كنت أريد الهرب من الضجيج الصاعق الذى يجعل شعر الرأس يقف دون احتياج إلى الدهان المنتشر بين الشباب ليبدو الإنسان مخضوضا من صورته حين ينظر فى المرآة.. ولم يكن فى قلبى سوى التساؤل: «هل نمى إلى علم مرشد المتأسلمين محمد بديع أن الوحى قد نزل على مدير البنتاجون الأمريكى مبلغا إياه أن الله قد اعتبر محمد مرسى هو خليفته فى الأرض وأن على عموم المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها اعتبار محمد مرسى هو النبى المرسل، وهل هذا كان الدافع وراء قول محمد بديع وهو فى القفص أن الجنرال السيسى قد خان الله ورسوله عندما انحاز مع الجيش لحركة المصريين الرافضين لحكم مرسى فى الثالث من يوليو الماضى»؟. رأيت بعيون الخيال كيف صعد مرسى إلى عرش مصر وهو يسبح فى نهر من عصير الليمون الذى زينه من الشاطئين حملة دولارات الخارجين من السفارة الأمريكية وهم من قالت عنهم كونداليزا رايس: «لقد منحناهم نصف المعونة الأمريكية المخصصة لمصر، وهذا ما سبب الضيق للحكومة المصرية». وطبعا كانت مهمة حملة الدولارات من السفارة الأمريكية هى زراعة الكراهية بين عموم المصريين وبين المؤسسة الوحيدة القادرة على صيانة مصر كدولة وهى مؤسسة الجيش.
صعد مرسى وفرش أيامه بدماء شهداء قتلتهم حماس، الذراع المشتركة بين جماعة الإخوان وإسرائيل، وتفرد بالحكم ومعه الكريه -حقا وصدقا- خيرت الشاطر ولوثت أسماعنا أسماء قتلة سابقين قضوا فترات عقوبتهم ولم يفيقوا إلى حقيقة استغلال الغرب لهم. وقلت لنفسى «روح الضلال هو ما ينطق به محمد بديع ومحمد مرسى وأعوانهم من القتلة المأجورين بأموال «تميم» الذى أفتى القرضاوى برجمه وإقامة الحد عليه لأنه شاذ. ولكن كان القرضاوى يعانى من شذوذ الطمع الطافح فى أن يكون شيخا للأزهر الشريف، والأزهر كان أكرم على نفسه من أن يدنسه هذا المأجور للمخابرات الأمريكية بوساطة قطرية».
وطبعا كلما أوغل تفكيرى فى تتبع كيفية تحويل دين السماء المنزل على أكرم الخلق محمد بن عبد الله إلى قفاز فى يد المخابرات الأمريكية، كلما أوغل التفكير، أجد شعر رأسى الأشيب تماما وقد انتصبت شعيراته كأنها تستغيث استغفارا من هول الكذب باسم الدين. . وهكذا لم يعد هناك مفر من الذهاب إلى محل الطبيب النفسى القادر على أن يعيد لى ترتيب شعرى، مع ترتيب صورتى أمام أى مرآة، فضلا عن تنقية الروح بسماع أغنية ذكريات لأم كلثوم أو رسالة من تحت الماء لعبد الحليم. لم يعد هناك مفر من الذهاب إلى محمود لبيب صاحب صالون تصفيف الشعر وهو من تعرفت عليه فى يوم السادس من أبريل من عام 1971 حين لاحظ أستاذنا لويس جريس أنى دخلت كسكرتير تحرير لصباح الخير أنى مكفهر للغاية، وحين سألنى عن السبب عرف أنى كنت أحجز ميعادا عند محمد المليجى حلاق كبار الصحفيين، لكنه لم يحترم الميعاد وقدم بدلا منى أستاذا من أساتذة أخبار اليوم، فخرجت من المحل زاهدا فى قص شعرى، وهنا أهدانى لويس جريس عنوان محمود لبيب، وتابع لويس جريس قوله: «أنت تفضل قص الشعر بشرط أن تخرج من على كرسى الحلاقة وليس على ملابسك شعرة واحدة، ولا تتسلل بقايا الشعر من ياقة القميص لتضايقك، ولن تجد أفضل من محمود لبيب يفهم بإحساسه العالى كيف يقص الشعر دون إزعاج لك».. وذهبت من فورى إلى محل محمود لبيب لأقول له ما قاله لى لويس جريس، وكان على شخصى الانتظار لمدة نصف ساعة، أخذت أتصفح فيها مجلات الحلاقة الإيطالية والفرنسية والأمريكية، واندهشت من تقدم فن تصفيف الشعر عند الرجال فى عواصم العالم المتقدم. ضحكت لنفسى وأنا أرى صديقى أحمد عكاشة الطبيب النفسى الأشهر وهو يدخل المحل ليجلس قبلى على كرسى الحلاقة، وراقبت محمود لبيب وهو يقص شعر أحمد عكاشة، فرأيته كراقص باليه، وراصد لكل ضربة مقص بحيث تعيد تشكيل الرأس بما يلائم الجمجمة، وقلت لصديقى أحمد عكاشة: «يبدو أن الحلاق صار يقوم بعملية تحسين صورة الإنسان أمام نفسه»، فقال أحمد عكاشة : ولماذا تقول «يبدو» كمقدمة لكلماتك؟ إنه بالفعل يقوم بعملية تحسين صورة الإنسان أمام نفسه، وبعد أن قص أحمد عكاشة شعره، أخذت مكانه لأرقب راقص الباليه محمود لبيب وهو من لا تسمع لمقصه صوتا، يستخدمه فقط حين يقص به شعرة ناتئة هنا أو شاردة هناك. ذكرنى محمود بالنحاتين الكبار الذين يقومون بنحت الوجوه، فرأيته وهو يقيس كل سنتيمتر فى جمجمتى عن طريق أصابعه، ثم يضم إصبعين ليحدد كمية الشعر الذى سيقصه، وقبل أن أقوم من الكرسى وجدت أحد مساعديه يدعونى ليغسل رأسى بعد الحلاقة، ليبدأ محمود جولة أخرى فى تحديد شكل الرأس بالسيشوار، ولما كنت أكره ذلك قلت له: «يكفينى أنى لن أحتاج إلى دش فورى لغسل رأسى وجسمى من الشعر المتسلل عبر ياقة القميص»، واتجهت للخروج لألتقى بعبد الحليم حافظ، لقد جاء زيارة لمحمود كى يدعوه إلى منزله مساء ليقص له شعره، ولما كان هناك بعض من الوقت عند الاثنين محمود وعبد الحليم، لذلك دعاه محمود كى يجلس على كرسى الحلاقة ويبدأ فى قص شعره، وسمعت عبدالحليم يشكو من احتمال ظهور الصلع، فحدد له محمود قلما من أقلام ملونة تستخدمها السيدات لتحديد الحواجب، وقال همسا: عند يوم الحفلة سنستخدم هذا القلم لتلوين فروة الشعر، ولن ترى أثرا لبوادر الصلع.. وفى الطريق إلى خارج المحل رأيت الراحل الجميل يوسف السباعى وهو يسرع الخطى، فقلت له: «إلى أين»؟ قال ضاحكا: «إلى نفس المكان الذى خرجت منه مرتب الشعر .. إلى محل محمود لبيب».
من يرقب محمود لبيب أثناء عمله يمكنه أن يتذكر وصية جوز عمتى لى الذى عشق الحياة بغير حد، فعرف أنه لن يأخذ قرشا من الزراعة دون أن يخدم كل شبر من الأرض بما يحتاجه من سماد ورعاية، ولذلك لم يهتم الحاج شافعى زوج عمتى سوى بإتقان عمله، ناصحا إياى بألا أتعجل أى مكسب مهما عظم، فالمهم هو أن أركز فى العمل. ولما كان محمود لبيب يركز فى فروة الرأس، تجده ينظر إليها وكأنها قطعة الصلصال التى سيعيد تشكيلها بالمقص، وبهدوء وبسرعة موسيقية عالية القيمة.. سألته أن يقص شعر ابنى شريف الذى كان عمره أيامها ثلاثة أشهر وبدا كأصلع لا مفر من البحث عن باروكة له، ضحك محمود وهو يخبرنى أن الشعر الموجود فى رأس الطفل الوليد يحتاج إلى قليل من التهذيب ليأتى الشعر القادم وهو قوى.. وهكذا مضت السنوات سريعا ليصبح شريف هو الإعلامى المشهور الذى ما أن يرى محمود لبيب حتى يقول له «إزيك يا عمى»، فمحمود بالنسبة لى هو فنان شقيق مثل أى فنان ألتقى به أو أكتب عنه.
لا أنسى يوم اتصل بى مكتب الرئيس السادات ليسأل عن عنوان محل محمود لبيب، فأعطيتهم العنوان، وكان ذلك بعد مقالة لى بعنوان «محمود صانع التاج». وكنت أحكى عن فوز هذا الفنان فى مسابقات تصفيف الشعر فى باريس وروما أكبر عاصمتين للموضة فى هذا الكون... وتوالت الأيام لينتقل محمود لبيب من محله الذى كان فى ممر الشواربى إلى محله الكبير فى ميدان أسوان، وأخذت أرقبه هذا الأسبوع وهو يقص شعر حفيدى السابع دون أن تسقط دمعة واحدة، فقلت له: «كيف تقص شعر طفل معجون بعصير الشياطين وهو المدعو أمين ابن ابنتى؟» فابتسم راقص الباليه صاحب المقص الذى لا صوت له «المهم حين أقص شعر الطفل ألا يشعر أن تلك عملية مزعجة.. أنت تعلم أن أهم زبون عندى هو الطفل، لأنه المستقبل».. تركت محمود ليوقع شهادات تقدير لمن شاركوا فى مهرجان السلام الذى عقدته نقابة مصففى الشعر المصرية كنوع من تشجيع سياحة المؤتمرات، وهو الذى يتقدمه هو كرئيس شرف وتشترك فيه أكثر من ثلاثين دولة عربية وأوروبية، وكان على محمود لبيب أن يصل إلى مينا هاوس ليرصد الترتيبات الأخيرة، قال لى عبر التليفون: ألا يتذكر الذين يقتلون الأبرياء أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قال: «ملعون من يهدم بنيان الله»، وبنيان الله هو الجسد الذى يحوى الروح، قلت لمحمود لبيب: هم يزرعون الحزن فى قلوبنا حتى نقتلعهم إلى غير رجعة من حياتنا.
ونظرت إلى المرآة لأجد شعر رأسى وقد وقف من جديد من فرط غيظى ممن يزرعون الخراب بمصر المحروسة.