الأعمال الإنشائية بموقع مستشفى الشهداء الجديد    لمكافحة الفساد.. ختام فعاليات ورش عمل سفراء ضد الفساد بجنوب سيناء    «صلبان وقلوب وتيجان» الأقصر تتزين بزعف النخيل احتفالاً بأحد الشعانين    خبير: التصريحات الأمريكية متناقضة وضبابية منذ السابع من أكتوبر    خبير ل الحياة اليوم: موقف مصر اليوم من القضية الفلسطينية أقوى من أى دولة    توقعات عبير فؤاد لمباراة الزمالك ودريمز.. مفاجأة ل«زيزو» وتحذير ل«فتوح»    رمضان عبد المعز: على المسلم الانشغال بأمر الآخرة وليس بالدنيا فقط    وكيل صحة الشرقية يتابع عمل اللجان بمستشفى صدر الزقازيق لاعتمادها بالتأمين الصحي    الرضيعة الضحية .. تفاصيل جديدة في جريمة مدينة نصر    استهداف إسرائيلي لمحيط مستشفى ميس الجبل بجنوب لبنان    المصريون يسيطرون على جوائز بطولة الجونة الدولية للاسكواش البلاتينية للرجال والسيدات 2024 PSA    حكم الاحتفال بعيد شم النسيم.. الدكتور أحمد كريمة يوضح (فيديو)    بالفيديو .. بسبب حلقة العرافة.. انهيار ميار البيبلاوي بسبب داعية إسلامي شهير اتهمها بالزنا "تفاصيل"    سؤال برلماني عن أسباب عدم إنهاء الحكومة خطة تخفيف الأحمال    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    بعد جريمة طفل شبرا الخيمة.. خبير بأمن معلومات يحذر من ال"دارك ويب"    كيفية التعامل مع الضغوط الحياتية.. لقاء تثقيفي في ملتقى أهل مصر بمطروح    رامي جمال يتخطى 600 ألف مشاهد ويتصدر المركز الثاني في قائمة تريند "يوتيوب" بأغنية "بيكلموني"    رئيس الوزراء الفرنسي: أقلية نشطة وراء حصار معهد العلوم السياسية في باريس    أحمد حسام ميدو يكشف أسماء الداعمين للزمالك لحل أزمة إيقاف القيد    مصر ترفع رصيدها إلى 6 ميداليات بالبطولة الإفريقية للجودو بنهاية اليوم الثالث    إنجازات الصحة| 402 مشروع قومي بالصعيد.. و8 مشروعات بشمال سيناء    بيريرا ينفي رفع قضية ضد محمود عاشور في المحكمة الرياضية    الإمارات تستقبل دفعة جديدة من الأطفال الفلسطينيين الجرحى ومرضى السرطان.. صور    بالتعاون مع فرقة مشروع ميم.. جسور يعرض مسرحية ارتجالية بعنوان "نُص نَص"    فوز أحمد فاضل بمقعد نقيب أطباء الأسنان بكفر الشيخ    «صباح الخير يا مصر» يعرض تقريرا عن مشروعات الإسكان في سيناء.. فيديو    "بيت الزكاة والصدقات" يستقبل تبرعات أردنية ب 12 شاحنة عملاقة ل "أغيثوا غزة"    رئيس جامعة جنوب الوادي: لا خسائر بالجامعة جراء سوء الأحوال الجوية    الشرطة الأمريكية تفض اعتصام للطلاب وتعتقل أكثر من 100 بجامعة «نورث إيسترن»    الكشف على 1670 حالة ضمن قافلة طبية لجامعة الزقازيق بقرية نبتيت    النقض: إعدام شخصين والمؤبد ل4 آخرين بقضية «اللجان النوعية في المنوفية»    «تملي معاك» أفضل أغنية عربية في القرن ال21 بعد 24 عامًا من طرحها (تفاصيل)    مصر تواصل أعمال الجسر الجوي لإسقاط المساعدات بشمال غزة    الصين: مبيعات الأسلحة من بعض الدول لتايوان تتناقض مع دعواتها للسلام والاستقرار    قائمة باريس سان جيرمان لمباراة لوهافر بالدوري الفرنسي    أهمية وفضل حسن الخلق في الإسلام: تعاليم وأنواع    علي الطيب يكشف تفاصيل دوره في مسلسل «مليحة»| فيديو    قطاع الأمن الاقتصادي يواصل حملات ضبط المخالفات والظواهر السلبية المؤثرة على مرافق مترو الأنفاق والسكة الحديد    وزير التعليم ومحافظ الغربية يفتتحان معرضًا لمنتجات طلاب المدارس الفنية    الدلتا للسكر تناشد المزارعين بعدم حصاد البنجر دون إخطارها    «السياحة»: زيادة رحلات الطيران الوافدة ومد برنامج التحفيز حتى 29 أكتوبر    «شريف ضد رونالدو».. موعد مباراة الخليج والنصر في الدوري السعودي والقنوات الناقلة    إزالة 5 محلات ورفع إشغالات ب 3 مدن في أسوان    استمرار حبس عاطلين وسيدة لحيازتهم 6 كيلو من مخدر البودر في بولاق الدكرور    حصيلة تجارة أثار وعُملة.. إحباط محاولة غسل 35 مليون جنيه    تعليم الإسكندرية تستقبل وفد المنظمة الأوروبية للتدريب    أفضل دعاء تبدأ وتختم به يومك.. واظب عليه    خبير أوبئة: مصر خالية من «شلل الأطفال» ببرامج تطعيمات مستمرة    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مكتوب على شجر الزيتون
نشر في صباح الخير يوم 10 - 01 - 2024

«الوقائع الغريبة فى اختفاء سعيد أبى النحس المتشائل»، هى إحدى الروايات المهمة للكاتب الفلسطينى إميل حبيبى (1921 - 1996) بل هى فى داخلها رواية روايات إذ تتضمن العديد من الوقائع الغريبة التى تفوق الخيال، والتى تستمد أهميتها من أحداث حقيقية، وحقائق تاريخية استلهمها الكاتب ليخط وثيقة أدبية تدين الاحتلال الإسرائيلى، وتصف معاناة سكان الداخل الذين يعيشون أنواعاً من الظلم والبطش والعنصرية.

صدرت هذه الرواية عن سلسلة روايات الهلال عن مؤسسة دار الهلال بالقاهرة، ومنذ صدورها وحتى الآن تظل وثيقة أدبية وتاريخية فريدة بما توافر لها من عناصر فنية اعتمدت على تراث فن القصص العربى، مستلهمة حكايات ألف ليلة وليلة، وحيث بدت حكايات الواقع أكثر غرابة، كتبها إميل حبيبى بأسلوب ساخر يستلهم واقعاً أكثر إيلاماً مما يمكن تصوره فى عالم الخيال.



حيفا عربية
تبدأ الرواية بمشهد لسعيد أبى النحس وهو يرفع ملاءة فراشه على عصا كراية بيضاء يعلقها على سطح بيته لأنه سمع بيانا فى الراديو يدعو فيه المحتل الأهالى للاستسلام بعد حرب الأيام الستة عام 1967، لكن هذا التصرف يراه الرجل الكبير حاكم المدينة إفراطاً يدل على عدم ولاء «سعيد» فقد عشق المناضلة «يعاد»، وتزوج «باقية» الثائرة ضد الاحتلال، وأنجب «ولاء» الذى سيحمل السلاح ضد المحتل الإسرائيلى، وشرح له صديقه «يعقوب» سر غضب حاكم المدينة ولماذا اعتبر «سعيد» خارجا عن القانون فقال له: (ترفع العلم الأبيض على بيت لك فى «حيفا»، وهى جزء من إسرائيل؟!، تريد أن تقول إن «حيفا» مدينة عربية، هزمت فى الحرب، وأبدت رغبتها فى الاستسلام، ونداء الاستسلام موجه إلى عرب الضفة وليس إلى عرب إسرائيل).
وتمضى الرواية فى الكشف عن معاناة «سعيد أبى النحس المتشاءل»، الذى ورث «التشاؤل» عن عائلته أبا عن جد فهم يقفون فى ثبات فى وجه المصائب، ويتعاملون مع الكوارث تعامل من اعتاد الألم ومحاربته والحزن، وفى الوقت نفسه القدرة على مغالبته، وفتح باب الأمل واسعاً لينفذ منه ضوء القوة والإصرار، فيقول «سعيد»:



خذنى أنا مثلا، فإننى لا أميز التشاؤم عن التفاؤل فأسأل نفسى من أنا؟ أمتشائم أنا أم متفائل، أقوم فى الصباح فى نومى فأحمده على أنه لم يقبضنى فى المنام فإذا أصابنى مكروه فى يومى أحمده على أن الأكره منه لم يقع، فأيهما أنا المتشائم أم المتفائل؟
حتى أمه لما وصلها خبر عودة جثة ابنها البكر مقطعة إربا، لا رأس ولا أحشاء حيث ألقاه الونش على الصخور بسبب عاصفة فكانت الأم تبكى صامتة وتقول لعروسه: «مليح أن صار هكذا وما صار غير شكل»، فسبتها العروس قائلة:
«يا عجوز النحس.. أى غير شكل؟
وهنا يتدخل «سعيد» فيقول: «والنحس هذا اسم والدى رحمه الله.
وتبرز رسائل «سعيد أبى النحس» وقدرته على السخرية مما يمر به من معاناة ومكابدات حيث يفضى به عجزه، وقلة حيلته إلى تصور حل خيالى يريحه من معاناته كمواطن فى بلد تحت الاحتلال، وهذا الحل ينحصر فى وجود كائن فضائى سيساعده فى محنته، ويؤازره بعد أن عزّ المدد، وتوالت فترات الاحتلال القديمة والمعاصرة، ويجسد الحوار بين «سعيد» والرجل الكبير (حاكم المدينة المحتل)، هذا البعد للاحتلال الاستيطانى فيقول الرجل الكبير لسعيد: (لقد انتصرنتم على المغول فى واقعة «عين جالوت» لأنهم جاءوا لينهبوا وليذهبوا، أما نحن فإذا نهبنا فننهب لنبقى، وأما أنتم فالذين هم يذهبون، اصرف عنك هذه الوساوس التاريخية).
خرائط القلب
يمارس الرجل الكبير سياسته فى إضعاف مقاومة «سعيد»، يمارس عليه حربه النفسية، فيسلبه انتصارات العرب، وتاريخ بلاده، بل لقد تحولت منطقة «عين جالوت» إلى «عين جارود»، لم يبق شيء على حاله فى البلاد، وهو ما يدركه سعيد، ويشعره بضرورة التمسك بهذا التاريخ حتى وإن بقى نقشا على جدار، أو حديثا سريا مع أخيه الفضائى فيستدعى معه تاريخ عكا، وما قاله «ابن جبير» الرحالة عنها، ويحتفظ بداخله بخريطة للقرى الدارسة التى احتلها الصهاينة بعد أن تعرف على أهلها فى المسجد، لقد استمع إلى أصوات عديدة: «نحن من «الرويس»، ونحن من (الحدثة)، ونحن من «الدامون»، ونحن من (المزرعة)، ونحن من «شعب»، أما نحن فمن «ميعار» ونحن من «وعرة السريس»، ونحن من (الحزيب)، ونحن من «البصة»، ونحن من (الكابرى)، أما نحن فمن (أكرت).
وهنا يستدعى السرد قصيدة لتوفيق زياد، وهو يقول: (سأحفر رقم كل قسيمة/ من أرضنا سلبت/ وموقع قريتى، وحدودها/ وبيوت أهليها التى نسفت/ وأشجارى التى اقتلعت/ وكل زهيرة برية سحقت/ لكى أذكر/ سأبقى دائما أحفر/ جميع فصول مأساتي/ وفى كل مراحل النكبة/ من الحبة إلى القبة/ على زيتونة / فى ساحة الدار).



حبيبة العمر
يمر «سعيد» بقصة حب، فقد كتبت «يعاد» اسمه على حجر جيرى فأحبها، كانت تركب القطار لتصل إلى مدرستها وفيه عرفها، لكنها جاءت ذات ليلة متسللة من «الناصرة» إلى «حيفا» دون إذن السلطة الإسرائيلية ثم جاء عسكرهم إلى بيت «سعيد»، وقد اختبأت عنده فأبرز لهم بطاقته التى تدل على نسبه إلى اتحاد عمال «فلسطين» ووقف حاميا الغرفة التى اختبأت فيها فأصروا على فتحها فآثر أن يستشهد فداءً لها لكنهم انقضوا عليه، وجرجروه إلى الخارج وتقاذفته الأيدى، لكنها ركلتهم بقدميها وعضت كتف أحدهم ثم هبطت على قدمها ورأسها فى السماء، قال أحدهم: متسللة فصرخت: (هذا بلدى، وهذه دارى، وهذا زوجى، فتكاثروا عليها ودفعوها أمامهم، إلى سيارة كانت قد امتلأت بالخلق من أمثالها وذهبوا ويقول سعيد: سمعتها والسيارة تتحرك تنادى بأعلى صوتها سعيد، يا سعيد لا يهمك فإننى عائدة).
لقد اختارته «يعاد» زوجا لها، فصارت حبيبة العمر، وحتى لو غابت دهرا فهى فى قلبه، وحتى لو تزوج «باقية» فستظل «يعاد» إلى عودة، هكذا قال «سعيد لنفسه»، وهو فى محاولة دائبة لاستعادتها، يضطر إلى الاستسلام لمحاولات (يعقوب) فى جذبه للعمل مع المحتل حتى يساعدوه فى العثور على «يعاد»!
تمزق ورغبة فى التحرر
ويفسر د.على الراعى فى مقدمته لهذه الرواية لماذا جعل إميل حبيبى الشخصية الرئيسية فى هذه الرواية «سعيد» رجلا رضى بأن يعمل مع الصهاينة فيقول على الراعى: (لاتلبث أن تتبين أنه إنما أراد تصوير تمزق بعض عرب الداخل بين ضرورة الخضوع لأمر واقع، ورغبة لا تهدأ فى التحرر من هذا الواقع، كذلك اتخذ الكاتب من بطله أداة للسخرية من المتعاونين والمتخاذلين، ومن بعض العملاء الملتحفين بالرفض النارى القاطع لدولة إسرائيل إخفاء لتعاونهم الفعال معها، مثل شخصية «الباذنجانى» المحامى فى الرواية، كما عبر إميل حبيبى بالتعبير الفنى البليغ عن عبث محاولة العمل مع الحكم الإسرائيلى، وانتهاء هذه المحاولة إلى طريق مسدود يحوطه العجز من كل مكان).



فى سجن «شطة»!
وبالفعل تتطور أحداث الرواية ليصبح «سعيد» نفسه سجينا فى سجن «شطة» على يد المحتل، ويدور بينه وبين الرجل الكبير حوار حول المطلوب منه فى السجن بعد أن علق ملاءة فراشه فى عصا، علما أبيض على سطوح بيته وكأنه يعلن انفصال «حيفا»، ويكشف «سعيد» ساخرًا عن حقيقة مؤداها أنه لا فرق بين ما هو مطلوب منه فى السجن، وما هو مطلوب منه خارجه، وها هو الرجل الكبير يقول له: (خذلك مثلا عقاب الإبعاد إلى ما وراء النهر، فنحن ننزله بالمسجونين وهم خارج السجن، فإذا دخلوا السجن ثبتوا فيه ثبوت الاحتلال الإنجليزى!
قلت: ما شاء الله
قال: ونهدم بيوتهم خارج السجن
أما فى داخلها فيعمرون وينشئون
قلت: ما شاء الله ولكن ماذا يعمرون؟!

قال: سجونا جديدة وزنازين جديدة، فى السجون القديمة، ويزرعون من حولها الأشجار الظليلة). لقد استطاع إميل حبيبى أن يجعل شخصية «سعيد» شخصية كاشفة عن حقيقة المحتل، وحبائله وحيله، يكشفها «سعيد» بأسلوب ساخر، ينم عن ثورة داخلية عميقة ضد المحتل، وإدراك لسطوته وعنفه الذى يشعر به «سعيد» فى كل دقيقة من يومه، وقد تحايل «سعيد» على هذا البطش بطرق مختلفة فهو يحاول استعادة حبيبته «يعاد»، وخدعه «يعقوب» صديقه فقال له إنه سيتدبر الأمر مع أولى الأمر حتى يعيدوها إليه قائلا:
بشرط واحد يا سعيد، وهو أن تكون ولدا طيبا.
- حاضر
- وأن تخدمنا بأمانة
- حاضر



وكل ذلك حرصا على مستقبل «يعاد» المسكينة التى وعد أن يعيدها إليّ، وقال: بالطبع سيطول الأمر بعض الوقت، لكنه طال طول الوقت، وفى كل انتخابات جرت فى هذه البلاد، كان يقنعنى بأنه حال الانتهاء من فرز الأصوات سيأخذنى إلى بوابة «مندلباوم» لاستقبال «يعاد».
وهو الأمر الذى لم يحدث أبداً، فلقد توفيت «يعاد»، بعد أن تزوجت وأنجبت ولدا أسمته «سعيد» وبنتا أسمتها «يعاد».
وكان إميل حبيبى قد قسم روايته إلى ثلاثة كتب الأول بعنوان «يعاد»، والثانى بعنوان «باقية»، والكتاب الثالث بعنوان: «يعاد الثانية» وقد ضمت روايته الكتب الثلاثة جميعا تحت عنوان: «الوقائع الغريبة لاختفاء سعيد أبى النحس المتشائل»، وفى الكتاب الثانى من هذه الرواية يصف الكاتب وقائع بالفعل غريبة تفوق غرابتها الخيال، فهى حقيقة تعبر عن بطش المحتل، وتجاوزه لكل المبادئ الإنسانية ومنها:
عقوبة الذين رأوا البحر
فيصف على لسان «سعيد» قصة حقيقية حدثت فى آيار عام 1952 فيقول:
تمت محاكمة أولاد بحكم الغرامة بسبب أنهم سمعوا هدير موج البحر فأرادوا أن يروه رأى العين، أولاد من قرية «الطيبة»، عمرهم ما بين تسع سنين واثنتى عشرة سنة، مضوا قدما إلى مدينة «نتانيا» ليروا البحر بالعيون، فألقى القبض عليهم، وفرض حاكم المحكمة العسكرية على الأطفال عقوبة الغرامة، فمن عجز عنها فبما يملكه حتى الطفل، وجزاؤه أن يقضى شهرا فى السجن، ولما عجز أحد الأولاد عن دفع الغرامة افتداه والده بحياته شهرا فى السجن، وأبى الحاكم العسكرى إلا أن تفتديه أيضا والدة الطفل بشهر عاشر من حياتها بعد انقضاء شهور الحمل التسعة.



أخذ الذهب وذهب!
ويرصد «سعيد» أيضا قصة السيدة «ثريا عبدالقادر مقبول» التى نشرت قصتها عام 1971 فى صحيفة «الاتحاد» عن «معاريب»، عن «هآرتش»: أنها أى «ثريا» عندما غادرت إلى «الأردن» بعد حرب 1948، قالت فى نفسها: يوما ستعود إلى دارها فى مدينة «اللد» وعندما ذهبت بعد عشرين عاما، طردتها ورثيتها الشرعية فاستعانت بالشرطة الإسرائيلية لتخرج لها ميراثها، ومصوغاتها من الذهب التى دفنتها تحت جدار فى بيتها قبل الرحيل، وكتبت الصحف وقتها عن شرطة إسرائيل التى تبحث عن كنوز الأمهات الثكالى العربيات!، وجاء «رجل القيم» على أراضى إسرائيل فأعطاها شهادة بالذهب، وأخذ الذهب، وذهب!، أما «ثريا» فقد أخذت الشهادة، وذهبت عبر الجسور المفتوحة لتسف الثرى فى مخيم «الوحدات»، ولتدعو بطول البقاء لذوى القربى، ولأولاد عمهم.
متاع بيت عربى
أما حكايات «سعيد» وزوجته «باقية» فهى أيضا من عجائب أحكام الاحتلال الإسرائيلى، فعندما أراد «سعيد» أن يغير بيته من وادى النسناس فى «حيفا» إلى شارع الجبل، وحمل أمتعته راجلا إذ لم يجد ما يقله إلى مكانه الجديد، اعترضته سيارة فجأة، ونزل منها «تأبط شرا» - اسما اخترعه لأحد جنود الاحتلال، الذى استل من تحت إبطه قلما وورقة، يريد شهادة تثبت أن المتاع متاع «سعيد» ولم يسرقه!، فأسقط فى يدى «سعيد» وسأله: متى حفظ الناس شهادات تثبت أن متاع بيتهم هو متاع بيتهم، ولم يسرقوه؟
فقال: هذا متاع بيت عربى؟
فأجاب «سعيد»: نعم
فقال «تأبط شرا»: فقد أصبح ملك الدولة.
فقال «سعيد»: كلنا ملكها!
ثم استدعى «يعقوب» فأقنعه بأننى أنا أيضا ملك الدولة، وحينئذ استطاع أن يحمل متاعه إلى البيت الجديد، غير مقتنع بأن الحارس قد كف شره عنه.
سر السمكة الذهبية
أما السر الذى استودعته «باقية» فى قلب «سعيد» فى ليلة زفافهما، فهى قصة الكنز أو الصندوق الذى دفنه أبوها فى خرائب بلدتها «الطنطورة» ويحتوى الصندوق المغلق بالأقفال على مصاغها الذهبى، ومصاغ أمها وجدتها، وسلاح عبارة عن رشاشين، فاحتفظ «سعيد» فى السر بقلبه، وقد استحلفته أن يمضى معها للحصول على الكنز، بالقرب من البحر حيث دفنه أبوها هناك فى «الطنطورة»، أو يذهب وحده لاستخراجه وقد عرف مكانه، فوعدها «سعيد» خيرا، وصار يذهب مع طفله «ولاء» للسباحة على حذر فى هذا البحر، بالقرب من الكنز، وهنا يدور حوار بين «سعيد» وطفله سيغير مصير الأسرة بكاملها، فالطفل يسأل أباه: عما تبحث يا أبى؟
فيجيبه عن السمكة الذهبية، ويحكى له ما علق فى ذهنه من حكايات ألف ليلة وليلة لكن الطفل يعود ليسأله:
(لماذا يا أبى تخاف من أن يراك الناس، وأنت تبحث عن السمكة الذهبية؟
حتى لا يسبقونى إليها
فإذا وجدتها يا أبى، وعلمت الحكومة بالأمر، هل ستأخذها منا كما أخذت «الطنطورة» من جدتى وجدى؟ وهنا نلمس وعى الطفل، وعمق إدراكه لما سرق من أهله، ووطنه من أرض، ويسأله سعيد: من أدخل هذه الأفكار فى رأسك يا ولد؟
فقال: ماما).
وهنا نتأمل كيف أصبحت المرأة هى الحافظ الأمين والناقل لتراث الوطن فهى بحكاياتها الشفاهية لطفلها قادرة على تكوين وعيه الوطنى، وحسه الصادق بمحبة بلاده، وإدراك حقيقة ما يحدث حوله، فينفذ إلى عمق ما يجرى، وهو ما غير حياة الطفل عندما كبر، وأصبح بالفعل يحمل نصيبا من رسمه، فهو «ولاء» الذى استطاع تكوين خلية سرية وقد عرف سر الكنز الذى أخفاه جده لأمه، فاستخرج الذهب، واشترى أسلحة ليقاوم الغاصب المحتل، كى أتنفس بحرية
قام المحتل بالقبض على زملائه أما هو فقد بقى متشبثا بكهفه مكان مقاومته وبطولته ، فما كان من الرجل الكبير حاكم المدنية، و«يعقوب» أن هرعا إلى أبيه «سعيد» متكتمين أمر بذور شرارة المقاومة، وقرب اندلاعها على يد «ولاء» فيأمرونه باصطحاب زوجته باقية لإقناع «ولاء» بالاستسلام وإلقاء سلاحه، وهنا يكون حوار أبلغ من كل كلام وقد استوى «ولاء» على فرعه، شابا مقاوما، وفدائيا مدافعا عن الأرض والعرض، فتقول له أمه «باقية» تحت ضغط المحتل وترهيبه:
لا جدوى من المقاومة فقد كشفوا أمرك
كيف؟
هم أرشدونى إلى مخبأك
لست بمختبئ يا أماه، إنما حملت السلاح لأننى مللت اختباءكم
«ولاء» يا ولدى ألق سلاحك واخرج
يا امرأة يا التى جئت معهم إلى أين أخرج؟
إلى الفضاء الرحب يا بنى، كهفك ضيق مسدود كهفك، وسوف تختنق فيه
أختنق، أتيت إلى هذا الكهف كى أتنفس بحرية، مرة واحدة أن أتنفس بحرية
الكنوز فى تراب أرضه
ويستمر الحوار بين الأم وابنها فتقول له:
(الدنيا بخير يا ولدى، فكم من شعب انتزع حريته، وسيأتى موسمنا
أتظلين تحلمين بالجزر السبع وراء البحيرات السبع؟
إنها جزرنا، وبحارنا، والسندباد كف عن رحلاته، وصار يبحث عن الكنور فى تراب أرضه
فيقول: حياته على أرضه لا تطاق



فتقول: حين تصبح الحياة أرخص من الموت يصبح ما أصعب من بذلها أن نعض عليها بالنواجذ).
ثم يختفيان معا، ولم يعثر لهما على أثر، وقيل إنهما شوهدا يتجهان نحو البحر، الأم وابنها «ولاء»، حتى غاصا فى البحر، فقال الرجل الكبير المعسكر:
سيموتان غرقا، أو سنلقى القبض عليهما، لكن تكتموا الأمر، وبقى مصيرهما سرا غامضا ثم قال:
ويجب أن يظل سرا مصونا من أسرار الدولة!
يتكتم الرجل الكبير هروبهما وإخفاق جنده فى الوصول إليهما فذلك يمثل إهانة لحكمه ولعساكره، ولم ينته الأمر عند ذلك فقد سمع «سعيد» أن من بين كتائب الفدائيين التى تشكلت لمقاومة المحتل كتيبة باسم «الطنطورة» فعرف فيها «سعيد» زوجه وابنه، واستنشق عطرهما فيها، فصار يحتضن الراديو الترانزستور ليتابع أخبارهما وأخبار كتيبتهما، لقد انضما إلى فرق المقاومة، واعتز سعيد بما استطاعا أن يفعلاه دونه، فلقد انهزم أمام واقعه، ومعطيات ماضيه، وإرثه النفسى من أبيه الذى علمه الحذر والحيطة، الحذر الذى أكل حياته فصار هو نفسه حذرا يمشى على قدمين!
رأس الخيش
لقد وقع «سعيد» ضحية الخوف من بطش المحتل، يخشى «رأس الخيش»، وهو رمز للشخصية المتواطئة مع المحتل والذى يرتدى قناعا من خيش لا يكاد يستره، لكنه يجعله غامضا فلا أحد بستطيع التعرف عليه، عيناه تطلان من ثقبين فى جوال الخيش، وفمه يتكلم من فتحة فى الجوال نفسه فيشر بهذا، ويأمر بأن يعتقل ذاك أو يطلق سراح آخر، لقد كان «يعقوب» أيضا أحد هذه الوجوه المتواطئة لكنه لم يكن «رأس الخيش» المخفية بل الواضحة والمعروفة لسعيد فبقى خائفا أسيرا لأوامره وخداعه طول الوقت لكى يجد حبيبته «يعاد» لكن التعاون مع رأس الخيش وأمثاله هو الذى أضاعها، ونأى لها بعيدا عن «سعيد». ثمن التغيير
وتظل كلمات الشيخ «ذو المهابة» ماثلة فى عقل وخيال سعيد إذ يقول له فى جامع الجزار: حين لا يطيقون احتمال واقعكم التعس، ولا تطيقون دفع الثمن اللازم لتغييره لأنكم تعلمون أنه باهظ تلتجئون إلى، إننى أنظر إلى ما يفعله الناس الآخرون، وما يبذلون ولا يسمحون لأحد بأن يحشرهم فى ديماس من هذه الدياميس فأغضب عليكم، ماذا ينقصكم هل بينكم من تنقصه حياة لا يقدمها، أو ينقصه موت حتى يخاف على حياته.
لقد شكلت فلسفة ذى المهابة جوهر التضحيات التى بذلها أبطال الرواية، يعاد المناضلة وولاء وأمه باقية، والفدائيون الذين يبذلون أرواحهم فى مقاومة المحتل الغاصب.
لقد استطاع إميل حبيبى فى هذه الرواية أن يصور بطولة التصدى للحكم العنصرى للمحتل، وأن يقدم رواية متميزة استلهمت التراث العربى من أدب الرسائل، والأدب الساخر، وحكايات ألف ليلة وليلة بل صنع حوارا وعلاقة مع التراث العالمى من «كانيد» لفولتير.
كما ضفر حكايات الخيال والأساطير مثل أسطورة كائنات الفضاء، مع حكايات حقيقية سجلت الصحف والوثائق ليشيد صرحا أدبيا لروايته كرواية من أدب المقاومة بامتياز.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.