يشكل صبري موسى أحد أهم المبدعين المصريين في "ثقافة المكان"، بقدر ما تميز هذا المثقف الكبير الذي سيبقى طويلا في الذاكرة الثقافية المصرية والعربية "بتعدد المسارات الإبداعية". ووسط حالة من الحزن ، سادت الجماعة الثقافية المصرية، تتوالى التعليقات في الصحافة ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي عبر الشبكة العنكبوتية حول إبداعات هذا المثقف المصري الكبير الذي قضى أمس الأول "الخميس" عن عمر يناهز ال 86 عاما. والإطلالة على عالم صبري موسى في رحلته الثقافية المديدة تكشف عن "تعدد مساراته الإبداعية" ما بين الرواية والقصة القصيرة والسيناريو السينمائي فضلا عن أدب الرحلات ومقالات وطروحات صحفية ذات مضمون ثقافي عميق. وفي إبداعاته كقاص وروائي لم يجفل صبري موسى من الاقدام على مغامرات التجريب دون تفريط في الجماليات مع الاتكاء على قاعدة معرفية راسخة وقدرة على التوغل عند الجذور ثم التحليق برؤى كاشفة للواقع. وبدايات المسيرة الابداعية لصبري موسى ترجع الى مطلع خمسينيات القرن العشرين عندما نشر عدة قصص قصيرة في مجلات ثقافية حينئذ مثل "الرسالة الجديدة" فيما بدأت رحلته الصحفية في جريدة الجمهورية ثم انتقل لمؤسسة روز اليوسف وافسحت مجلة صباح الخير صفحاتها لكتاباته وابداعاته. وثمة اتفاق عام بين النقاد على ان رواية "فساد الأمكنة" تشكل درة التاج في ابداعات صبري موسى وهي الرواية التي تعد "فتحا في الكتابة الابداعية العربية عن عالم الصحراء" وصدرت طبعتها الأولى في كتاب عام 1973 بعد نشرها في حلقات مسلسلة بمجلة صباح الخير وفازت بجائزة الدولة التشجيعية في العام التالي بينما ولدت فكرتها عندما قام هذا المبدع المصري بزيارة في عام 1963 لجبل "الدرهيب" بالصحراء الشرقية. وهذه المنطقة الجنوبية في الصحراء الشرقية تضم ايضا عند بلدة "عيذاب" ضريح القطب الصوفي ابو الحسن الشاذلي فيما لم تخل رواية "فساد الأمكنة" بأزمنتها المتعددة من مؤثرات صوفية تجلت في شخصية نيكولا بطل الرواية الهارب من صخب المدن باحثا عن ذاته في صمت و جلال الصحراء والجبال. وفي هذه الرواية لصبري موسى باجوائها الأسطورية يجد القاريء نفسه ضمن اساطيرها مع "عبد ربه كريشاب وعروس البحر التي خطفت اخاه وابن عمه وابن خاله" ويستمع لقسمه بأخذ الثأر من "عروس البحر التي تصنع احبولتها من ماء ونار ودخان". وللقاريء ان يتمعن في كثير من التعبيرات والعبارات الدالة في "فساد الأمكنة" ورؤيته للمدينة والصحراء مثل قول صبري موسى :"ان مئات الخطايا الصغيرة التي نرتكبها بسهولة ويسر في المدينة ضد انفسنا وضد الآخرين تتراكم على قلوبنا وعقولنا ثم تتكثف ضبابا يغشى عيوننا واقدامنا فنتخبط في الحياة كالوحوش العمياء". ويضيف هذا المبدع الكبير :"فالمدينة زحام والزحام فوضى وتنافس وهمجية ولكنهم في الصحراء قلة والخطايا الصغيرة تصبح واضحة تطارد من يرتكبها ويصبح ضبابها على النفس أشد كثافة وثقلا" موضحا أن "دروب الحياة في الصحراء الى بصيرة صافية نفاذة لتجنب اخطارها". ومن الطبيعي أن تثير رواية كبيرة "كفساد الأمكنة" الكثير من الجدل والآراء المتنوعة سواء على مستوى النقاد أو القراء وأن يبحث فيها كل قاريء عن المعنى الذي يروق له وهو مايحدث عادة مع الأعمال الابداعية الهامة . وإذا كان الكثير من الجدل قد دار حول مصير "حسنين" في رواية "بداية ونهاية" للأديب النوبلي المصري نجيب محفوظ فقد تتجدد الدهشة والجدل النقدي مع ماذهب اليه الكاتب والروائي سعيد نوح في معرض تناول نقدي لرواية "فساد الأمكنة" للروائي الكبير صبري موسى حيث رأى خلافا لكل الآراء ان "نيكولا" بطل الرواية القادم من القوقاز لم يقتل ابنته "ايليا" حتى وان صرح المؤلف بذلك في بداية هذا العمل الروائي الكبير ونهايته !. وهكذا وخلافا لظاهر ما كتبه صبري موسى في رائعته "فساد الأمكنة" يتمسك سعيد نوح بأن "ايليا لم تمت" ويقول :"في الحقيقة ان المدقق لشخصية الابنة يتأكد له انها لم تمت وان كان الكاتب قد صرح بذلك في بداية العمل ونهايته" مضيفا في تناوله النقدي للرواية الكبيرة التي يشمخ فيها جبل الدرهيب :"واظن ان هناك علامات كثيرة تقول انها قد تركت ذلك الجبل لتنتقل الى بقية الصحراء مع حبيبها الجديد" !. وصاحب رواية "السيد من حقل السبانخ" درس الرسم والتصوير في كلية الفنون التطبيقية بجامعة القاهرة وجد نفسه مشدودا للعمل في الصحافة بعد اشهر قليلة من عمله كمدرس فيما صدرت اول مجموعة قصصية له عام 1958 بعنوان "القميص" وجاءت اخر مجموعة قصصية له بالعنوان الطريف والمثير للتأمل :"السيدة التي والرجل الذي لم". ومن يتأمل اعمال المبدع المصري صبري موسى ابن محافظة دمياط سيلحظ دون عناء شغفا بالبحر والبحيرات في عديد من مجموعاته القصصية ورواياته وكتبه حتى في رائعة "فساد الأمكنة" حيث تلتقط الرواية روح الوجود العصية في تراسلاتها مابين الانسان والجبل والصحراء والبحر. وقرر نادي الأدب في قصر الثقافة بمحافظة دمياط تنظيم احتفالية لتأبين هذا المبدع الكبير الذي ولد في دمياط عام 1932 فيما انجبت هذه المحافظة قامات ثقافية وابداعية اخرى مثل الدكتورة عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" والأديب طاهر ابو فاشا والشاعر والاذاعي الراحل فاروق شوشة. واذ اصدر كتابا بعنوان "في البحيرات" عام 1965 فان صبري موسى كان قد اصدر قبل ذلك بعام كتابا بعنوان :"في الصحراء" فيما تعد سنوات الستينيات اخصب عقوده الابداعية وشهدت اعمالا قصصية مثل :"لااحد يعلم" و"مشروع قتل جارة" و"حكايات صبري موسى". ولأنه "مثقف ومبدع متعدد المسارات" فقد انخرط في كتابة السيناريوهات السينمائية سواء كمعالجات لقصص وروايات له مثل "حادث النصف متر" و"رحلة داخل امرأة" او لقصص وابداعات بأقلام ادباء اخرين مثل "الشيماء" لعلي احمد باكثير و"الأسوار" لعبد الرحمن الربيعي وحبيبي اصغر مني" لاحسان عبد القدوس و"قاهر الظلام" عن السيرة الذاتية لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين التي صدرت بعنوان "الأيام" ، ناهيك عن سيناريو وحوار الفيلم الشهير "البوسطجي" المأخوذ عن قصة للكاتب الكبير يحي حقي ، وكذلك سيناريو فيلم "قنديل ام هاشم" للكاتب ذاته الذي قضى في التاسع من ديسمبر عام 1992. ورغم ان صبري موسى تميز بالزهد والترفع والنأي بنفسه عما يسمى "بالشلل الأدبية" فقد ابدى في مقابلات صحفية منشورة نوعا من الضيق الظاهر حيال نتائج جوائز الدولة " فيما لم يخف شعوره بأحقيته في الفوز "بجائزة النيل" وهو الذي توج بجائزة الدولة التقديرية في عام 2003. ومن وجهة نظر مثقف مصري كبير مثل صبري موسى الذي شغل لفترة منصب مقرر لجنة القصة في المجلس الأعلى للثقافة وترجمت اعماله لعدة لغات فان "مقياس الجودة والاستحقاق يمنحه القاريء للكاتب" وليس على حد قوله "موظفي اللجنة التي تمنح جوائز الدولة" مضيفا ان "الطريقة التي يتم بها الاختيار تشوبها أخطاء في الأداء يجب التفكير في تغييرها". وأردف صاحب رواية "حادث النصف متر" قائلا "اجزم ان هناك اعضاء لايعرفون شيئا عن الكاتب الذي سيصوتون عليه ولكنهم بحكم وظائفهم اعضاء في اللجنة ومن ثم ينبغي ان نفكر في التغيير". ولعل الجائزة الكبرى والحقيقية التي يتوج بها صبري موسى الآن هي خلوده في الذاكرة الثقافية المصرية والعربية..هو ذا تاريخنا الثقافي شاهد على ابداعك وصبرك النبيل..هو ذا المعنى باق والصوت واثق وان غاب الجسد..فسلام على راوي الصحراء والماء والبشر والأماني التي تفترش الغسق الطالع في الأهداب المصرية الطيبة.