كتب: ميشيل سامى مكين رغم مرور السنين، تبقى بعض الذكريات كالشعلة التى تقودنا فى الطريق، خاصة التى تركها بداخلنا جدودنا الذين فارقوا دنيانا، كفنانين رسموا بأعماقنا أجمل اللوحات التى لا يستطيع الزمن العبث بها مهما تغيرت الأحداث.. خاصة ذكرياتى مع جدى الذى عرفته إنسانًا وشاعرًا حساسًا، ويرى البعض أننى ورثت منه بعض الصفات، فأشعر بالسعادة والفخر وأنا أتذكر وجهه بكل بوضوح. الوجه الذى كان دائمًا يمثل لى الملجأ والأمان الذى ألوذ بالفرار إليه عندما تضيق بى دنيتى الصغيرة، فينظر فى عينى ويكرر كلماتى بابتسامة متعجبًا من إحساسى هذا كولد صغير، أفتقده اليوم أكثر لأحكى له كل ما أمر به من اختبارات الحياة كشاب فى مقتبل العمر. لا تنحنِ أفتقد جدى الذى لم أشعر معه يومًا بفارق السنوات التى بيننا، أفتقده كصديق يسير معى فى وسط غابة لا رحمة فيها أو أمان، كمرشد وقائد ظننت دائما أنهُ كان مصنوعًا من مادة أخرى على العكس من كل البشر، فلم تكن للأزمات القدرة على العبث به مثل ما كانت تفعل بباقى البشر الذين حولى، فكنت أنتبه كيف يواجه مشاكله، ومثل الجبل الصامد لا ينحنى ولا يتعب فيخيل إلىّ أنه كالسفينة الكبيرة التى لا تستطيع الريح أن تكسرها أو تهز أضلاعها. لا زلت أتذكر وجهه يوم علم بأنه أصيب بمرض قاتل وأصبح الأمر مجرد بعض الوقت يفصل بينه وبين الموت... لم يبكِ، ولم يرتجف... بل حرفيًا لم يتحرك لهُ ساكن وظل صامدًا كعادته، وظللت أنا الصغير أتساءل: كيف ومن أين حصل على تلك القوة والثبات الجميل؟. لا تخف ما زلت أتذكر ضحكته الصافية التى لا بد أن يكون منبعها ذلك القلب النقى وليس سواه، عندما كان يحتضننى كنت أشعر أننى مُحصن ضد الأذى، فلا يمكن لأى ضرر أومخاوف أن تلحق بى، لا زلت أتذكر صوته وأسلوبه وهو ينصحنى كيف أواجه الأزمات بثبات قائلا: أوعى تخاف! دونما ينسى بحنكته أن يخبرنى ضرورة الانحناء وقت هبوب الريح حتى لا تكسرنى شدتها، فهكذا أصبح رجلا شديد البأس، أعرف متى أتكلم ومتى أصمت! وهكذا لا يمكن لأحد ولا للظروف أن تهزمنى حتى لو فشلت مرة أو مائة مرة!. علمنى جدى أنه ليس هناك مانع من البكاء بين الحين والآخر، بينى وبين ربى، فالرجال ليسوا محصنين دائمًا ضد الألم، بشرط ألا أسمح لأحد أن يرى دموعى، ولا تفارق ذهنى مقولته (يا ولدى ليشاءوا ما يشاءون فالأمر فى النهاية فى يد الخالق)! علمنى أيضًا أنه من علامات الفرج القريب ازدياد الكرب، وأنه لا طعم للفرح إلا وقد أتى بعد حزن عظيم.. فأصبحت كلماته هذه قوانين حياتى وقارب النجاة فى وقت الألم. ذات يوم سمعته يتحدث عن معيار الاقتراب من الناس، فقال: مُصطنع الود تفضحه الشدائد، وأنه ليس من الغريب أن تأتى الخيانة من حيث لا نتوقع، كلمات سمعتها وحفظتها فحفظتنى من الوجع، ممتن أنا لجدى الحبيب، الذى أكثر ما أشكره عليه هو أنه علمنى ألا أخشى أحدًا، فأنا لى رب عظيم يهتم بى، ويدبر لى أمورى حتى تلك التى تبدو مستحيلة، وأيضًا علمنى أن نظرة واحدة للسماء مع دعوة صادقة من القلب خير من ألف كلمة من فم منافق. لا تكره كانت حواراته مع أبى تدور حول طبائع الناس، وكيف أن أسوأهم هو البارع فى إخفاء عيوبه عن عيون الخلق.. خلف وجه ملائكى، وأن من لا يصون العشرة يستحق الرثاء! وأن الكراهية والحقد قوتا لا تدمران إلا صاحبها. الكلمات لا تساعدنى كثيرًا لحصر الدروس التى تعلمتها من جدى الذى علمنى بالقدوة أكثر مما علمنى بالوعظ عن أمور الحياة، فشكرًا لله الذى منحنى الوقت فى طفولتى لأكون بجواره وأتمتع بدفء وجوده، فلا عجب حينما يزورنى فى أحلامى ليخبرنى نصيحة أو يمنحنى الطمأنينة التى أحتاجها، ثم يعود من حيث أتى.. رحم الله روحه الطاهرة، ويكفينى شرفًا أننى أحمل اسمه فوق اسمى.. وقد أقسمت يوم موته بأننى سأعمل كل وسعى لأجعله فخورًا بى.