حالى كحال العديد، يصرف ما فى الجيب.. ولا نعلم الغيب بماذا سيأتى. ولأن أغلبنا يحسب أوجه الصرف، وكل ما نفعله أن نقتنص من المرتب المصروفات الأساسية الشهرية، أما باقى المرتب، فلا نعلم كيف انتهى؟ وفى ماذا راح؟ ففى ساعة صفاء وتجلٍ، جربت كتابة ما تم صرفه أولًا بأول من أول الشهر، بعضهم يقول إنها ليست الطريقة الفعالة، ولكنها على الأقل كاشفة لكل قرش «راح فين»، والسؤال المعتاد عند أغلبنا هو: ليه؟ أنا صرفت فى إيه؟ بتجربة الحصر اكتشفت ضياع «ثلث المرتب» فى «البقشيش»! بالزمن أصبحنا نسمى البقشيش بكلمات أكثر رقيًا، زى «تيبس»، وبالتأكيد كل شىء عندما يأخذ صبغة أجنبية يصبح ألطف ومقبولاً.. وأصبحنا جميعًا بندفع «تيبس»، بكافة طبقاتنا الاجتماعية، على الرغم أننا شخصيًا محتاجون ل «تيبس»! واختلطت الأمور كعادة أى شىء.. تبدأ بشكل غير إلزامى أي كرم وذوق من الشخص، ولهذا سميت أيضًا ب «إكرامية»، إلى أن أصبحت أمرًا واقعًا مسلمًا به، ونخجل إذا لم نفعل. الأمر فى البداية كان نوعًا من الذوقية، وإذا لم تدفع لا يقلل هذا من شأنك، ولا يقلل من خدمتك أو جودة الخدمة، ولكن مع الأسف، أصبح الأمر إلزاميًا وإذا لم تدفع، بعيدًا عن أنك عديم الذوق، فلن تحصل على خدمتك كما ينبغى. كم مرة تدفع بقشيشًا فى اليوم؟ فى كل مكان لا بد أن تترك بقشيشًا، فنحن نترك بقشيشًا فى الكوافير، الدليفرى، محطة البنزين، الكافيه أو المطعم، حتى إذا ذهبت لشراء أجبان أو لحوم نترك بقشيشًا رغبة منا فى خدمة أفضل، ناهيك عن التعامل الذى يعاملك به البائع، فتأخذ لقب دكتور أو باشمهندس، لمجرد أنك تدفع. اتفضل يا دكتور، رغم أنك محامٍ، ولكن هو أكرم عليك بالدكتوراه، قس على ذلك كل مكان حتى حمامات المول أو النادى، إذا لم تترك بقشيشًا لن تحصل على الطبيعى والمعتاد «المنديل» و«ابقى نشف فى كمك». أقل «بقشيش» عشان تكون شخص محترم خمسة جنيهات، واضرب خمسة جنيه فى الأماكن التى تتردد عليها. لا أضع «السايس» فى الحسبان، لأن السايس له مرتب خاص، كأن أرض الحكومة ملك السايس بدون وجه حق، لكن ستدفع برضاك أو بالغصب، تحولت المسألة من بقشيش أو إكرامية لإتاوة. تعلق نجوى فرج الإخصائية الاجتماعية على فكرة «البقشيش»، تقول: إن كلمة بقشيش لها أصول عثمانية، وتعنى ما يدفع داخل السوق، وبالطبع كان أمرًا غير إلزامى، انتقل إلينا وإلى الدول بأكملها، وأصبح أمرًا مرتبطًا بالذوق، أو الإتيكيت أن نترك نسبة من ثمن الفاتورة، وتطور الأمر لأن نترك «بقشيش» لحارس العقار مقابل طلبات خاصة وهكذا. تحولت من أمر له علاقة بالذوقيات وبدون تسعيرة معينة، إلى إجبارى، حتى إننا أصبحنا نشعر بالخجل إذا لم يكن معنا ما يكفى من فكة، وأصبحنا نعتذر عن عدم قدرتنا على دفع بقشيش، وأصبح البعض منا يشعر بإنجاز إذا خرج من ركنة السيارة دون أن يصطدم بالسايس، وكأننا نهرب. ندفع البقشيش حتى وإن لم يكن بالتراضى أو حتى إن كانت آخر نقود نمتلكها، وعلى الرغم من أننا نعيب فى هؤلاء الأشخاص الذين يدفعون «إكراميات» لتسهيل بعض الأوراق الحكومية، إلا أننا أصبحنا أيضًا نفعل هذا بطواعية فى مناحٍ مختلفة، ويفترض منا أن ندفع بقشيشًا إذا أردنا نحن فعل هذا برضا من داخلنا، ولا نعتبر أن عدم دفع البقشيش يقل من وجاهتنا أو من مظهرنا أمام الآخر، وأن البقشيش أمر غير إلزامى، ومن أراد أن يدفعه فهو ذوق منه ليس أكثر، وأن عدم دفعك للبقشيش لن يقلل من جودة خدمتك، وإذا شعرت بتقليل من جودة الخدمة لا تخجل من طلب خدمتك كاملة. تقول فيفيان فريد إخصائية اجتماعية: إن البقشيش ظاهرة عالمية مع اختلاف مسمياتها من بلد لآخر، تحمل نفس الفكرة وهو ترك نسبة معينة من قيمة الفاتورة تصل من 5 ٪ إلى 10 ٪ فى مقهى أو مطعم. تضيف: مفترض أن البقشيش ليس له ثوابت، فهناك من يترك مبلغًا سخيًا وآخرون يتركون أقل. تقول: المشكلة أن البقشيش أصبح إلزاميًا، أصبح واجبًا، واقتحم حياتنا فى كل المجالات والأوقات. من وجهة نظرى الشخصية، تضيف فيفيان فريد: أن البقشيش وجه من أوجه الفساد الاجتماعى الذى نرفضه ونعمل به فى الوقت نفسه. تقول: هى شكل من أشكال الازدواجية فى حياتنا الشخصية، نتذمر من الموظفين الذين يطلبون «كوباية شاى»، وفى الوقت نفسه نحن من نلزم أنفسنا بتقديم «كوباية شاى» من تحت الملف لإنجاز المهمة فى أسرع وقت. لم تعد الإكرامية بمفهومها القديم تقديرًا لجهود وخدمة مميزة، إنما تحولت إلى إلزام، لذلك لا بد أن نبدأ بأنفسنا أولاً. ابدأ بنفسك وارفع الحرج، لا تحرج بتقديم البقشيش ما دمت لم ترغب فى هذا، لا تقدم البقشيش مُجبرًا.. قدمه بدافع الذوق، ولا تدفع غصب عنك لأن البقشيش مش حق!