«صلبان وقلوب وتيجان» الأقصر تتزين بزعف النخيل احتفالاً بأحد الشعانين    صندوق النقد يتوقع ارتفاع حجم الناتج المحلى لمصر إلى 32 تريليون جنيه 2028    محافظ الجيزة يوجه معدات وفرق النظافة لرفع المخلفات بالبراجيل    وزير خارجية إسرائيل: سنؤجل عملية رفح إذا جرى التوصل لاتفاق بشأن المحتجزين    خبير: التصريحات الأمريكية متناقضة وضبابية منذ السابع من أكتوبر    إدخال 4000 شاحنة مساعدات لغزة من معبر رفح منذ أول أبريل    "لو تحدثت هتشتعل النيران".. مشادة كلامية بين محمد صلاح وكلوب    لمكافحة الفساد.. ختام فعاليات ورش عمل سفراء ضد الفساد بجنوب سيناء    30 أبريل.. أولى جلسات محاكمة المتهم بالشروع في قتل طالب بالنزهة    ياسمين عز تُعلق على شائعة طلاق أحمد السقا وزوجته: هو أنا لو اتكلمت عن الحوامل أبقى حامل؟!    حزب "المصريين" يُكرم هيئة الإسعاف في البحر الأحمر لجهودهم الاستثنائية    خبير ل الحياة اليوم: موقف مصر اليوم من القضية الفلسطينية أقوى من أى دولة    توقعات عبير فؤاد لمباراة الزمالك ودريمز.. مفاجأة ل«زيزو» وتحذير ل«فتوح»    رمضان عبد المعز: على المسلم الانشغال بأمر الآخرة وليس بالدنيا فقط    وكيل صحة الشرقية يتابع عمل اللجان بمستشفى صدر الزقازيق لاعتمادها بالتأمين الصحي    الرضيعة الضحية .. تفاصيل جديدة في جريمة مدينة نصر    استهداف إسرائيلي لمحيط مستشفى ميس الجبل بجنوب لبنان    المصريون يسيطرون على جوائز بطولة الجونة الدولية للاسكواش البلاتينية للرجال والسيدات 2024 PSA    حكم الاحتفال بعيد شم النسيم.. الدكتور أحمد كريمة يوضح (فيديو)    بالفيديو .. بسبب حلقة العرافة.. انهيار ميار البيبلاوي بسبب داعية إسلامي شهير اتهمها بالزنا "تفاصيل"    ناهد السباعي: عالجنا السحر في «محارب» كما جاء في القرآن (فيديو)    سؤال برلماني عن أسباب عدم إنهاء الحكومة خطة تخفيف الأحمال    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    بعد جريمة طفل شبرا الخيمة.. خبير بأمن معلومات يحذر من ال"دارك ويب"    رامي جمال يتخطى 600 ألف مشاهد ويتصدر المركز الثاني في قائمة تريند "يوتيوب" بأغنية "بيكلموني"    رئيس الوزراء الفرنسي: أقلية نشطة وراء حصار معهد العلوم السياسية في باريس    أحمد حسام ميدو يكشف أسماء الداعمين للزمالك لحل أزمة إيقاف القيد    مصر ترفع رصيدها إلى 6 ميداليات بالبطولة الإفريقية للجودو بنهاية اليوم الثالث    إنجازات الصحة| 402 مشروع قومي بالصعيد.. و8 مشروعات بشمال سيناء    بيريرا ينفي رفع قضية ضد محمود عاشور في المحكمة الرياضية    الإمارات تستقبل دفعة جديدة من الأطفال الفلسطينيين الجرحى ومرضى السرطان.. صور    بالتعاون مع فرقة مشروع ميم.. جسور يعرض مسرحية ارتجالية بعنوان "نُص نَص"    فوز أحمد فاضل بمقعد نقيب أطباء الأسنان بكفر الشيخ    «صباح الخير يا مصر» يعرض تقريرا عن مشروعات الإسكان في سيناء.. فيديو    "بيت الزكاة والصدقات" يستقبل تبرعات أردنية ب 12 شاحنة عملاقة ل "أغيثوا غزة"    الشرطة الأمريكية تفض اعتصام للطلاب وتعتقل أكثر من 100 بجامعة «نورث إيسترن»    رئيس جامعة جنوب الوادي: لا خسائر بالجامعة جراء سوء الأحوال الجوية    الكشف على 1670 حالة ضمن قافلة طبية لجامعة الزقازيق بقرية نبتيت    النقض: إعدام شخصين والمؤبد ل4 آخرين بقضية «اللجان النوعية في المنوفية»    «تملي معاك» أفضل أغنية عربية في القرن ال21 بعد 24 عامًا من طرحها (تفاصيل)    مصر تواصل أعمال الجسر الجوي لإسقاط المساعدات بشمال غزة    مدير «تحلية مياه العريش»: المحطة ستنتج 300 ألف متر مكعب يوميا    قائمة باريس سان جيرمان لمباراة لوهافر بالدوري الفرنسي    أهمية وفضل حسن الخلق في الإسلام: تعاليم وأنواع    علي الطيب يكشف تفاصيل دوره في مسلسل «مليحة»| فيديو    قطاع الأمن الاقتصادي يواصل حملات ضبط المخالفات والظواهر السلبية المؤثرة على مرافق مترو الأنفاق والسكة الحديد    وزير التعليم ومحافظ الغربية يفتتحان معرضًا لمنتجات طلاب المدارس الفنية    حصيلة تجارة أثار وعُملة.. إحباط محاولة غسل 35 مليون جنيه    تعليم الإسكندرية تستقبل وفد المنظمة الأوروبية للتدريب    السيسي يتفقد الأكاديمية العسكرية بالعاصمة الإدارية ويجري حوارًا مع الطلبة (صور)    الدلتا للسكر تناشد المزارعين بعدم حصاد البنجر دون إخطارها    «السياحة»: زيادة رحلات الطيران الوافدة ومد برنامج التحفيز حتى 29 أكتوبر    إزالة 5 محلات ورفع إشغالات ب 3 مدن في أسوان    «شريف ضد رونالدو».. موعد مباراة الخليج والنصر في الدوري السعودي والقنوات الناقلة    استمرار حبس عاطلين وسيدة لحيازتهم 6 كيلو من مخدر البودر في بولاق الدكرور    أفضل دعاء تبدأ وتختم به يومك.. واظب عليه    خبير أوبئة: مصر خالية من «شلل الأطفال» ببرامج تطعيمات مستمرة    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تعاقد حب ونُصرة وطن
نشر في صباح الخير يوم 27 - 12 - 2023

إلى بلدته «بيتا» فى فِلَسْطِين يُهدى «وليد الشرفا» روايته «القادم من القيامة» فيقول: «إلى بلدتى «بيتا»، وإلى شهدائها، إلى جبالها، وهضابها وسهولها؛ حيث تقيم تعاقد حب مع أهلها الطيبين فى كل صباح وفى كل موسم، تدافع باقتدار يُشبه كل ذلك عن طهْر أرضها، وصفاء سمائها، وما زالت تدفع الثمَن، وإلى الشهداء الذين لم يمنحوا مَجد الثورة، مع التداخل ببذخ السُّلطة، القيامة أيضًا محاكمة، وقد صدرت الرواية عن الأهلية للنشر والتوزيع بعمان- الأردن.

التمسك بالجذور
وتصوِّر الرواية غربتين؛ غربة المواطن الفِلَسْطِينى فى المَهجر، وفى الداخل الفِلَسْطِينى بعد «أوسلو»، وبعد الانتفاضة- عام 1987، من خلال حوار بين صديقين، يعيش أحدهما فى الخارج، والثانى فى مدينته الفِلَسْطِينية، رافضًا رفضًا أبيًا أن يتركها، يقول لصديقه المُهاجر: (لن أغادر هذا المكان، سأموت فيه، بدون أى كلمات، لقد كنت مُطاردًا من الجنود والآن أحس أننى مطارد من الموت والذكريات)، ثم يُعلق على طلب صديقه المُهاجر الذى يدعوه دومًا للسفر، ومحاولة الحياة فى الخارج بشكل أفضل فيقول: (أكثر من عشر سنوات، وهو يكلمنى، ويختم معى بالطلب نفسه، وأجيبه الإجابة نفسها، يقول: «تعال عندى فى هذه البلاد إن عمرك يحترق، تعال»- ستسمع منّى نفس الإجابة، لا أريد، ما ظل من العمر بقدر ما مضى).
صورة المدينة فى القلوب
عاشا طفولتهما وصباهما معًا، تجمعهما الذكريات، والوفاء، تُلح المَشاهد على خيالهما معًا: أشجار السرو فى مدينتهما، أوراق الزعتر البرىّ الجاف، وأوراق شجرة الليمون، كانا شريكين فى كل شىء لكن بَعد أن هاجر أحدهما اختلفت الأمور فهما يتشاكيان الغربة فى الداخل وفى الخارج.
ويظل المشهد الأساسى هو انتساب الغريبين إلى بعضهما، ينقشان فوق الذاكرة صورة المدينة، يستحضرانها عامرة بالذكريات الحلوة، والطفولة المُبهجة، وتحمل الذكريات عمق المعنى، رباط الصداقة، والانتماء والبحث عن ملامح عالم البطولة فى عالم متغير، يشعر فيه الفرد بالوحشة والاغتراب، فيقول المُهاجر: «(ستذكرنى بالمسرحية أيام كنا فى المدرسة الثانوية التى لعبت فيها دور البطل الذى رفض الخروج من السجن بعد عشرين عامًا؛ ليبقى إلى جانب صديقه المُقعَد، لقد فُتح لى وقتها باب السجن، وفُكت من يدى القيود، لكننى عند العتبة الأخيرة التى تفصلنى عن عالم الأحرار، عدتُ لأحضن صديقى الذى فقد أطرافه، وظل وحيدًا بعدى، لا أدرى ماذا أقول لك لو ذكَّرتنى الآن، حقيقة أعجز عن إجابتك، لكننى هنا الآن لا أفكر بأى شىء سوى الاستغراق فى الحياة، وقهر الموت).

أطفال غزة.. يتحدون نذالة المحتل الصهيونى

البحث عن الحرية
لكن هذا المَشهد، والتماهى مع تفاصيله التى تصوِّر عمق معانى الصداقة، والبحث عن الحرية الحقيقية، هى المعنى الذى تدور حوله أحداث الرواية، فهل عالم الأحرار الذى يبحث عنه المُهاجر موجود بالفعل خارج حدود الوطن؟، أَمْ أنّ الحرية هى التى نصنعها نحن حين نسعى للنهضة بالوطن بكل ما نملك من رغبة فى التطور، والشعور بالانتماء؟، وأرى أن هذا هو سؤال الرواية الأساسى الذى يُمسك بمفاصل السَّرد، وقد حقق السؤال جوهر المعنى فقدمت الرواية بناءً سرديًا متماسكًا يعتمد على الحكى (المونولوج الداخلى) الكاشف عن رؤى الذات ومشاعرها وتوجهاتها، والحوار وتجلياته: (حوار الذات مع داخلها وحوار الأنا مع الآخر المنتمى لقوميته، والآخر الأجنبى)؛ ليحمل النص الروائى ثراءً يعبِّر عن تصورات وأفكار ورؤى جديرة بالتأمل والاعتبار.

كما يعتمد السرد أيضًا على تسجيل الذكريات أو اليوميات المرتبطة بالبطلين المقيم والمُهاجر، والمشترك بينهما من ميراث الذكريات، التى تتمسك بأهداب الجذور، وتغرس نفسها فى ساحة الخيال، وساحة الشعور لترسم عالمًا خصبًا للمدينة الفِلَسْطِينية حاضرة وماثلة، فى قلوب أبنائها، خالدة فى النبض وفى الكلمات وفى الأفعال وهو ما يعمق فى النفوس معنى الانتماء إلى الوطن فيقول المُهاجر: (أتمنى للحظة أن يعود بى الزمن ثلاثين عامًا لأستعيد لحظات النشوة، واللذة فى انتظار قرص الخبز المعجون بالزيت والسُكِّر فى الشتاء البارد، كانت جدتى تحكى حكايات غريبة عن الضبع، وعن شجاعة أجدادنا).
على باب الكهف
يتمثل المُهاجر الأربعينى حكايات الأجداد، تظل ماثلة مستشرفة للخطر، محذرة من ترك الحذر، وساعية إلى بعث الهمة واليقظة واستنفار القوة فى مواجهة المجهول، فيقول المُهاجر عن حكايا الأجداد: (كانت الضباع كما كان يقول جدى تظهر فى الشتاء أكثر، يقولون أنها تتحكم بقوة الإنسان، فيسير خلفها إلى كهفها حتى تلتهمه بهدوء، لكن المرء عندما يصل باب الكهف تصطدم جبهته بأعلى المدخل المنخفض يصحو ويفر، وينجو بحياته).
وهذا الشعور بالمسئولية عن الذات، واستدعاء عناصر القوة النفسية، وقوة الفعل، هما ما يميزان بطلى الرواية المُهاجر والمُقيم رغم ما يقابلهما من صعوبات ومخاطر.




فى فم التمساح
المُهاجر يتماهى مع صور البطولة يستدعيها فى غربته فيستخدم «وليد الشرفا» فى سرده تقنيات جديدة تهزم الاغتراب النفسى، والشعور بالوحدة، فيمزج مَشاهد من الحياة اليومية لبطله المُهاجر بما يراه من أفلام ومسرحيات وأغانٍ تربطه بلغته، وبالوطن الأم.
فيتماهى بطله مع مَشاهد الحرب التى خاضها أبطال فيلم سينمائى- فى الجبال الهندية، فى صراعهم ضد الاستعمار الإنجليزى، وتظل الصور الدالة فى الفيلم ماثلة فى خيال المُهاجر الذى يحمل بيته فى داخله، وقضية وطنه فى أعماق قلبه، فيقول: (تهبط إلى خيالى صورة الممثل فى المشهد الأخير، قد جَرَّ أمّه بين ألسنة اللهب والشظايا مرورًا إلى البيت، قال لها: سنصل البيت، كان الدم يكاد ينفجر من عينيه، تلفظ الأم أنفاسَها، وتلمع حبات التراب على جبهة الممثل).. هذا المشهد المهم يجعلنا نتساءل بدورنا؛ هل كان سؤال المُهاجر الوجودى هو البحث عن المكان نفسه، عن البيت- حتى وهو يعيش فى شوارع وبيوت أخرى فى المََهجر يمسك بخارطة بلاده ويبحث عن أشجارها هناك فى داخله، يفتش عن خُبزها بالسُكِّر فى ما يتبلغ به من لُقيمات، يتغنى بلغتها، يذكِّره بها صوت «عبدالحليم حافظ»، وصوت «فيروز»، ترن الموسيقى الحميمة، والأغنيات «ضى القناديل والشارع الطويل/ فكِّرنى يا حبيبى بالموعد الجميل، بليالى سهرناها، وسهروا القناديل، سهروا يا حبيبى، يا شارع الحنين.. ضيَّعنا الهوى/ فاتتنا السنين أنا وأنت سوا».
يغنى «عبدالحليم» فيتذكر المُهاجر حبيبته «ياسمين» التى تركها فى مدينته، وربما قد تزوجت الآن بآخر لكن ظل حبها ينبض فى قلبه، ويولد فى حنينه.
تغنى «فيروز» فى مسرحيتها التى سجلها على شريط، مسرحية (ميس الريم) بعد أن تُحاور المُختار وتحدثه عن الحب والريح، وهنا يتذكر المُهاجر وحشته وغربته، فيقول: (حملتُ هذه الوحشة معى عندما نزلت فى المطار بين محيط من الأضواء والسيارات، والناس الجميلين المُعطرين كأننى فى فم تمساح، تغيِّر الوضع الآن، أعرف لغتهم، أضحت هذه اللغة أحد أعضائى، ولم تعد أداة، أحمل هويتهم وجواز سفرهم مع أننى أعتبر نفسى ضحية لهم، وإن كنا ضحية لجهلنا أولاً لم يكن هناك فرق بين ثورتنا وبين حلم الجنيَّات الساحرات، ذلك حلم العجز، وذلك حلم الفطرة والغريزة وكلاهما سيؤديان إلى الانهيار).
صراع مع الآخر
ثم يصوِّر لنا المُهاجر اصطدامه بالمجتمع الغربى الجديد، تصورهم للفِلَسْطِينى بل للشخصية العربية بشكل عام، وهذا الصراع الذى يخوضه بطله المُهاجر فى التعبير عن نفسه، ومحاولته فهم صورة الغربى عنه، الصراع والمواجهة، الاتهام والإدانة، التفاهم وسوء الفهم، ويكشف الحوار بين المُهاجر وصديقته الفرنسية هذا البعد العميق لمشاعر الشخصية الفِلَسْطِينية فى الغربة، كفاحها ضد مفاهيم غربية مسيطرة، وصورة ذهنية تتحكم فى الرؤى والعلاقات، والتعامل مع الآخر، ويبدو الحوار ناجحًا وكاشفًا عن هذا الصراع فتقول له صديقته الفرنسية: (أحيانًا تدمرون ما تهبه لكم الطبيعة، وكثيرًا ما تدمر الطبيعة ما تنجزونه لأنفسكم لذلك يكثر فى تاريخكم القتل والحروب والاغتيال، معظم قياداتكم ماتوا قتلاً بعد وفاة نبيكم، أردتم أن ترثوا نبوته.
فيقول المُهاجر: وتاريخكم أشد سوادًا من تاريخنا.
فتقول هى: صحيح لكننا لم نقل بأنها معارك ربانية، وخارجية، وحق وباطل، قلنا أنها مرحلة تخلف تاريخى فُرضت علينا المواجهة، وتعلمنا منها.
فيقول: ونحن سنتعلم منها.
فتقول الفتاة الفرنسية: لا أرى ذلك، الفرد منكم يعكس أزمة الأمة، يريد أن يتزوج أربع نساء، ويتمتع بلذائذ الدنيا، ويجعل من هذا عبادة، كيف ذلك؟، كيف تكون الحاجات مدخلاً للعقلانيات والروحانيات، الجنس عندكم عبادة!
فيقول: لا تنسى الأمراض الخطيرة التى تعصف بكم.
يتوتران فيعودان إلى مناقشة قضية بلاده فتقول له الفتاة: أليست قضيتكم نتاجًا لحالة تمزق وتخلف تعيشونها؟
فيقول: لكنها مؤامرة خرجت من عندكم).
ثم يتهمها بأنها تحولت إلى داعية استعمارية، فتقارعه قائلة:
- اتركوا الكمبيوتر، والديمقراطية، و«الكوكاكولا» والچينز، ومطاعم الوجبات السريعة، وبعدها تحدّثوا عن خصوصية، وعن كونكم خيرة أمة أخرجت للناس؟!

رغم التدمير.. الفلسطينيون متمسكون بأرضهم

الفخ الغربى!!
هذا الحوار العاصف، والمواجهة القاسية الغريبة تدفع المُهاجر لمونولوجه الداخلى، إلى مواجهة الذات، فيقول:
(ماذا فعلتْ بى هذه المجنونة؟، لقد كشفت الجرح، لماذا لا أعترف بأننى منسحق جبان، لا شىء يربطنى بهويتى سوى بعض الذكريات المريرة والصداقات، أمارس دورًا طفيليًا، أتمتع بذكرياتى، بوجدانى، وأعيش هنا انتهازية ووضاعة فى تسويق هذه الذكريات لتحقيق الإعجاب والإثارة).
إذن يقع المُهاجر على صورته فى الفخ الغربى، يقع فى إطار الصورة الذهنية التى رسمها له الآخر فجعله يشعر بتأنيب الذات، فيعمل على إدانتها فى داخله، وهو الأمر الأخطر من وجهة نظرى لأنه ينال من ثقة الفرد، ويُقعد همته عن مواجهة الآخر، ومواجهته بحجم العسف والظلم الذى يمارسه عليه سواء فى الحوار أو فى التعاملات اليومية، ولكن المُهاجر يستعيد صورة كهف الضباع، وخبطة الرأس فى باب كهفها يُذكِّره باصطدام جبهته به وبما اصطدم هو به من آراء صديقته الفرنسية. وهنا يصحو ويفر وينجو إلى عالمه عالم الصحوة، بالذكريات ويشكل فيها الصديق المقيم، والصديق الشهيد عنصرين مهمين يتصل حولهما الحكى بين المُهاجر والمقيم.
حديث إلى الشهيد
فيتحدث المُهاجر إلى صديقه الشهيد الذى يظل حاضرًا فى كل أحداث الرواية فيخاطبه قائلاً: (لا أدرى متى كان موتك بالضبط؟، نظرت إلى عينيك، جلس الصديق الوحيد المقيم إلى جانبى يرتجف ويصرخ كالملسوع، وكلما نظرت إليه ارتفعت وتيرة بكائه، خلعت معطفى، لففتك فيه، حاولت تثبيت يدك مكانها، بقطعة من القماش، وقتها سمعت صوت الرعد، بدأ المطر ينهمر، ويغسل دمك وجرحك، كلما ازداد المطر، كلما أسرعت أنا وصديقك فى المَسير نحو البلدة، وقفنا سويًا عند المشارف، لاحت أمامنا الطرق فارغة، كان الدخان يتصاعد من المواقد، نظرت إلى بيتك، قلت: أية عاصفة ستبدد هذا السكون؟، لماذا نكون أنا وصديقك من يحمل الموت إلى طفلتك، وزوجتك، ووالدتك الملهوفة عليك منذ أن عدت نازفًا من المدرسة، يا إلهى، أتكلم الآن كرجل خارج من البرزخ منذ أكثر من اثنى عشر عامًا).
على قلب رجل واحد
ويصبح الحوار مع الصديق المقيم هو أيضًا حديثًا عن الشهيد الحاضر فى تفاصيل حياتهما اليومية لدرجة أن المُهاجر يريد للمقيم أن يقرِّب سماعة الهاتف من شاهد قبر الشهيد ليتحدث إليه ويسمعه، فيقول المُهاجر للمُقيم:
- هل وصلت؟.. أين؟
- إلى القبر؟
- أنا فوق رأسه.
- قرِّب السِّماعة عند الشاهد.
- يكفى جنونًا!
- على الأقل افتح السمَّاعة ليكون الصوت عاليًا.
- تكلَّم
- سامحنا يا صديقى، ربما لم أكن شخصيًا بقدر الأمانة، لكنى لم أنسك لحظة، سامحنا.
- يكفى الآن.

إلى متى يستمر صمت العالم على هذه المأساة الإنسانية

وهنا يؤكد «وليد الشرفا» على منزلة الشهيد وحضوره الماثل فى وجدان أمته وناسه، فهو حاضر فى حياة المُقيم، يتحدث عنه ويرسل بنص وصيته للمهاجر وكأنهما معًا على قلب رجل واحد، تقول الوصية: (أيها الأحبة إذا قرأتم هذه الرسالة وحدكم، أرجو منكم أن لا تبكوا عليَّ ولا تحزنوا فإن حياتنا لم تكن يومًا لنا، إن الهوية والكرامة التى نذرنا أنفسنا لترسيخها لا بُدّ لها من ثمَن، أرجوكم لا تبكوا فإن الموت حق، ولكن الموت باختيار وهدف عظيم يُورِّث المجد فى الدنيا، والثواب فى الآخرة، تذكروا ذلك).
وكان الشهيد قائدًا للمجموعة الأولى التى أخذت على عاتقها نقل مواجهة المحتل الإسرائيلى بالحجارة إلى مواجهته بالسلاح.
ثم يحذرهم الشهيد فى بعض رسائله من الذين يخاتلونهم ويتوافقون مع المحتل، ينفذون أوامراه فى الداخل، ويدَّعون الوطنية. فمن كلمات الشهيد عن شخصية الشاعر الذى يدبج القصائد الوطنية وفى الوقت نفسه يأتمر بأوامر المحتل ويداهنه ليحظى بالمال والنفوذ:
(لقد وصل «الشاعر» إلى مرحلة خطرة من الاشتباه، فهو يزور قاعدة العدو باستمرار، كما أنه يسعى لتشكيل قيادة من الوجهاء، وأصحاب المحلات لإجهاض عملنا بحجة حماية مصلحة الناس، أحذركم منه واعلموا أن جرائمه الأخلاقية فى ازدياد فهو يتاجر بالمحرمات، عدا عن سلوكه القذر المتكرر تجاه ابنه الشيخ، ومراقبته الدائمة لنا، إن هذا الخائن وأمثاله يمثلون خطورة على كل الماضى والحاضر والمستقبل).
والغريب أن هذا الرجل نفسه هو الذى أصبح ممثل البلدة بعد «أوسلو»؛ بل أخذ مكان صديقهم الشهيد فتزوج أرملته وأصبح أبًا بديلاً لابنته.. هكذا يتحدث المقيم إلى المُهاجر، فيصف له ما وصلت إليه الأحوال، وما كتبه الشاعر المخاتل وأذاعه على الناس من أفكار: (كانت تلك عبقرية ثورتنا إنكار الذات، وخَلق واقع مغاير، كنت أحيانًا أضطر للظهور بسلوك المنفلت حتى لا نجلب الأنظار، لقد بقينا مخلصين للوطن وللقضية لم نرحل، هو استشهد، وظل نبراسًا، وأنا بقيت هنا مثل أبناء شعبى منغرسًا كشجر الزيتون، عندما استشهد، لم ينته المشوار، فقد ترك أمانة عظيمة زوجته وابنته).
نزع السُّلطة من السُّلطة!
ويصف المقيم عذاباته لصديقه المُهاجر، واضطراره للاستقالة من عمله فيقول مواجهًا رئيسه: (وجدت أننى أمارس دورًا مزدوجًا فى تعميق حالة التراجع والفساد لأننا نقوم بدور شاهد الزور لأننا لسنا وزارة، ولا نملك أى قرار، وإذا امتلكناه فإنه لا يتعدى توظيف موظف أو عزله).
ويرصد المقيم ما يشعر به من غضب وثورة ضد المحتل، فيصف وقوف الوزير على الحواجز حتى يسمح له أحد جنود الاحتلال بالمرور مصوِّرًا نزع السُّلطة من السُّلطة؛ بل إن المرء لا يستطيع أن يزور ذويه على الرغم من سكناهم فى البلدة التى بجواره، ثم يأتى المشهد الأخير فى الرواية، المرأة التى تنزف وهى تلد، فيفتح الجنود رجليها ويتفرجون عليها، ويعطلون سيارة الإسعاف التى تحملها عند الحواجز، وهنا تتغير أحداث الرواية جميعًا، تتغير حياة المقيم والمُهاجر، يعلو الغضب، وتتأجج الثورة على المحتل، والغيرة على عرض المرأة وكرامتها فيندفع المُقيم دافعًا بالجنديين الإسرائيليين إلى الخلف متقدمًا يشير لسيارة الإسعاف بالمرور بالمرأة النازفة حتى تصل إلى مشفاها، صائحًا بالجنود:
- يا جبناء.
فيطلقون عليه الرصاص من الخلف، فيخترق الرصاص ظهره.
تصل أخبار إصابته للصديق المُهاجر فيعود على أول طائرة مغادرة، يريد أن ينقله إلى أى مستشفى فى العالم، أن يفعل كل ما يستطيع لإنقاذه فيقول:
ها أنا أعود كما أردت، ربما كان دمك وعذابك الثمَن، كان لا بُد أن تنزف، وترى أشباح الموت وتشم رائحته حتى أعود).



العودة إلى الوطن
ويصف المُهاجر عودته بمشاعر فياضة بالحزن والتأثر، بعد استشهاد صديقه المقيم فيقول: (أنظر إلى جبل الصنوبر، على قمته ترتفع بعض الأشجار كما كانت، ينسل ظل صديقى الراحل الأول، لقد كبرت شجرة السرو، الموت فى جميع الأنحاء، أنظر إلى بيت صديقى، أشرق بالبكاء، وحيدًا أسير، أنظر إلى شجرة التوت، وإلى بيت أهلى، أية عودة هذه التى تحرمنى من أحضان من أحب؟، وحمل الحلوى للصغار، وتقبيل يد أمى، أية عودة هذه التى أقبِّل فيها فم القبر؟).
... هذه الرواية صرخة ضد الموت المجانى، وضد التعايش مع الموت، وهتاف للحياة وللأحياء، وتمسك بالأرض وبالجذور حيث الحياة معنى وانتماء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.