فى المرحلة الابتدائية التحقت بمدرسة النهضة فى شبرا، وفيها أمضيت أربع سنوات دراسية للحصول على الشهادة الابتدائية العامة. ومن اليوم الأول فى الدراسة أخذنا نتعلم تدريجيًا النظافة فى المظهر والنظام فى اليوم الدراسى سواء فى الفصل أثناء تلقى الدروس أو فى فناء المدرسة (الحوش كما كنا نسميه).. فى المرحلة الابتدائية التحقت بمدرسة النهضة فى شبرا، وفيها أمضيت أربع سنوات دراسية للحصول على الشهادة الابتدائية العامة، ومن اليوم الأول فى الدراسة أخذنا نتعلم تدريجيًا النظافة فى المظهر والنظام فى اليوم الدراسى سواء فى الفصل أثناء تلقى الدروس أو فى فناء المدرسة (الحوش كما كنا نسميه) أثناء الفسحة، حيث كنا نمرح ونلعب معا وبعدها نعود إلى الفصل لآخر حصتين دراسيتين وبعدهما نعود للبيت. وفيما يتعلق بالنظافة فى المظهر فقد فرض علينا فى طابور الصباح يوميًا أن نقف صفوفًا متراصة، وكل تلميذ يمد يديه إلى الأمام ويضع على أحدها منديله، ويمر المدرسون بين الصفوف للتفتيش على نظافة اليد وتقليم الأظافر ورؤية المنديل على الكفوف والتأكد من نظافة القميص والبنطلون والحذاء، ثم نستمع للسلام الوطنى ونهتف بحياة مصر ثلاث مرات، وبعد هذه المراسم ننطلق إلى الفصول استعدادًا لتلقى الدروس. وعندما كان المدرس يدخل الفصل يلقى علينا تحية الصباح فنرد عليه، ثم يبدأ فى شرح الدرس، وأشهد أن كل مدرس من المدرسين كان مخلصًا فى عمله ويهمه نقل ما عنده من علم إلينا، وكان كل منهم يهتم بمعرفة تأثير شرحه علينا، فنراه بين الحين والآخر يسأل أحدنا عن رأيه فيما سمع وخاصة فى حصتى التاريخ والجغرافيا، ولا يقف ثابتًا فى مكان معين من الفصل، بل كان يتنقل وسط المقاعد ولا تفارق الطباشيرة يده حيث كان دائمًا يستخدم السبورة لشرح بعض العبارات أو المصطلحات، وخاصة مدرس الجغرافيا الذى كان يحرص على رسم الخريطة بيده على السبورة لشرح الأماكن عليها، وحتى لا ينصرف أى منا عن الدرس كان المدرس يشير إلى أحد التلاميذ للإجابة عن سؤال محدد حتى يكتشف مدى استيعابه. وأتذكر أن أحد المدرسين كان يحمل فى جيبه طوفى (نوع من الشوكلاته الخفيفة.. بونبونى فيما بعد)، فإذا أجاب أحدنا إجابة صحيحة كان يعطيه واحدة مكافأة تشجيعية. العلم صيد والكتابة قيده وفى المرحلة الابتدائية تلك تأثرت كثيرا بمدرس اللغة العربية (أحمد بدر) الذى كان يبسط لنا المعانى الصعبة بما يقابلها بالعامية ويطلب منا أن نكتب موضوع «إنشاء» من نوع «رحلة إلى حديقة الحيوانات أو إلى الأهرامات أو القناطر الخيرية»، وذلك بعد قيامنا برحلة مدرسية إلى تلك المناطق، ونكتب هذا الموضع فى المنزل ونعطيه له فى اليوم الثانى، ومما لفت نظرى أنه كان يقرأ ما نكتب ويقوم بتصحيحه بالقلم الأحمر لكى نتعلم، أما مدرس التاريخ (أحمد حسن) فقد أسرنى بطريقته فى إلقاء درس التاريخ، حيث كان يتكلم بطريقة روائية وكأنه يمثل شخصيات التاريخ الذى يتحدث عنه، ومن هنا نما فى ذهنى حب التاريخ حتى تخصصت فيه. ولما حصلت على الشهادة الابتدائية انتقلت إلى مدرسة محمد فريد الثانوية فى شبرا أيضًا مع تغيير محل سكن أسرتى، وفى هذه المدرسة فرض علينا أن نحافظ على نظافة المظهر أيضًا والالتزام بأداء طقوس طابور الصباح وتحية العلم والهتاف لمصر، وفى تلك المرحلة تأثرت كثيرًا بمدرسى كل من اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا، وما زلت أتذكر كثيرًا من طريقتهم فى شرح الدروس وتبسيطها، فمثلا كان مدرس اللغة العربية (أحمد قنديل) يستخدم مقولات لتعليمنا النطق الصحيح لبعض الكلمات مثل نطق كلمة «قنديل» بفتح حرف القاف وليس بكسره، وكلمة «خزانة» بكسر حرف الخاء وليس بفتحها فيقول: لا تفتح الخزانة ولا تكسر القنديل، وفى إطار شرح بلاغة اللغة العربية فى الجناس والسجع والطباق والمقابلة، كان يردد بيتين من الشعر: مر ظبى على كثيب / شبيه بدر إذا تلالا فقلت ما الاسم قال لولو / قلت لى لى قال لالا والمعنى: أن رجلا أحب فتاة يرمز لها بكلمة «ظبى»، كانت تمر فوق كثيب (تل رمل)، فسألها عن اسمها فقالت «لولو»، وهنا أشار إلى نفسه قائلا: لى لى،أى لى أنا، فقالت: لا لا .. وهكذا البلاغة. ولقد سجلت هاتين البيتين فى ورقة داخل الكراسة فحفظتهما عملا بقوله لنا قبل ذلك بضرورة كتابة أى فكرة تسمعها فورًا، حتى تحفظها، وقال فى هذا بيتًا من الشعر ما زلت أحفظه يقول: العلم صيد والكتابة قيده / قيد صيودك بالحبال الواثقة مراد مجلى وعبد الحميد فتيحة أما مادة الجغرافيا فقد أسرنى لها مدرسها (مراد مجلى) الذى كان يرسم الخريطة بالطباشير على السبورة ويشرح الدرس، فجعلنى أحب مادة الجغرافيا رغم صعوبتها وجفافها، وقد التقيت به مصادفة بعد عشرين عامًا من حصولى على الثانوية العامة، وكنت قد أصبحت مدرسًا بالجامعة، إذ كنت أسير على رصيف شارع الثورة فى المهندسين حتى وصلت إلى مدرسة جمال عبد الناصر الثانوية للبنات، وعند الباب فوجئت به يخرج من المدرسة، فأسرعت إليه أحييه بحرارة حتى لقد بدا عليه الاستغراب والدهشة فقلت له: إننى لا أنسى دروسك فى الجغرافيا فى مدرسة محمد فريد الثانوية فأبدى ارتياحه وزاد إعجابه بى عندما علم أنى أصبحت مدرسًا بالجامعة. والمعنى الذى أقصده من هذه الرواية أن الأستاذ مراد لو كان سيئًا فى تدريسه مثلا وأنا فى المرحلة الثانوية هل كنت أجرى إليه فرحًا عندما وجدته أمامى بعد عشرين عامًا ؟. أما مدرس التاريخ فى المرحلة الثانوية (عبد الحميد إبراهيم فتيحة)، فكان قصة أخرى إذ جعلنى أعشق التاريخ، فقد كان يضيف بعض التفاصيل للحدث الذى يتناوله من خارج الكتاب المدرسى ويقول لنا بوضوح: إنه يستعد للدرس بالقراءة فى أكثر من مرجع لإثراء الموضوع فزاد إعجابى بدراسة التاريخ. وهكذا كانت المدرسة فى المرحلتين الابتدائية والثانوية اللبنة الأساسية فى تكوينى الأخلاقى والعلمى مبكرًا.