فى أوائل ثمانينيات القرن العشرين ظهرت صورة بالحجم الكبير على الصفحة الأخيرة لجريدة يومية، ثلاثة رجال يرتدون الجلاليب ويطيلون لحاهم فى إعلان كبير عن مشروعهم فى إنشاء شركات لتوظيف الأموال، مع الشرح الوافى بالإغراء للذين يودعون أموالهم عندهم بالأرباح المجزية التى يحصلون عليها من توظيفها.. كما ظهرت إعلاناتهم على شاشة تليفزيون الدولة لمزارع أبقار.. ومصانع لأشياء كثيرة.. يعنى أموال الذين يريدون توظيفها فى أمان والربح وافر بإذن الله. • هَلّتْ ليالى حلوة.. اندفع آلاف المصريين لتوظيف أموالهم فى تلك الشركات من مختلف فئات المجتمع الذين يملكون عدة مئات أو آلاف من الجنيهات.. وهم ينشدون بكلمات أغنية.. «هلّت ليالى حلوة وغنية» بدلا من كلمة «هنية»!!.. وقد تحقق الربح من توظيف أموالهم بعد عدة أشهر فازداد عدد المودعين لتوظيف أموالهم.. وذاع صيت تلك الشركات لسنوات قليلة ثم حدثت المشكلة.. بدأ التسويف فى دفع الأرباح للمودعين.. ثم قلّت قيمة الأرباح.. ثم توقفت.. وذهب المودعون لأموالهم إلى تلك الشركات يطالبون بأرباحهم المتأخرة.. أو.. لرد نقودهم.. وكان الاعتذار لتعثر الشركات لأسباب خارجة عن إرادتهم!!.. وسلموا للمودعين بدلا من الأرباح المالية أصنافا من المأكولات المُعلّبة.. أو.. فى أكياس.. مثل المكرونة وما شابهها!!.. كانت حكايات محزنة للمودعين أموالهم.. وحكايات طريفة.. من شدة الغيظ!! قرأناها.. سمعناها.. تذكرت حكاية من تلك الحكايات وقد رصدتها ذلك الوقت.. ألحّت عليّ بشدة عندما قرأت أن حكاية توظيف الأموال عادت لمجتمعنا فى القرن الواحد والعشرين!! • أموالى يا حرامية.. كان مئات المصريين فى شبه مظاهرة غاضبة متجمهرين أمام شركة كبيرة لتوظيف الأموال مطالبين صاحبها برد أموالهم بعد أن امتنع عن دفع أرباحها.. وبعد أن تأكدوا من إفلاس الشركة بسبب لعب صاحبهم بأموالهم فى «البورصات» الداخلية والخارجية أو تهريبها للخارج. كان ضمن هؤلاء المتجمهرين المهندس «ص» وزوجه.. وكما يحدث فى الأفلام السينمائية عندما تلتقى نظرات البطل بالبطلة وسط جمع من الناس بعد فراق طويل.. فتخفت كل الأصوات فلا يسمعان سوى صوتهما.. وتبهت كل الوجوه فلا يظهر سوى وجهيهما. هكذا حدث للزوجين عندما التقت نظراتهما وسط هذا الجمع.. لم يسمع المهندس «ص» سوى صوت زوجته وهى تصيح «أموالى يا حرامية».. ولم تسمع الزوجة سوى صوت زوجها وهو يصيح «شقا عمرى يا أولاد الأبالسة».. اخترق الزوج جموع الناس وذهب إلى زوجته وسألها بدهشة «أنت؟!»، وردت عليه «و.. أنت؟!»، لم يكن لقاؤهما بعد فراق طويل فهما يعيشان معا.. ولم يتجدد حبهما بتلك النظرة التى تبادلاها.. بل كانت لاكتشافها أن كلا منهما لديه أموال أخفاها عن الآخر وقد افتضح أمرهما فى تلك المأساة المالية. سحب الزوج زوجته وخرج بها من المكان حيث ترك سيارته.. وجلست بجواره صامتة.. سألها: أين تريدين أن تذهبى.. قالت إلى المأذون لنفترق.. قال: ليس قبل أن نتحدث.. قالت غاضبة: إنه لم يعد بيننا حديث.. فسألها غاضبا: وهل كان يوجد بيننا من عدة سنوات؟! ساد الصمت بينهما ربما شعر كل منهما بالخجل من نفسه.. وربما وجد كل منهما الأعذار لتصرفه.. فقد أجل المهندس زواجه من حبيبته - خطيبته ليسافر إلى «العراق» مع شركة تعمير لبناء مدينة جديدة أثناء تلك الحرب التى كانت مع إيران.. وأغراه المبلغ الكبير الذى سيتقاضاه حتى يستطيع أن يشترى شقة جديدة لزواجه.. وقد عاد بعد ثلاث سنوات وحكى لخطيبته عن قصة ضرب المدينة السكنية التى كانوا يبنونها أثناء الحرب، وإصابة المكان الذى كان يسكنه وكيف نجا بأعجوبة وضاعت ملابسه ونقوده تحت الأنقاض.. وعليهما أن يعيشا فى الشقة المتواضعة التى كان يسكن فيها بعد وفاة والديه. لم يكن المهندس الشاب دقيقا فى حكايته.. حقيقة المدينة الجديدة ضربت وتهدمت بعض المنازل الجديدة، لكن المكان الذى كان يعيش فيه لم يصب وأمواله لم تضع.. وكان قد سمع من زملائه وقرأ إعلانات عن شركات توظيف الأموال التى ظهرت فى وطنه والأرباح الكبيرة للمودعين.. وقرر أن يؤجل موضوع الشقة الجديدة ويوظف الأموال التى كسبها عدة سنوات إلى أن «تبيض وتفقس» فيشترى الشقة الجديدة ويبقى معه فائض كثير.. ينعم به ويغير سيارته القديمة!!.. وهكذا وضع أمواله فى الشركة الكبيرة. أما الزوجة فقد باعت مع أخيها منزلا قديما كان ملكا لوالدهما.. فى ذلك الزمن كان خطيبها مسافرا وكان إغراء شركات توظيف الأموال ملتهبا فى عقول الناس.. وخافت ألا يعود خطيبها.. أو يفشل زواجهما فقد قلّت خطاباته بعد السنة الثانية من سفره.. فذهبت إلى نفس الشركة الكبيرة ووضعت نصيبها من بيع المنزل تأمينا لمستقبلها.. فهى موظفة ولن تحصل على مبلغ كهذا طوال حياتها. تم زواج هذين الاثنين وكل منهما يخفى عن الآخر سرا حيويا.. وكان ذلك سبب خافيا لابتعادهما عن بعضهما نفسيا وجسديا.. فقد عاشا معا ثلاث سنوات ولم ينجبا.. وكانت إجابات الأطباء واحدة.. لا يوجد بهما عيب يمنع الإنجاب.. وينصحون بتناول فيتامينات معينة.. ومزاولة الرياضة!!.. ولا بد أن المسألة بينهما نفسية.. فقد كانت ساعات الصمت بينهما أكثر من لحظات الكلام.. خصوصا عندما امتنعت عنهما أرباح أموالهما.. ولما تأكدا من إفلاس الشركة زاد القلق من همومهما وأصبح لا يطيق كل منهما الآخر.. إلى أن ظهر سرهما فى ذلك التجمهر أمام شركة توظيف الأموال. فى بيتهما تبادلا الاتهامات.. وبعد أن هدآ قليلا تبادلا العتاب.. وخسارة أن يضيع حبهما القديم.. فالمال يأتى ويضيع.. أما الحب المتبادل من الصعب أن يجداه.. ولما انتهت تلك المواجهة الفريدة فى حياتهما اقترح الزوج أن يسافر إلى شاطئ بحر فى إجازة أسبوع من عملهما ليغسلا همومهما وليبدأ صفحة جديدة فى الحياة.. وافقت الزوجة على السفر بعد أن كانت مصرّة على الذهاب إلى المأذون! وهناك على شاطئ البحر تخففا من همومهما كما تخففا من ملابسهما ولأول مرة فى حياتهما الزوجية يشعران أنهما متقاربان.. وياللعجب.. بعد شهر من رحلتهما هنأهما الطبيب أنهما سينجبان!.. وسألهما عن تجربتهما ليكتبها فى أبحاثه.. تبادل الزوجان الابتسامة.. وقال الزوج.. إنهما ضيعا أموالهما فى حكاية توظيف الأموال.. ابتسم الطبيب ردا على ابتسامتهما.. لكن لم يفهم ماذا يقصدان! كان الحب الحقيقى فى ذلك الزمن ينتصر وكان التسامح بين الناس منتشرا وكان الإخلاص والجدية فى العمل يعوضان ما يضيعه الفرد من مال.. ومهما كانت متاعب الناس فى أمر من أمور الحياة كانوا يتحملونها فحياتهم كان يكفلها الأمان. •