لم يكن يخطر ببالى ولا بمشاعرى أن يأتى يوم لأكتب عنك وأنت غائبة.. لم أعتد على الرثاء ولا أتحمل فكرة أن أكتب عمن أحب وعادة ما أصاب بالعطل الذهنى والوجدانى كلما كانت العلاقات حميمية، لم أكن أتصور ولو للحظة أن أكتب عنك يا نادين وأنت تحيين حياة أخرى فى عالم آخر، ولهذا لن أكتب عنك.. ولكن سأكتب لك. أشياء كثيرة وأحداث ومشاعر وأفكار كنت أنوى أن أشاركك إياها وكنا فى انتظار تحديد موعد اللقاء الذى تأخر بسبب لعنة الزحام ولعنة الحياة الممتلئة بتفاصيل تشغلنا عن أنفسنا. كنا قد بدأنا الكلام فى موضوعات - أكثرها تخصنى- وانقطع الحديث ولم ينته الكلام بيننا وكنا نقول (لنا قعدة نكمل فيها كلامنا).
عشرة أيام وأنت ترقدين فى (الرعاية اللعينة المركزة) التى لم تكن تمثل رعاية ولا عناية ولا رحمة، تلك الأيام العشرة التى حرمتنى حتى من مناجاتك ولو بصمت.. تلك الأيام التى لا علاقة لها زمنيا ولا وجدانيا بما قبلها ولا بما بعدها.
ما قبل تلك الأيام العشرة الخسيسة التى أرقدتك يا نادين.. سنوات عمر تقارب الربع قرن!!، هل تصدقى أن عمر صداقتنا دام حوالى 24 عاما؟
هل تصدقين أننى لم أنتبه إلى عدد السنوات هذه إلا عندما كان شريط الذكريات يدور برأسى أثناء تواجدك فى المستشفى.. كان يدور برأسى سؤال.. ياترى إنت بتفكرى فى إيه، وحاسة بإيه دلوقت؟
خصوصية علاقة صداقتنا لا ترتبط بالعمر الزمنى ولكن بالمعانى التى شكلت مشاعرنا وأفكارنا تجاه أنفسنا وتجاه الحياة وتجاه بعضنا البعض.
لن أنوى الحديث بلسانك ولكن اسمحى لى أن أعبر عما أدينه لك ولعلاقتنا ولو جودك فى حياتى، فى أهم وأخطر مراحل الحياة، مراحل البدايات.
معك اكتشفت بدايات الأشياء فى الحياة، وأعتقد أنك أيضاً.
مشاهد مبعثرة ومتزاحمة فى رأسى وصور تقفز إلى ذاكرتى.. أكتبها لا بغرض رثائك ولا اختزال وتلخيص عشرة الصداقة فى سطور، ولكنها محاولة لتعويض نفسى عن الجلسة التى لم نتمكن من ترتيبها لشهور مضت، أنت واحدة من القلائل فى الحياة التى كانت تعلم بما يدور فى حياتى فى تلك الفترة وما يعطلنى عن لقائك!!
واليومأاستعيض عن جلسة «الونس» بك و«الفضفضة» والضحك وغالبا لم تكن ستخلو من «بكائى» ولا من «احتضانك» لى، وكنا من المؤكد سنقول جملتنا المعتادة «إيه آخر نماية»؟
أستعيض عن كل هذا الآن بكتابة لقائنا لا بمعايشته معك.. ولو أننى على يقين أن جلستنا المؤجلة كانت ستزدحم بكلام ومشاعر وأفكار لا عن الذكريات ولكن ربما عن «مرحلة الأربعين» التى كنت أتصور أننا نستعد لها بكل ما فيها من تغيرات وارتباكات.. الغريب والمدهش يا نادين أننى ما زلت على نفس اليقين بأن «لسه الكلام ما انتهاش بيننا». ما أقسى وما أحن من أن تستدعى الذكريات للائتناس بمن تحب.
هل تتذكرين يا نادين.. كانت أول مرة أذهب فيها لحضور مهرجان السينما كان معك ، وبالطبع تتذكرين (الخناقة) مع أهلى بسبب رفضهم للذهاب إلى أفلام المهرجان واقتناعهم بأنها أفلام إباحية، وكنت معى فى جدالهم ومناقشتهم، وذهبنا إلى الفيلم (قاعة سيد درويش) بالهرم وكان فيلما بعنوان (المجد) وكان سخيفا ومملا ولم أفهم منه الكثير.
وضحكنا على أننا لم نشاهد حتى امرأة واحدة فى الفيلم، واعتبرناها لعنة وغضب الأهل.
هل تتذكرين (ضفيرة شعرى) التى أبديت إطراء عليها وكانت سبب التعارف بيننا؟
أدين لك بإطرائك فى أمور وإن بدت صغيرة وبسيطة لكنها كانت كبيرة وذات دلالة شكلت فارقا معى. أنت رائعة فى اكتشاف أحلى ما فى الناس والتعبير عن مشاعرك تجاههم بحرية. أدين لك بأن بدايات التعرف على الحياة كنا سويا، هل سبق وأن قلت لك أن أول مبيت لى لدى صديقة كان فى بيتك.
أول مشروع جامعى أنجزناه.. كنا سويا فى العام الجامعى الثانى، هل تتذكرين السهر حتى الصباح ليلة تسليم مشروعنا الصحفى فى كلية الإعلام قسم الصحافة.
هل تتذكرين موضوع مشروع التخرج «المرأة والمناصب القيادية فى المؤسسات الصحفية»؟ مازلت أحتفظ بنسختى من البحث. وأنت؟
أدين لك بأجمل أيام (الصعلكة)، فى شوارع وسط البلد، فى مسارح الدولة ونحن نتابع بدأب غير مسبوق مهرجان المسرح التجريبى لسنوات متتالية ونتحرك من عرض لآخر وكأنها مهمة رسمية.
هل تتذكرين المهرجانات والندوات الأدبية.. ومشروع مجموعتك القصصية (خيوط على دوائر).. كنت أول صديقة لى ينشر لها كتاب، وكان شيئاً مبهراً لى.. كتاب فى هذا السن الصغيرة.. كانت تصوراتى عن العمر والزمن مازالت ساذجة ومشوشة. ولم أكن أعلم أن الحياة قصيرة لهذه الدرجة.. درجة المفاجأة التى تجعلنى أتساءل.. كيف تسرب هذا الزمن و كادر الذكريات ثابت؟
بدايات الاصطدام بالحياة وقسوتها.. كنا معاً، اكتشاف بشر رائعين، واكتشاف بشر غاية فى الدناءة والبشاعة، بدايات قصص الحب التى أوجعتنا وأرهقتنا وأضحكتنا، اكتشفنا سويا حماقاتنا وسذاجتنا أحياناً، تلقائيتنا أحيانا أخرى وغباءنا وقلة خبرتنا أحياناً وتعالينا على الحياة ومواجهتها أحيانا أخرى. ولكن يبقى أننى أدين لك بأننى حاولت أن أتعلم معك كيف نحرر أنفسنا من قيود لم نشارك فى صنعها، أعترف أنك الأشجع والأكثر قدرة على المواجهة والاختلاف، ربما أكون قد اخترت دون وعى وإرادة مسك العصا من منتصفها، لكنك دائماً كنت المقاتلة، وهى من السمات التى لا يمكن اكتشافها فيك بسهولة، لأن ملامحك الرقيقة والجذابة تطغى وتغطى مساحات شراستك وعنادك فى الحق والعدل التى تنفجر فى أوقات تكشف أن جسدك الرقيق يخفى مارداً من القوة نادراً ما اعترفت به لنفسك، لك ضحكة مبهرة تنير عيونك وتتحرك معها كل عضلات وجهك، ورقبتك الرفيعة.. ضحكتك التى تجبر الناس أن يقعوا فى محبتك.. حتى الأن!!
أتتذكرين أن أول مرة أتعرف فيها على عالم المقاهى الثقافية فى وسط البلد كانت معك، أتذكر بوضوح جلستنا وضحكاتنا ومناقشاتنا على مقهى الندوة الثقافية التى كانت منفذا مفتوحا للتعرف على بشر كثيرين.
أتذكر متعة الصعلكة وأن أول مرة نأكل فيها فى بيتزا هت كنا سويا، أتذكر الأزمات المالية التى كانت تمر علينا دون رغبة فى الاقتراض من والدينا وكيف كنا بمنطق برجوازى ندخل نفس المطعم ولنتقاسم طبق السلطة (متعدد الزيارات للبوفيه)، وكيف كنا نمارس الفكر الاشتراكى فى عمل جمعية مع أصدقائنا بنصف جنيه يوميا، والمدهش الذى كان يثير ضحكاً هيستيرياً هو أن بنت مصر الجديدة، خريجة المدرسة الفرنسية، وصديقتها التى تأخذ سيارة والدها وتأتى بها إلى الجامعة تشتركان فى جمعية بنصف جنيه أو يزيد لأن نادين مصروفها قد نفد ولأننى أريد أن أعيد السيارة إلى والدى «بلترين بنزين» على الأقل.
هل تتذكرين عندما ذهبنا سويا لمحطة البنزين وطلبت من العامل أن يضع (لترا واحدا)!! ألم أقل لك أن العشرة أيام التى كنت فيها فى ذلك المستشفى اللعين (مصر الدولى) لا علاقة لها بما قبلها ولا بما بعدها.
كم ثقيلاً وعبثياً أن أقبل وأكتب عما بعد تلك العشرة أيام الفاصلة فى تحديد تاريخ وتوثيق حياتك ما بين الموت والحياة.
نادين.. مات لى أحباء وأعزاء من قبل، وأنا لست من الأشخاص الذين ينكرون حقيقة الموت ولكننى لا أستطيع أيضاً قبول فكرة أن ترحلين أو تغيبين بتلك القسوة المتعمدة ولا ذلك الجرم مع سبق الإصرار والترصد.
نادين العاشقة للسينما والمقاتلة من أجل كتابة مقال نقدى محترم سواء أثناء عملها فى روزا ليوسف والتى بلا شك خسرتها تلك المؤسسة وكسبتها مطبوعة الفن السابع فى النصف الثانى من التسعينيات، نادين لم تكن تتعامل مع الكتابة النقدية بطريقة الاستسهال ولا الطريقة التقليدية، بل كانت تدقق فى كل كلمة، وكأنها تتعامل مع كادر سينما، نادين التى أذهلتنى عندما تخرجت فى كلية الإعلام وكانت من أوائل الدفعة وحصلت على تقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف وكان هذا التقدير يؤهلها بجدارة لتكون من أعضاء هيئة التدريس، وكانت نادين بجرأة قراراتها ورؤيتها فى أن تكون ذاتها ولا أحد سوى ذاتها، تكتشف وتمارس ما تحب لا ما يجبر عليها، بكل حسم وجرأة منذ عشرين عاما، رفضت نادين مسار التدريس فى كلية الإعلام على الرغم من أن والدها أستاذ بكلية علوم عين شمس ووالدتها أستاذ جامعى بمركز البحوث الدوائية، خرجت نادين من عباءة والديها وقررت أن تكون نفسها، عشقها للسينما واحترامها لها دفعها أن تدرس من جديد فى المعهد العالى للسينما، ولأنها نادين صاحبة المفاجآت غير المتوقعة، كنا ندرك نحن- أصدقاءها- أنها ستلتحق بقسم إخراج، ولكن توجهت نادين لقسم سيناريو، فهناك شىء بداخلها يحرضها على الكتابة وخلق الأفكار وتفجير المشاعر أكثر من تنفيذها.. وقد فعلتها نادين.. وأصبحت السيناريست التى اختارت الطريق الصعب فى الكتابة، كتابة جماعية، كتابة مختلفة، أفكاراً غير تقليدية، تجسيداً حقيقياً للواقع وللمشاعر- حتى المسكوت عنها- وعلى الرغم من أن نادين التى أصبح لها عالم مختلف ومواز لعالمى.. لكن صداقة البدايات واكتشاف الحياة والتعرف على ماهيتنا والصراع مع ذواتنا.. أضاف لنا ولرصيد علاقتى بك يا نادين لم ينقصه.. يقينى يرشدنى إلى أنه شعور متبادل بيننا!!
يوم 28 يناير 2011 مرت نادين علىَّ فى الصباح وبدأنا مع كل ممن بدأ فيك يا مصر محاولة التغيير، وسرنا سويا من مسجد مصطفى محمود حيث تلاقت وجوه كثيرة ومتباينة ولكن بروح واحدة مشتركة، ومع الزحام والتدافع والحشد، كنا نمسك بأيدى بعضنا البعض، نهتف وتنتفض عروقنا، شممنا الغاز وأصيبت عيوننا بالالتهاب، وجرينا سويا ومعنا زوجى من مطاردة مدرعات الشرطة التى كانت تفرقنا عند بدايات كوبرى قصر النيل بشكل عشوائى وكنا نجرى للقفز على أى رصيف هربًا من سيارات الشرطة الهمجية.
وصلنا حتى منتصف كوبرى قصر النيل ونحن جميعا مخنوقون برائحة الغاز، ونشاهد شباباً يحملون أصدقاءهم جرحى ووجوهاً قد ملأتها رصاصات الخرطوش وسيارات إسعاف، ووجوهاً مشحونة وثائرة للحق، وجموع الرجال يصلون وسط كوبرى قصر النيل صلاة العصر وخراطيم المياه تسلط عليهم وقنابل الغاز لا تتوقف.. والأغلب من الشعب لم يتوقف أيضاً ولم يتراجع.
فى وقت زادت فيه الغازات وجرينا ابتعادا عنه.. وفجأة لم أجد نادين.. وسط جموع لا نهائية ناديت عليها وبحثت ولم أجدها، وتفرقنا هذا اليوم، وكانت ليلة مرعبة، خطوط الاتصالات مقطوعة، وأنا لم أتمكن من الذهاب إلى بيتى، وذهبت إلى والدة زوجى فى الزمالك، وظلت والدة نادين تبحث عنها، فتكلم والدتى وتسألها عنى وعن نادين، ولم نعرف أين هى نادين إلا فجرا، أبلغتنى والدتها أنها وصلت لبيت صديقتها إلهام فى العجوزة.
ظل ميدان التحرير، بأيامه الثمانية عشرة، يجمعنا، ظل الميدان يجمعنا فى جنازات الشهداء مرات، وفى المسيرات المتلاحقة المتوالية، أقابل نادين بموعد أو غير موعد، نادين كانت علامة واضحة فى الثورة، كانت تحلم بحق فى وطن يليق بالبنى آدمين. أتذكر يوم العرض الخاص لفيلمك التسجيلى المدهش الذى أنجزته مع تامر عزت «مكان اسمه الوطن»..
ما أروعك.. أفكارك وأعمالك تسير فى سياق متوافق.
لقد أوجعك الوطن.. الفكرة والواقع، كحال كثيرين منا.. لكنك اخترت الاختيار الأصعب، أن تكونى فاعلة مهما كلفتك إحباطات الفعل .
أدين لك يا نادين.. أنه فى الأوقات الحرجة التى كانت تمر علىَّ. كنت قاسماً مشتركاً بين أوجاعى وبين محاولاتك الأمينة فى مساعدتى ودعمى.. هذا هو أنت.
لن أنسى ذلك المجلد البنى الكبير الذى أهديتنى إياه، ربما منذ خمسة عشر عاما، وكتبت عليه إهداء بخطك الطفولى ذى الحروف الواضحة وإصرارك على الكتابة لى أحيانا بجمل فرنسية، غالبا ما كنت أستعين بك فى ترجمتها لى ونتبادل الضحك وأنا أقول لك:
(ممكن تفتكرى أنى ما كنتش معاك فى المدرسة الفرنسية بتاعتك).. ذلك المجلد كان هدية منك بعد أن اعترفت لك يوما بأزمتى فى الكتابة وأننى غير مشبعة بما أكتب.
هل أعترف لك اعترافاً تسامحينى عليه؟! المجلد البنى مازال خاليا.. لم أكتب حرفا.. هل مازالت أزمتى مع الكتابة قائمة أم هى أزمة مع ذاتى؟.. ليتك تجيبينى الآن.. وربما يرسل الله لى إشارة بجوابك.. ألم أقل لك أن هناك حوارات وكلاماً بيننا لم يبدأ ولم يستكمل!!
أعرف أننى أكتب لك الآن لا لشىء سوى الرغبة الحقيقية فى الائتناس بك.. لدىَّ الكثير من المؤجلات التى كان من الأولى أن تشاركينى إياها .
لا أستطيع تصور أننى أحاول أن ألتقط مشاهد وصوراً مختزلة لأربعة وعشرين عاما مرت على صداقتنا.. مرت كالحلم، لدرجة أننى أشم الآن رائحة عطرك white mask الذى كنت تفضلينه والذى اعتدت أن أستخدمه أنا الأخرى لسنوات كثيرة، أتذكر سعر هذا العطر!!
لا أصدق أننى كنت ساستدعى تلك الذكريات فى موقف كهذا وصورتك لا تغيب عنى. أشعر بغصة يا نادين ولن أخفيك قولا أنه تنتابنى مرارة حزن ممزوجة بغضب أنهم لم يسمحوا لى برؤيتك إلا فى وقت خارج دائرة الزمن- الزمن الذى لا أعلم إذا كنت قد أردته واخترت الانتماء إليه - فى أيامك العشرة فى تلك الحجرة الكئيبة بمستشفى مصر الدولى، لدىَّ يقين وثقة أنك أجبرت فيها كل حواسك ومشاعرك على المقاومة والاستقتال من أجل الحياة، ولكن الإهمال والفجور والكذب أفسدوا وأجرموا فى حق مقاومتك من أجل الحياة. هل تعلمين فيم أفكر الآن يا نادين؟
المجلد البنى الذى أهديتنى إياه.. الأجدر أن تمتلئ صفحاته البيضاء بكلام عنك وبك ولك وأعدك أن الكلام (إللى لسه ما انتهاش بيننا) سيكون فى حضن تلك الأوراق البيضاء التى تليق بقلبك.