السيرك، دنيا للدهشة، للضوء والحركة.. الخفة والشقاوة.. شقلبات الهوا، مشى على الحبال.. سحر وتهريج وأكروبات.. فى السيرك أطفال كأنهم كبار جدا، وكبار كأنهم صغيرون جدا.. يتبادلان المسئولية والشقاوة حسب الحاجة! صناديق.. سلالم.. بالونات.. كور.. شرايط حيوانات وطيور.. أصوات التصفيق عالية.. أضواء ملونة.. حركة.. صخب.. موسيقى.. وأصوات التصفيق تعلو وتعلو! الكل مستعد.. سرعة الإيقاع مدهشة والكل يتحرك فى وقته و دوره.. فى دقة وجاهزيةالحوار بينهم بالإشارة أو النظرة لبعضهم بعضا. المكان ملىء بالدفء والحميمية.. ربما أكسبتهم صفة العائلية المتوارثة منذ بداية السيرك تاريخيًا صفة العائلة الواحدة، والحميمية.. التى يشعر بها كل جديد منضم حتى لو على سبيل الزيارة.. مثل زيارتى فى تلك الليلة! عرفت معنى «الحداقة»، نباهة و، خفة ولذاذة معا.. سرعة الإيقاع عززت سرعات الفهم والملاحظة لدى الجميع.. يحتاج محدثهم لمزيد من الانتباه ليجارى مداعباتهم وملاحقة النقاش بين الجد والدعابة! فنانون فى غاية الندرة، رغم عاديتهم تلك.. بساطتهم فى كل شيء.. العمل معا والعيش معا.. ويبدون رغم كل ذلك غير عاديين بالمرة. داخل السيرك وللوهلة الأولى، كأنه عالم آخر.. الكواليس تحديدا مليئة بالاكتشافات.. بينما أتوا فى ألبسة شتوية ولم أكد تمييز أى منهم بصفة لعبته.. يشبهون بعضهم ويشبهون كل الناس.. إلا أنهم فور ارتداء ملابس العمل، يكتسبون شخصيات جديدة. كنت أتصور أن للمهرج أو لاعبى الأكروبات مثلا سمة معينة سأعرفهم حتى بملابسهم العادية.. ولم أكن أشك أبدا باختلاف هيئة الساحر عن بقية البشر.. إلا أنه شخص عادى لم أميزه. ويشترك الجميع بخفة الإيقاع وخفة الظل معا.. لا تكاد تشعر بالوقت مع أى منهم. والشخص الذى فرضت شخصيته نفسها.. الوحيد.. مروض الأسود.. فله هيئة صارمة إلى حد، يجلس وحيدا مع أسوده، ولا يكثر الحديث ولا يتداول الضحكات والكلمات إلا فى حدود.. ولكن الملفت جدا والذى سيعرف الجميع من هو.. صوته.. الذى يكاد يشبه زئير أسوده الآتى من بعيد.. بين الأقفاص البعيدة. رأيت السيرك لأول مرة منذ أيام بليلة باردة، من أيام يناير، محاولة اكتشاف ذلك العالم السحرى اللامع.. والدهشة التى يضمها.. تصوراتى الساذجة عنه، ربما لم يخذلنى فى كثير منها.. لدهشته حقا فى بريقه وضوضائه، شاركت مرتى الأولى بتلك مع جمهور الأطفال الكثر وحظيت بالانتماء لصفوفهم فى ليلة جمعة، نهاية سعيدة لأسبوع من أسابيع إجازة نصف العام التى تمتلئ بالبرد والخروجات والفسح رغم ذلك! الأطفال لا ينتبهون للخوف أو للبرد.. يتفاعلون مصدقين آمنين مهما كانت المخاطر.. تستحوذ عليهم الدهشة.. خاصة النمر والفقرات التى يشاركون بها.. مع المهرج أو الساحر.. وفقرات الأكروبات، المشى على السلك أو السلالم فى الهواء التى يتراقص عليها أطفال وكبار. قدمت فنانة طفلة (تقى) نمرة كاوتشوك، أو الجمباز، تثنى جسدها بحركات عجيبة تحتها وتخرج رأسها من بين أقدامها، ليونتها المدهشة لكل من يراها لا تمنع همس بعض الأمهات بالدعاء لسلامتها - فخطورة الحركات واضحة وصعوبتها إضافة لارتفاعها.. نحاول التشبث بهذا التكوين دون خوف من انهياره لحركة خاطئة. ونمرة البامبوك التى اشترك بها ثلاثة أطفال (طه ، على، محمد) يرتفعون فوق اسطوانة معدنية بطول تسعة أمتار فوق جبهة شاب ويجلسون عاليا، وربما يقومون ببعض الحركات الوقوف على الأيدى أو فتح الأرجل فى الهواء وغيرهما.. ننظر جميعا فى إعجاب ولا نخفى لوعتنا على الأولاد - أضع يدى على قلبى وأسمى ليحفظ الله الجميع! عائلية السيرك تظهر نفسها منذ اللحظة الأولى.. الاستقبال فى غرفة الأمن والانتهاء من إجراءات التصريح للزيارة.. كان مليئا بالعشم والكرم.. كان أفراد الأمن يحتسون شرابا ساخنا، وفورا دعونى لمشاركتهم فى تناول شاى ساخن.. «شكلك بنت بلد زينا، ووشك فيه القبول، شاى إلى أن يأتى الفناااانون..»، ولكنى أحب الشاى باللبن، «لدينا لبن» معقول!! تبادل الأحاديث والحكايات.. والضحك.. بلحظات شعرت أنى هنا منذ فترة أضحك مبدية اندهاشى من بساطة العيش التى جعلت من الحياة نعيما فى لحظة! ويقول أ.وليد: هنا بيت العيلة، دايما هتلاقينا كلنا مع بعض كدا..!». ثم جاءت أ.ليلى الجوهرى مديرة الحلبة أو المانيش كما يقولون.. أخذتنى فى حكاية عن السيرك، حيث يبدأ وقت كان جدها محمد الجوهرى من المؤسسين كان مدربا للأفيال.. وعمتها رضا الجوهرى، ولكن الأفيال انقرضت.. من السيرك.. بعد ذلك. جاءت السيرك مع عائلتها، هى وأختها زيزى، تزوجتا من فنانى السيرك أيضا والآن يقدم أبناؤهما نمرهما التى كانتا تقدمانها فى السابق، كانت هناك عائلات فى مصر تمتلك سيركًا متنقلاً وتشتغل بفنون السيرك، مثل عائلة الحلو، وياسين، تتنقل فى الجمهورية مثل الموالد.. ولما جاءت مصر فى الستينيات بنسخة من السيرك الروسى، أنشئ السيرك القومى وتأسس أولا على العائلات التى لديها خبرة بفنونه.. ولوجود مدرسة سيرك آنذاك وخبراء، أصبحت هناك أجيال من اللاعبين - أى دخلوا فى نسيج العائلة تباعا - إلا أن المدرسة اختفت وباختفائها توقفت وفود اللاعبين الجدد خاصة الأطفال بالألعاب التى تحتاج تمارين منذ الطفولة.. فانقرضت هى الأخرى والمدرسة التى يتحدث عنها الجميع هنا كحل وحيد للخلاص، كحلم، حلم بعيد المنال.. اختفت بنهاية السبعينيات بعد سفر الخبراء الأجانب ومنذ ذلك الوقت لا توجد اختبارات قبول ولا متدربون ولا متقدمون جدد للسيرك. كانت جلستنا فى مكتب المدير الكابتن محمد النوبى، مدير شعبة الجيزة، فالسيرك هنا له جناحان من الفرقة.. فريق شعبة القاهرة وآخر للجيزة يعمل كل منهما شهرا بينما يتدرب الآخر أو يعرض بمكان آخر داخل أو خارج مصر. وبينما كنا نتحدث عن حكايات السيرك، توافد اللاعبون والفنانون للتوقيع فى دفتر الحضور، لم يكف أى منهم عن المشاكسة والضحك.. اللعب بالكلمات والضحكات.. يستحوذ صاحب صفة الحداقة - التى اكتشفتها لدى الجميع هنا على انتباه وعقل سامعه، ولا يكتفى بذلك بل بإعجابه أيضا.. وربما أثناء حكاياته وضحكاتك تروح عليك، ولا تنتبه لإيقاعه بك بفخ أو بكلمة لم تدركها أو مزحة لم تلاحظها.. أذكياء جدا ويحتاجون لمزيد من الانتباه لمجاراة ذلك الإيقاع الخفيف.. حتى الأطفال هنا شقاوتهم مش عادية! الكابتن نوبى، مدير شعبة الجيزة، ولاعب سابق لفقرة الحربة والمطبخ الصينى قال: «دخلت المدرسة عام 1973، كان فيها مدربون مصريون، عم عباس وعم زكى عبدالله، ومدربون ألمان، مستر هاردى ومدام باومان وبعد سنة جاء خبراء من الصين ياخدون أطفال، اختارونى وستة آخرين، كان وقتها المدرسة فيها مائة شخص تقريبا.. رجعت بعد أربع سنين ملقتش المدرسة». من حسن حظ السيرك! للسيرك القومى خصوصية العائلات المؤسسة، ربما هذا ما أبقاه إلى الآن رغم اختفاء المدرسة التى يتحدث عن حاجتها الجميع.. يعمل اعتمادا على توريث الفنانين حبهم للسيرك والانتماء له، ولولا توارث الحب واللعب والفن ذلك لأنه بدون مدرسة ومتقدمين جدد.. لحسن حظ السيرك فى مصر أنه بنى على أساس عائلي! أنا شخصيا خالتى كانت فى السيرك، جئت معها، ولأن كل العاملين معنا أقارب.. وتزوجت الأجيال الثانية والثالثة بعد ذلك من داخل السيرك أيضا أصبحنا جميعا عائلة واحدة كبيرة.. وتوارثنا الحب، حب السيرك وحب المهنة.. حب العمل معا والحياة معا.. جيلا بعد جيل!.. يأتى الجميع بأطفاله، ويوما بعد يوم يتعلم كل شيء دون جهد أو قصد.. وينتقل له مشاعر الحب والانتماء بطبيعة الحال! وحاولنا جميعا استعادة المدرسة،. مديرًا بعد مدير، وتغير وكلاء الوزارة واحدا بعد الآخر ولا شيء يحدث. فى السيرك حوالى 280 فنانًا، يقومون ب56 فقرة «نمرة» فنانون تتحقق فيهم عوامل الندرة والفرادة.. ويحكون عن لعبات أو نمر - انقرضت - اختفت لأنه لم يعد بعد لاعبيها متعلمون جدد لها، كلمة منقرض هنا متداولة كثيرا بين الجميع.. تقال عن فقرات اختفت أو حيوانات لم يعد السيرك يستقدمها بعد موتها مثل الفيلة الأربعة، والقرود والدببة.. يقول الجميع عن كل اختفاء انقرض انقرض!! كان فى فيلة ودببة ونسانيس وقرود وكلاب وثعابين وأسود ونمور ودلوقتى فى بس أسود ونمور وخيل وكلاب.. الباقى انقرض! بدأ السيرك تدريبه الأول فى قصر عابدين عام 1962، وظل التدريب أربعة أعوام إلى أن تم افتتاحه بمقره بالعجوزة عام 1966 افتتحه الرئيس جمال عبدالناصر الذى استقدمه من زيارة له فى روسيا، وكان معنيًا بإرسال الوفود الزائرة لمصر لمشاهدته.. يحكون متحسرين على عدم الالتفات لهم من الدولة منذ زمن وخفوت نجمهم بين الناس. أصعب مشاهد السيرك والتى لا تخفى على أحد.. خطورة مهاجمة الأسود لمدربها ذات يوم.. ولا أحد هنا ينسى حكاية سلطان الأسد الذى انتحر حزنا على إصابته لمدربه، وكذلك حادثة كوتة الأخيرة حين انقض عليه أربعة أسود داخل القفص ونجا بإعجوبة. أما مشاهد الوقوع أو التعرض للكسور، فهذه طبيعية هنا ومعتادة! دى حيوانات مفترسة يا ناس! زئير.. مدحت كوتة مروض الأسود الشهير ابن الفنانة الراحلة محاسن الحلو، يشبه صوته الزئير الذى يأتى من كل مكان حوله، فهو دائم الجلوس هنا بجوار الأسود.. لا يتحرك سوى قبيل العرض يجهز نفسه استعدادًا للقاء! «حبيتهم، حبيت الأسود من بداية حياتى، خفت أقول لأمى فى البداية ولكنها أهدتنى أسدا صغيرا (شبل) ذات يوم كان اسمه تومى، له فضل علىَّ كبير، أنقذنى من أسد آخر هجم على ذات يوم.. ودى حالة نادرة ربما لا تحدث.. أن ينسى أسد غريزته لحظة هجوم أسود أخرى.. ولكنه تشاجر مع أسد آخر فى القفص أصاب عينه وأخذوا قرار إعدامه أثناء سفرى، رجعت ملقيتوش، حزنت عليه شهورًا لم أستطع العمل بها.. وكلما جئت للأسود تغلبنى الدموع فى غيابه»! الأسود شخصيات زى كل إنسان... فى النجم والكومبارس والسنيد وفى الغدار، والعنيد ووالوفى وفى الخواف! يقول كوتة.. «دولار مثلا دا، شقى، عنيد، لا يستجيب للتدريب ولا يهمه الأمر والتوجيه، يقف فى عناد، إذن لا يصلح معه الاهتمام ولا الاحترام، يتمرد ويزداد عنفه، خرجته من العرض لأنه فى خطورة منه.. أما كوتة الأسد فدا أروش خواف، محتاج للسياسة والهدوء أمتض الروشة دى وأديله ثقة فى نفسه. إنما إيفل دا صديق لا يحب مدحت كوتة الصوت العالى فى الطبيعة ولا العنف فى الطبيعة.. والطبيعة هى الحياة العادية.. فرغم حياته الخطرة والأصوات من حوله وحتى صوته هو إلا أنه يحب الاستماع لأم كلثوم أو عبدالوهاب أو الصمت. ويكرر الحديث من المدرسة وأهميتها للسيرك من أجل باقى الحيوانات، ففقرة الأسود قوية بينما لا توجد أخرى بقوتها. المشكلة الأكبر هنا فى الجمهور كمان.. لأنهم يتركون أطفالهم يلاعبون الأسود من حول القفص.. دى حيوانات مفترسة يا ناس.. يصرخ غير مستوعب كيف ذلك، فذلك قد يعرضهم للخطر، أو يثير غضب الأسود ويعرضه هو للخطر الأكبر.. لا قدر الله. ويقول عن الأسد.. عظيم.. شخصيته قوية، ولأنه ملك فلا يحب الأمر والتوجيه.. لكنه شريف، لا يهاجم إلا من الوجه.. لا يغدر.. لأنه عظيم! السؤال دايما: الدولة عاوزة إيه؟! أ.عصام، يقدم فقرة السيرك المتحرك.. أو المشى على السلك المتحرك منذ أكثر من عشرين عامًا! «منذ دخلت السيرك لأول مرة مع صديقى لاعب الكراسى المعلقة، علاء راشد أصبت به، ولم أشف من يومها.. أحببته.. لأنى دخلت السيرك فى كواليسه، شفته عالم رائع، وفضلت فيه، والموضوع لذيذ جدا». «إحنا مثلاأقل من 300 لاعب سيرك فى الدولة، أقل من 300 فى ظل مائة مليون، كل دا تميز.. ومميزون لأننا نقدر نعمل حاجات محدش يقدر يعملها.. ورغم كدا التقدير الأدبى والمادى لايكافئ الندرة والتميز دا. لما كانت الدولة عاوزة سيرك عملت سيرك على أعلى مستوى، وكان له مكانة دلوقتى المسئول عاوز إيه من المكان دا؟ هو دا السؤال! وأغير الصورة الذهنية عند الناس عن السيرك وأهله، «دا سيرك وحركات سيرك»! «اللى يحب السيرك ميعرفش يسيبه!» عادل حمزة، 55 سنة، يقدم نمرة المشى على السلك (الحبل).. يلعب من 1977، وهو من آخر خريجى مدرسة السيرك. «كنت فى المدرسة لاعب جمباز مميز، شافنى محمد عاكف واختارنى لمدرسة السيرك، نجحت فى الاختبارات، واستمررت 3 سنوات فى التدريب ثم بدأت معه نمرة أكروبات ضاحك، وبعدين لوحدى فقرة التوازن على الكراسى، وبعدين عملت المشى على الحبل بقالى 9 سنين بقدمها..». «فنان السيرك مش متوفر له عمل غير فى السيرك، فمحتاج لاهتمام حقيقى من الدولة فى ناس دخلوا السيرك حبا فى المهنة أو الوظيفة، فمداش جوا قدم الناس.. فنان السيرك لازم يبقى يقظ للمانيش اللى جوا دا والناس بمجرد ميلبس لبسه! الكابتن عادل الذى يتميز بطلة فنية مجردة كأنه خارج من لوحة.. يحمل بجيوبه بونبونى ومنحنى منه الكثير.. يتحدث ويتناول معى الحلوى. «أنا عرفت أنى هكمل هنا وهفضل طول عمرى فنان سيرك من أول مرة جيت هنا.. حبيته..!». اللى يحب السيرك ميعرفش يسيبه! ليلة فى السيرك.. ساعتان من البهجة والدهشة، كل تلك الأحاديث وأكثر فى ساعتين.. بينما أشاهد جزءا من العرض وأعاود محاولة التقاط فرصة للحاق بأحدهم بين الكواليس! 10 9_copy