عندما تدخل من باب كلية الفنون الجميلة بالزمالك تقف فى حيرة، وأنت تنظر فى وجوه الطلبة «18 – 21 عاما»، وتشعر بحجم الورطة.. كيف ستسألهم عن الموديل العارى، وأنت فى زمن التشدد؟ تسأل عن مكتب العميد فتجده قادما بصحبة تلامذته، الدكتور السيد قنديل هو أول عميد منتخب فى تاريخ الكلية. تدخل حجرة مكتبه المزينة باللوحات على اليسار تجد لوحة لرجل يجلس «القرفصاء» تسأله من هذا؟ يخبرك بأنه عبدالوهاب هيكل أول موديل عار فى تاريخ الكلية منذ أن أنشأها الأمير يوسف كمال باسم «مدرسة الفنون الجميلة» فى 1908. «اللوحة مرسومة على نتيجة ميلادية لعام 1958 رسمها الدكتور عبدالعزيز درويش كتأريخ للموديل، وبعدها رسم عبدالوهاب هيكل بكامل ملابسه الريفية منتصف الخمسينيات». تسأله عن سبب اختفاء الموديل العارى من الكلية فيخبرك متأسفا أن الفن قد تغير، والحداثة مالت إلى الاتجاه التجريدى لا التصويرى. لكن لا يمكن نسيان أنها كانت وسيلة تعليمية فى الماضى جاءت مع تأسيس الكلية، واختفت كنتيجة للتغيرات الاجتماعية التى أصابت الشعب المصرى فى عصر الانفتاح، أوائل السبعينيات، فكل شىء وقتها تغير، السياسة والاقتصاد وتبعهما الفن. يستطرد: أنا لست ضد فكرة الموديل كفن، لكننى أيضا لست ضد المجتمع الذى نخدمه بفننا وتصميماتنا فنحن من صمم جداريات مترو الأنفاق. فى قسم التصوير تقابل الدكتور«حسن عبدالفتاح»، استاذ المادة، تسأله نفس السؤال فيخبرك بأنه لايمكن أن تدرّس الآن مواد من شأنها معاداة الأعراف والتقاليد الاجتماعية. تقاطعه: وهل كنتم تعادون المجتمع فى السنوات الماضية قبل اختفاء الموديل العارى فى السبعينيات؟ يجيب: الوعى المجتمعى تغير.. العشوائية فى كل مكان، والتشدد الدينى والأفكار الرجعية تملأ الشوارع، لقد انحدر الذوق العام، وبالتالى لامكان لقيمة الفن والجمال المجرد كما كانت قديما. فى الطريق وهو يصطحبك إلى المرسم لترى تلامذته وهم يرسمون بعضهم كموديل بالتبادل. يخبرك بحادثة صادفته فى روسيا: «ذهبت فى زيارة لإحدى الجامعات هناك، وقابلت أحد الأساتذة وكان يدرس مادة العارى، ويضع مصحفا على مكتبه فى المرسم! اكتشفت أنه مسلم روسى متدين، يرى أن النظرة الشهوانية للجسد خطيئة، أما النظرة الفنية له فهى جوهر الجمال» تدخل المرسم الملىء باللوحات والطالبات اللائى يمارسن مادتهن الدراسية «التصوير». منى طالبة بالفرقة الثانية سألناها: هل تفضلين عودة الموديل العارى للكلية؟ تجيبك بخشوع: لا، عشان حرام. زميلتها بنفس الفرقة: أيهما أسهل لديك فى رسم الجسد: موديل عار أم تمثال؟ فتجيب: «العارى طبعا لكننى لم أرسمه، ولكن أشعر أنه أيسر، فأنا أرسم وجه صديقتى وبكل تأكيد لوأسدلت ستارا على وجهها لن أراه أوأتخيله». تعيد السؤال على طالبة ثالثة غير محجبة؟ تجيب: بالطبع لا لكننا فى مجتمع ولنا عاداتنا الاجتماعية المحافظة. تسأل أخرى: هل الغرب الذى يدرس نفس المادة «التصوير»، ويرسم العارى منحل؟ تجيب: نعم.. الغرب كله منحل!! وما الذى أتى بك إذن إلى الكلية لدراسة مناهج معظمها غربى ومعظم فنانيها غربيون؟ أنا أحب الرسم لا الغرب.. وتكرر «المنحل أخلاقيا»!!. طلبة الفنون الجميلة يرفضون سماع الاسم «الموديل العارى»، وكأنه لم يكن موجودا بالكلية منذ سنوات قبل إلغائه من الدراسة. من عائلة أرستقراطية تعود لمكتب العميد ثانية فيعرفك على ضيفه الجالس أمامه: الدكتور حازم فتح الله العميد السابق للكلية تجلس بصحبته قليلا لتستمع لتاريخ الموديل العارى.. كيف بدأ.. كيف انتهى. فيفصل لك القصة كاملة: الكلية منذ نشأتها عام 1908 أدرجت بها المناهج الغربية «الإيطالية والفرنسية» فى التصوير، ومن ضمنها الموديل العارى.. فرسمه له فلسفة خاصة، لأن جسد المرأة انسيابى، وما به من خطوط لا يمكن تصويرها أو رسمها أوتخيلها إلا بهذا النموذج، ولا يمكن إظهار هذه الانسيابية مع الملابس. ثم يبدأ الدكتور حازم فى تفصيل القصة: «الأخوان عبدالعزيز وعبدالوهاب هيكل كانا عاملى بناء شاركا فى تأسيس مبانى الكلية، ولزيادة دخلهما قررا أن يعملا كموديل، عبدالوهاب هيكل هذا العامل وابنته «أمينة» كانا أول موديل عار هنا فى الكلية منذ نشأتها وُرسما أكثر من مرة كزيادة فى الأرزاق ولذا عمل هو وابنته وابنه. بعدها توالت الموديلز العاريات: رضا وشاهيناز وجليلة فى الأربعينيات، وهناك بستان الموديل العارى فى أواخر الستينيات، والتى تزوجت من أحد الطلاب الذى كان يرسمها عارية. وعطيات وغيرهن. أذكر أن آخر موديل عار هنا بالكلية كانت «نعمات»، وعملت هى وابنتها فى أوائل السبعينيات. * هل كانت شاهيناز الموديل العارى وصديقتها بستان من عائلة أرستقراطية؟ ** نعم شاهيناز كانت تأتى بسيارتها وبكامل أناقتها، وكانت تختار من يرسمها عارية، بينما نعمات كانت امرأة ريفية رسمتها عارية، بل هى من عرضت علىّ فكرة أن أرسمها بدلا من أن آتى بموديل عار، فالمفهوم لم يكن أرستقراطيا فقط. الموديل العارى انتهى انتهى الموديل العارى فى منتصف السبعينيات، حيث بدأ الفكر الرجعى يتوغل، لكن لم تلغ المادة بقرار حكومى أو إدارى. أذكر أن عبدالغنى الساعاتى، موظف استمارات الموديل، الذى كان يكتب الاستمارات هنا لمن يريد أن يعمل «موديل عارى» كان يتوعدهن تارة بالقول وتارة بالفعل والتهديد، وتارة بالموعظة السلفية.. والساعاتى ليس اسم ابيه ولا عائلته بل كانت مهنته الأخرى لتوسيع رزقه. -السيناريست هانى فوزى، مؤلف فيلم «بالألوان الطبيعية»، قال لنا إنه أثناء فترة دراسته بكلية الفنون «79-83» لم تكن ظاهرة التشدد الدينى موجودة، حيث يذكر أن نسبة المحجبات والملتحين لا تتعدى عشرة طلاب وطالبات وقتها. ويضيف فوزى أن الفنان صاحب التوجه المتشدد لن يكون فنانا ولا مبدعا بل «فنان صنايعى» على حد تعبيره. مشربية صلاح عنانى الفنان صلاح عنانى رفض الرسم العارى، حيث قال إن الفكرة جاءت غربية لتناسب شكل المجتمع الأوروبى المتحرر، أما هنا فاستعضنا عنها بتمثال الجبس. أورسم موديل يرتدى ملابسه الطبيعية دون الحاجة للتعرى. وهو يرى أن المجتمع غير مؤهل لتقبل الفكرة من أساسها، فمفهوم الجسد عند الشرق ليس التعرى الذى ليس جوهريا فى الفن.. الفن البعيد عن الإثارة الجسدية يمنحك التأمل فى اللوحة دون أن تأخذك أى مؤثرات جنسية. سألته عن خطوط الجسد التى يرسمها هل تبدو واضحة فى تمثال من الجبس، أوموديل ترتدى كامل ملابسها؟ - نعم الانحناءات والدوائر تظهر بوضوح فى جسد المرأة دون حاجة لتعريتها، بل إن المرأة المصرية التى أرسمها وهى ترتدى «الملاية اللف» أكثر تفاصيل جسدية. أنا ضد فكرة التشدد والوصاية على الفن، وضد فكرة الموديل العارى فى نفس الوقت. بنت الجمالية يقول سليمان: «لا تشكل لوحاتى امتهانا للجسد، بالعكس الموديل دائما فخورة بجسدها ومتباهية به، وأنا أغذى ذلك الشعور، وأغذى تلك الأنوثة من أجل لحظة خالدة فوق اللوحة». سليمان «1928- 2008» المولود لأسرة من الطبقة المتوسطة المثقفة فى حارة طه بك السيوفى بالسكاكينى لا يعبأ بميراثه من الحارة ولا يبالى فى مخالفة أعرافها وتقاليدها، فتمرد عليها حاملا ميراث والديه المثقفين وسيرة أساتذته يحيى حقى وأحمد صبرى، فكان ذا ثورة دائمة على الفن، وكان الأوحد الذى يرسم الموديل عارية حتى بعد إلغائه، ثائرا على التقاليد البالية التى منعته. ولم يبال بتلاشيه من المعارض، وقال: الفن لن ينتهى، والتعرى فريضة جمالية. لذا كان يرسم الموديل عارية ثم يقوم بإلباسها الثوب فوق اللوحة كى لا تمنع لوحاته من العرض أوالمشاركة فى معارض. رسم «سليمان» العديد من الموديلز: صفية، عايدة، أم فوزى، ياسمين، وفتاة الجمالية التى سألته بعد أن خلعت ملابسها: ياأستاذ حسن بيقولوا ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما، أمال ليه الشيطان ما بيجيش؟ فيجيبها سليمان: لأن الفنان عندما يرسم ينسى تماما أنه رجل، بل إن الصورة الشهوانية ليست فنا، فالفن لا يصور إباحية، وإذا اشتهى الفنان الجسد الذى أمامه، يتوقف عن الرسم.