وها أنت يا صبرى موسى تضع بصماتك العميقة على جبل الكتابة المقدس، ونتبعك حتى الأعالى، هناك حيث ترفع الكتابة سبيكة الذهب، وتنقش أعمالك من فوقها فنتحلق حولها، وهى تشع نورًا، وها أنت تحمل فى كفيك أسئلة الوجود الإنسانى باقة زهر، وتقدمها لنا فى الأعالى. ويسعد معنا أبطالك، وقد اكتشفوا ذواتهم بين سطورك، وخفاياهم فى هذا البنيان الروائى الشامخ الذى كنت تعنى ببنائه، وتصميمه، وتقيم فى كل بنية فيه بفنك الوافر، وأسلوبك الساحر المجدد. أسئلة الوجود الإنساني فهل كان جبل «الدرهيب» فى روايتك «فساد الأمكنة» محاولة صوفية للوصول إلى حقيقة الإنسان وطبائعه الأولى. هل كان هذا الجبل بداية رحلتك فى الصحراء الشرقية لاكتشاف عبقرية المكان، أم كان بداية اكتشاف الرغبة الإنسانية فى الانتماء؟ لا تتجلى الإجابة إلا فى الأعالى، تضوى سبيكة الذهب فى روايتك «فيأتلق العشق».. عشق الوطن الذى نحبه بالفطرة.. بالغريزة، يفر بطلك «نيكولا» إلى معايشة جبل يحبه حين يهرب من «فساد الأمكنة» فيحن إلى الصحراء ففى رمالها يتطهر، ويكتشف أسرار أجداده الذين خلدهم الغياب فى رمالها. .. هل كانت صدفة أن يكتشف صبرى موسى فى إحدى رحلاته الصحفية إلى الصحراء الشرقية وجود ضريح الصوفى أبو الحسن الشاذلى المدفون فى قلب الصحراء عند «عيذاب» فيتعلق كاتبنا بكلمات الشاذلى عن النفس الإنسانية وما يعتريها من رغاب، واضطراب، وشهوات، وحنين إلى المثال فيكتب صبرى موسى رائعته روايته «فساد الأمكنة»، والتى تعد باكورة أدب الصحراء فى الأدب العربى، والتى نشرها منجمة على صفحات مجلة «صباح الخير». هل شكلت كلمات أبى الحسن الشاذلى والتواصل مع روح الأجداد، والبحث عن المثال البناية الأولى فى معمار هذه الرواية الفريدة حين يقول الشاذلى: «أتريد أن تجاهد نفسك وأنت تغريها بالشهوات حتى تغلبك ألا فقد جهلت، فالقلب شجرة تُسقى بماء الطاعة، فلا تكن كالعليل يقول: لا أتداوى حتى أجد الشفاء فيقال له: لا تجد الشفاء حتى تتداوى بالجهاد، وليس معه حلاوة إلا رؤوس الأسنة فجاهد نفسك هذا هو الجهاد الأكبر». فنصعد جبل الكتابة المقدس مع بطله «نيكولا» حيث الجد الأكبر «كوكا لوانكا» الذى تمسك بالجبل رمزًا للانتماء والرسوخ فبات حجرًا أساسيًا فيه، ولبنة حقيقية تنتمى إليه فتحول الجد بعد وفاته بالفعل إلى حجر مقدس فى الجبل. غدًا التمسك بالأرض وبالوطن والهوية علامة بارزة فى أدب صبرى موسى. وما كان لإيليا أن يذهب فى إثر جده «كوكا لوانكا» إلا لأنه يريد لقلبه أن ينهل من منابع الإيمان الأولى، الإيمان بالوطن، وبالإنسان، وبالطبيعة الأم.. الإيمان بالحياة. أو كما يقول صبرى موسى فى روايته تلك: «يقولون أن الله عندما خلق آدم مثَّل الدنيا بقعة «بقعة» ليراها فلما رأى مصر رأى جبل «علبة» مكسوًا بالنور، وكان جبلاً أبيض فناداه بالجبل المرحوم ودعا لأرضه بالخصب والبركة.. أيداخلهم الشك فى أن آدم القديم ليس سوى جدهم الأكبر «كوكا لوانكا».. لقد كان هذا اعتقاد قبائل البجاة، وعقيدة أهل الصحراء الشرقية حتى أنهم- فى هذه الرواية- يرفعون سبيكة الذهب على صخرة ويتحلقون حولها، حينما تمسهم الشدائد وعظائم الأمور، وكأنهم يشهدون جدهم على أن أحفاده مازالوا يملكون السلطان على الصحراء وجبالها، ويملكون التحكم فى ظروفهم وحل مشكلاتهم.. وها نحن نتحلق حول كتابة صبرى موسي- سبيكة الذهب فنقرأ عن رحلاته إلى البحيرات المصرية، ورحلته إلى الصحراء الغربية والواحات حيث رحلة اكتشاف الأمكنة تمثل جزءًا مهمًا من عالم كاتبنا الأدبى الذى كان كاتبًا روائيًا، وصحفيًا، وسينارست وجغرافيًا عاشقًا للمكان بكل تجلياته فتوالت أعماله الأدبية وقد بدأها بمجموعته القصصية «القميص» عام 1958، و«وجهًا لظهر» 1970، و«حكايات صبرى موسي» 1963، و«مشروع قتل جارة» 1971، و«السيدة التى والرجل الذى لم» عام 1999، ورواياته «حادث النصف متر» 1962، و«فساد الأمكنة» 1973، و«السيد من حقل السبانخ» 1982. تجربة إبداعية ثرية لقد كانت سبيكته الذهبية مطعمة بخلاصة تجربته الإبداعية، والحياتية، والتى أخصبها بألوان متنوعة من الكتابة فكتب سيناريو أفلام مهمة مثل فيلم «البوسطجي» عن قصة ليحيى حقى كما كتب سيناريو فيلم «قنديل أم هاشم» عن رواية يحيى حقى أيضًا، وسيناريو فيلم «الشيماء» عن قصة لعلى أحمد باكثير، كما كتب سيناريو لفيلم عن روايته «حادث النصف متر» والتى كانت من باكورة أعماله الروائية.. وكان هذا كله من عناصر السبيكة الذهبية التى تشكلت من مزيج ساحر من فنون أدب الرحلة، والقصة القصيرة، والسرد والكتابات الصحفية، والسيناريوهات السينمائية واللغة الشاعرة.. وهانحن نقف أمام كتابات صبرى موسى متحلقين أمام سبيكة الذهب على جبل الكتابة المقدس. .. وداعًا فقيدنا الغالى وكاتبنا الفريد.•