ملخص ما نشر «سلطان» فى غيبوبة يتخاطر مع «جنات».. عن حبه لها وعذابها مع تعدد علاقاته، مع أنها حبه الوحيد، لكن مشكلتها ومشكلته هى أنه أحب ممارسة الحب ولم يحب الإقدام على الزواج. ويحدثها عن «ماشالله» التى تكبره بضعف عمره، ويعتبرها تعويذة نجاحه كفنان، فهى التى أكدت له موهبته واحتضنته ورعته ووجد أنه خلال مشروع فنى اتفقا عليه وكانت ملهمته فيه، كان يتعلم رسم جسدها العارى فأصبح يتذوق هذا الجسد.. «ماشالله» لا تريد منه شيئا سوى المؤانسة بعد أن طلقها زوجها الذى رفض مهنتها العارية. وتركها مع ابنتهما الوحيدة «لحظة» التى تفاجئ أمها فى أحضان «سلطان». «3» «ماشالله» يارب.. أنقذ هذا الإنسان الفنان، ارفع عنه غضبك، وأعد له حياته. يارب.. سامحه وسامحني، خطايانا كبيرة، لكن ضعفنا أكبر. يارب.. خذنى أنا إلى الغيبوبة، ودعه هو يواصل طريقه. بكيت كثيرا.. كما لم أبك من قبل، عندما رأيت «سلطان» فى الغيبوبة. هو بالنسبة لى ملاكى الحارس، وسبب استمرارى فى الحياة، شقيق روحي، وسلطان زماني، هو الابن الذى لم أنجبه، والرجل الذى أحتاجه. هو الأمل والرجاء، فى زمن خاب فيه كل أمل وكل رجاء. عندما شاهدته لأول مرة وهو يضع لمسات فرشاته على اللوحة، أحسست أنه ملاك، تجسّد فى صورة فتى.. تلميذ جديد فى كلية الفنون. وبدون أن أدري، كنت أتتبع لمساته وأرصد حركته وكلامه وسكوته و.. اختلطت مشاعرى تجاهه، سعيدة به كفنان، كوردة تتفتح، ومفتونة به كشاب فتيّ عفيّ، جّذاب ورجولى الهيئة، اشتهيته. ولاحظت شبها بين ملامحه وملامح تمثال نصفى من الجبس بالحجم الطبيعي، وفتننى أكثر.. سألت عن التمثال- وهو واحد من عشرات التماثيل الموجودة بالكلية كوسائل تعليمية يرسمها الطلبة والطالبات، ونسمّيها نحن «موديل جبس» - قالوا لى إنه نصف تمثال شهير من أهم أعمال «مايكل أنجلو» فنان عصر النهضة الإيطالى العظيم. هو «تمثال داوود». وفى مكتبة الكلية شاهدت مع أحد المعيدين صورة ملوّنة للتمثال العارى وقال لى إنه منحوت فى قطعة رخام واحدة بارتفاع 6 أمتار.. وأن وزنه 6 أطنان.. وكنت أقول ل«سلطان»: = أنت «داوود»! فلا يفهمنى. أقول له: = اذهب وابحث عن تمثال «داوود». عندما وعدته بأننى سأعمل كل ما يمكن لتشجيعه على إثبات موهبته، فرح، لكننى كنت أشعر أنه لا يفهمنى. ذات يوم طلبت منه أن يأتى لزيارتى فى بيتى لأريه أشياء قد تفيده فى دراسته. وعندما جاء معى إلى «الغورية» كشفت له عن كنوزى. وتعاهدنا على مشروع يحقّق به أول خطوة عملية لدخول عالم الفن. فاكر يا «سلطان»؟.. كنت فى عزّ شبابك، وأنا كنت فى عزّ شوقى إليك. محرومة من حقوقى كامرأة، وهل تكون المرأة مرأة، من غير رجل؟ لم أكن أبحث عن زوج، كنت أكره الزواج والأزواج. كل ما أريده هو رجل حقيقي، يسعدنى وجوده حولى ومعى وداخلى. يرحم أشواقى وينعش حواسى ويجعلنى أشعر أننى إنسانة ولست مجرد «موديل عارٍ». مهنتى هذه عجيبة. عمرى ما تخيلت أبدا أن تكون هناك مهنة على هذه الصورة، لكن مجرى حياتى دفعنى لأجد نفسى أعمل بها.. والحكاية طويلة.. حكيتها لك كثيرا يا «سلطان».. وأحكيها لك الآن، فربّما تساعد حكاياتى فى استعادتك من بئر الغيبوبة. كانت أختى «بهانة» أول من خرج من نساء قريتنا، إلى «مصر».. تزوّجت من بوسطجي، يعمل فى «القاهرة»، لكنه مات فجأة. فذهبت لأعيش معها، هربا من القرية.. لكن القرية جاءت ورائى.. تقدّم لى الرجل الذى أصبح فيما بعد، زوجى. وعشنا مع «بهانة» وكان أجره من عمله يكفينا. لكن أختى لم تقبل أن تكون عالة علينا.. بحثت عن عمل، فوجدت شغلانة فى كلية الفنون الجميلة، فى «الزمالك»، تقوم بأعمال النظافة فى المراسم «الأتيليهات» والفصول الدراسية والمكاتب.. وبعد فترة كانوا يبحثون عن موديل عارية، فتقدّمت «بهانة».. قالت إنها مهنة بلا عمل.. - طول النهار قاعدة، أو واقفة أو حتى نائمة.. وعموما آهى أرحم من تنظيف الحمامات والأتيليهات. والأهم أنها مهنة حرة، يعنى منين ما احب اشتغل اشتغل، أبطّل أبطّل.. على هواى.. فيه أحسن من كده؟! - لكن إزاى توافقى تتعرى.. وأنت فلاحة بنت فلاحين؟ سألتها، وأنا الأصغر منها، مستنكرة، فردّت: - لو كان لى راجل، ماكنتش أوافق.. علشان خاطر كرامته. لكن أكل العيش مر.. وطبعا كانت أختى «بهانة» تخفى مهنتها الجديدة عن العائلة، والكل يعرف أنها عاملة نظافة.. وبعد فترة استطاعت أن تقنعنى بالعمل معها.. ولم يعترض زوجي!.. فلم يكن يعلم أننى سأعمل فى مهنة تتطلب أن أبقى عارية لساعات وساعات، أمام حشد من المراهقين والمراهقات. بعد سنوات اكتشف زوجى الأمر.. لا أعرف بالضبط حتى الآن، من الذى وشى بي، وأخبره. كنت ذات يوم مطلوبة لدرس فى «أتيليه سنة رابعة تصوير» الدفعة التى ستتخرّج فى نهاية العام، وكان عليّ مساعدة الطلبة والطالبات فى مشروع لوحة عن أمنا «حواء»، وعلى كل طالب أو طالبة اختيار الزاوية المناسبة لفكرة لوحته، ومعنى هذا أننى - كما شرح لى رئيس قسم التصوير وهو أستاذ المادة - سأتعرّي، وأقف أمام الدفعة كما ولدتنى أمي، تماما كأمنا «حواء» وحتى من غير ورقة التوت، وبعد ذلك سيكون عليّ أن أتجاوب مع أفكار الطلاب وأقدّم لهم ما يحتاجونه من أوضاع و«بوزات».. فمن يريدنى جالسة أو نائمة أو حتى طائرة فى الهواء- حسب فكرته ولوحته- سألبّى رغبته. وبدأت بالمثول أمام الجميع فى وضع الوقوف، وانهمكوا يضعون خطوط الفحم على لوحاتهم.. ويدقّقون النظر فى جسدي، ويضبطون بعيونهم وأصابعهم السبّابة نسب جسمى إلى نسب اللوحة. عمّ الهدوء المكان بعد فترة، وانشغل كلّ بلوحته، وغاب رئيس القسم خارج الأتيليه، وأنا واقفة عارية تماما.. لم أكن أسمع سوى صوت خافت جدا، لراديو ترانزستور، تحبّ إحدى الطالبات الاستماع إلى الموسيقى والأغانى من خلاله.. ولولا صمت الجميع، وانهماكهم فى لوحاتهم، لما وصل إلى أذني: أعطنى الناى وغنّى فالغنا سرّ الوجود وأنين الناى يبقى بعد أن يفنى الوجود هل أخذت الغاب مثلى منزلا دون القصور فتتبعت السواقى وتسلّقت الصخور هل تحمّمت بعطر وتنشّفت بنور وشربت الفجر خمرا فى كؤوس من أثير هل جلست العصر مثلى بين جفنات العنب والعناقيد تدلّت كثريات الذهب هل فرشت العُشب ليلا وتلحّفت الفضاء زاهدا فى ما سيأتى ناسيا ما قد مضي أعطنى الناى وغنى وأنس داء ودواء إنما الناس سطور كتبت لكن بماء صوت «فيروز» الروحانى أشاع جوا ناعما، يسمح بالسرحان ويفسح المجال للخيال، والهدوء وانهمك الجميع فى لوحاتهم.. انتهت الأغنية، فهمس البعض مطالبين بإعادتها، فلما اعتذرت صاحبة الترانزستور بأنها ليست تسجيلا، وإنما كانت مذاعة صدفة، انطلق صوت هامس يردّد كلمات الأغنية ويغنيها بطريقة «فيروز» الناعمة.. واندمج الجميع فى عملهم، بسعادة وواصلوا الإنصات للأغنية بصوت زميلهم الذى كان يرسم ويغنى برقة وسلاسة.. واندماج. - دى آخرتها يا «ماشالله».. جبتى العار لجوزك ولأهلك، أنا لازم أخلّص عليك حالا، وأمسح عارى منك! عريانه ملط يا «ماشالله»؟! نهايتك على أيدى.. يا «ماشالله» انقلب الحال وأصابت الجميع صدمة المفاجأة، رجل ريفى خشن المظهر والملبس واللكنة، يندفع بتهوّر وعدوانية من باب الأتيليه إلى وسطه حيث أقف، ويهجم عليّ كثور هائج، ويوجّه لى لكمات بقبضتى يديه، ويغطي، معى - فى الوقت ذاته - جسدى العارى. ومع اندفاعه الأهوج حطّم بعض اللوحات ودفع ببعض الطلبة والطالبات بعيدا عن طريقه، فسقط أحدهم أرضا. وتناثرت أشياء وأدوات و«بالتات» وعلب ألوان وزجاجات مشروبات غازية.. وتعالت صرخات الطالبات. وعندما استفاق الجميع من ذهول المفاجأة، بدأ بعضهم، خاصة من يتمتعون بأجسام قوية، يوقفون هذا الثور ويحاصرونه، إلى أن قبضوا عليه. وجاء رئيس القسم، وجاء أساتذة ومعيدون وسعاة وموظفون، وتجمهر طلبة وطالبات من خارج الدفعة ومن خارج القسم. كان هذا الثور الهائج هو زوجى «هلباوي». ولولا حكمة رئيس القسم، وخوفه عليّ وعلى حياتى الزوجية، لانتهى الأمر ب«هلباوى» فى الحبس. وكان يوما لا أنساه ولا تنساه دفعة تصوير 1967. كان يمكننى أن أسمع كلامه وأترك العمل، لو أنه كلّمنى بالعقل، والهداوة، لكن الضرب وتكسير العظام، ومحاولة تشويه وجهي، جعلتنى أصمّم على الطلاق. ومع أنه كان ينوى مصالحتى بشرط أن أعمل بالنظافة وأترك مهنة العار- كما كان يسميها- إلا أن الجرح الذى أصاب كرامتى كان أقوى. ولأننا كنا نعيش مع «بهانة» فى بيتها، فقد كان عليه أن يخرج، وفعلا ترك البيت وترك «مصر» كلها، وعاد إلى القرية. وبقيت معى «لحظة» ابنتنا الوحيدة. «4» «سلطان» هل تشعرين بى الآن يا «ماشالله»؟.. هل تعرفين مكانتك الخاصة عندي؟.. لولاك لما بدأت، من وقت مبكّر أشعر بأهمّيتي، وموهبتى الكبيرة، وأعمل ليل نهار لتطويرها ودعمها بالمعرفة والثقافة والخبرة.. والعمل المتواصل. لولاك لا أعرف ماذا كان سيحدث لي؟.. ربما أصبحت مجرد طالب عادي، وليس أحد الفنانين البارزين الذين تخرّجوا فى الكلية على مدى تاريخها، كما قال أستاذى «حسن الصوفي». لقد حوّلت بيتك إلى مرسم وأتيليه وكلية خاصة بى وحدى. وأصبحت فنانا معروفا على صفحات الصحف وفى أوساط الفن التشكيلي، ولدى النقاد ومحررى الثقافة والفنون بالصحف والمجلات، بعد معرضى الأول الذى كنت أنت بطلة لوحاته كلها. وكنت ملهمتى لفكرته، وكلها لوحات أنجزتها فى بيتك.. فى «الغورية». تحققت لى الشهرة بهذا المعرض، بينما أنا طالب لا أزال، بالسنة الثالثة بالكلية. وهذا لم يحدث أبدأ لأى فنان. وعملت بالصحافة ونشرت لوحاتى على أغلفة مجلة «الوعد» التى يحبّها الناس.. ومنها لوحة لك، وضعت عليها اسمك «ماشالله». وعندما سجّل التليفزيون برنامجا خاصا معى كواحد من الفنانين التشكيليين الجدد، لم أنس الإشارة إليك وإلى الثقة والخبرة التى نقلتها لي، طوال سنوات الدراسة، وحتى الآن. فأنا مدين لك بالكثير..• وإلىالأسبوع القادم.