سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    "ارتفع 140جنيه".. سعر الذهب بختام تعاملات الأمس    "فيتش" تغير نظرتها المستقبلية لتصنيف مصر الائتماني إلى إيجابية    إسكان البرلمان تعلن موعد تقديم طلبات التصالح في مخالفات البناء    شهيد وعدد من الإصابات جراء قصف شقة سكنية بحي الجنينة شرق رفح الفلسطينية    مفاجآت في تشكيل الأهلي المتوقع أمام الجونة    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    حار نهاراً معتدل ليلاً.. حالة الطقس اليوم على القاهرة والمحافظات    «صلت الفجر وقطعتها».. اعترافات مثيرة لقاتلة عجوز الفيوم من أجل سرقتها    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    آمال ماهر تغني بحضور 5000 مشاهد بأول حفلاتها بالسعودية    «من الأقل إلى الأكثر حظا».. توقعات الأبراج اليوم السبت 4 مايو 2024    فوبيا وأزمة نفسية.. هيثم نبيل يكشف سبب ابتعاده عن الغناء السنوات الماضية    وفاة الإذاعي أحمد أبو السعود رئيس شبكة الإذاعات الإقليمية الأسبق.. تعرف على موعد تشييع جثمانه    محمد سلماوي يوقع كتابه «الأعمال السردية الكاملة» في جناح مصر بمعرض أبو ظبي    المتحدة تنعى الإذاعي الكبير أحمد أبو السعود    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    التموين تشن حملات لضبط الأسعار في القليوبية    لندن تتوقع بدء عمليات ترحيل اللاجئين إلى رواندا في يوليو المقبل    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    بركات: شخصية زد لم تظهر أمام المقاولون.. ومعجب بهذا اللاعب    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    سيول وفيضانات تغمر ولاية أمريكية، ومسؤولون: الوضع "مهدد للحياة" (فيديو)    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    مراقبون: صحوات (اتحاد القبائل العربية) تشكيل مسلح يخرق الدستور    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    أول تعليق من الخطيب على تتويج الأهلي بكأس السلة للسيدات    سيدات سلة الأهلي| فريدة وائل: حققنا كأس مصر عن جدارة    ملف يلا كورة.. اكتمال مجموعة مصر في باريس.. غيابات القطبين.. وتأزم موقف شيكابالا    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    استقرار سعر السكر والأرز والسلع الأساسية بالأسواق في بداية الأسبوع السبت 4 مايو 2024    تراجع سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء في بداية الأسبوع السبت 4 مايو 2024    تقرير: 26% زيادة في أسعار الطيران السياحي خلال الصيف    "والديه كلمة السر".. كشف لغز العثور على جثة شاب مدفونًا بجوار منزله بالبحيرة    مصرع طفلين إثر حادث دهس في طريق أوتوستراد حلوان    احتراق فدان قمح.. ونفوق 6 رؤوس ماشية بأسيوط    أمن القليوبية يضبط «القط» قاتل فتاة شبرا الخيمة    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر وتثبت تصنيفها عند -B    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر إلى إيجابية    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    كندا توقف 3 أشخاص تشتبه في ضلوعهم باغتيال ناشط انفصالي من السيخ    حسين هريدي ل«الشاهد»: الخلاف الأمريكي الإسرائيلي حول رفح متعلق بطريقة الاجتياح    شيرين عبد الوهاب : النهاردة أنا صوت الكويت    السودان وتشاد.. كيف عكرت الحرب صفو العلاقات بين الخرطوم ونجامينا؟ قراءة    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    تصريح دخول وأبشر .. تحذير من السعودية قبل موسم الحج 2024 | تفاصيل    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    فريق طبي يستخرج مصباحا كهربائيا من رئة طفل    حسام موافي يوجه نصائح للطلاب قبل امتحانات الثانوية العامة (فيديو)    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار رجل وحيد مع امرأة جميلة فوق الأطلنطي

«مسافة بين القبلات» هى رحلة إلى محاولة فهم «ماما التى تحترف التهام من يسعون إلى أن تتبناهم»، محاولة لفهم الولايات المتحدة الأمريكية، وقد بدأت المحاولة فى مشاعرى عام 1989 أى نفس العام الذى رفعنا فيه نحن المصريين الراية البيضاء، مستقبلين بترحاب شديد كل ما تتمناه الولايات المتحدة منا، وبدأنا رحلة البيع العلنى للضمير الوطنى لحساب السيدة العجوز القابعة فى واشنطن، والغريب أن مشهيات رحلتى تلك بدأت بلقاء هيفاء تركية ذات أنوثة خلابة، وفى أعماقها آلام يصعب تصورها، آلام جعلت بشرتها الناعمة من نحاس لعلها فى براميل الألم الصاعق..حدثت رحلتى تلك كمحاولة منى لفهم «معالم الربع الأخير من القرن العشرين» عبر رحلة حب يخاف فيها كل عاشق من الآخر لأن العالَم الذى نحيا فيه يمتلئ بشراسة ناعمة.

فلتبدأ معى الرحيل تلك المسافة لتعلم كيف يعيش الإنسان فى هذا العالم المتقدم جدًّا، والعاجز فى نفس الوقت عن توفير حق الاطمئنان، هذا الحق الذى لا تقدّمه التكنولوجيا ولكن تزرعه المشاعر المليئة بالأمل.

«عربىّ المزاج، أعشق النساء كثيراً، أُحِبّ المرأة حتى أذوب فيها فلا أجد نفسى، كل ذلك أفعله وأنا أبحث عن نفسى!!.

عندما ارتفعت بى الطائرة من باريس إلى نيويورك، لم أكن أتصور أنى سألتقى بعيداً ب «عين الإبرة»، هذا العاشق الجاسوس الذى لم يمتلك فى أى يوم من الأيام أية مشاعر، بل اكتفى طوال حياته بتقديم معلومات عسكرية عن بريطانيا لألمانيا، لكنه فى إحدى رحلات جمع المعلومات مقابل هذا الجسد العطشان، والجسد العطشان والمشتاق فى آنٍ واحد هو جسد امرأة أكثر من ناضجة، لكنها تعيش مع زوج عِنّين فَقَدَ رجولته فى حادث طائرة عسكرية. واكتفت المرأة فى رعاية الزوج والسهر على الابن، وتركت أنثوتها تتجمد إلى أن انفجر فيها بركان الشوق الحسّى، انفجر ذلك البركان عندما فتح الجاسوس عليها الحمام بالصدفة فوجدها عارية كما خلقتها السماء والتقى الاثنان فى عناق أهوج وافترق الاثنان ليعرف كل منهما عن الآخر حقيقة واضحة وهى أن كلاًّ منهما عدوّ للآخر ويجب أن يقتله.

كل منا عدوّ للآخر ويجب أن يقتله!

قلت ذلك بصوت مسموع إلى جارتى التركية التى تملك من الجمال ما يفوق جمال المرأة الإنجليزية التى تمثّل أمامنا على الشاشة، ونحن فى الطائرة نعبر الأطلنطى.

قالت التركية: هل أنت متأكد من ذلك؟ هل تعتقد أن كلاًّ منا عدوّ للآخر ويجب أن يقتله؟

قلت: لم أكن أعرف أن الولايات المتحدة تخبئ نفسها فى أجساد بشر من بلدان أُخرى، أنا أعرف إنك تركية الطفولة والمراهقة فما الذى جعلك أمريكية الجنسية؟

قالت: يحدث لى ما يحدث لكل إنسان فى هذه الدنيا، يريد أن يصرخ بأعلى صوت، وقد صرخت بأعلى صوتى فى بلدى فكان مصيرى مرة السجن، ومرة ثانية بالتفوّق فى الجامعة، ثم بعثة إلى أمريكا، هناك اندهشت بمدى الحرية من القشرة الخارجية فقط، وتزوجت من أمريكى أعلن إسلامه من الظاهر فقط، وعشت العذاب الكبير: الحياة داخل طاحونة، الزوج يعود كل مساء خائفاً من الفصل من العمل، وأنا أخاف من إنجاب الأطفال فى حياة غير مستقرة، كل شىء هناك يبرق وكأنه يقدم لك التعزية فى فقيد غالٍ عليك، هذا الفقيد الغالى هو أنت نفسك.. نعم، أحسست أن زوجى لم يعد رجلاً من فرط انغماسه فى بئر الخوف من فقدان وظيفته، وعندما ازداد خوفه عن الحد، ذهبنا إلى الطبيب النفسى ليبحث الحالة، قال الطبيب النفسى تلك الكلمات اللامعة: «أقتل خوفك بنفسك، حاول أن تدعو رئيسك على العشاء ومعه زوجته، اندمج معه فى حياة اجتماعية وستكتشف أنه إنسان وليس مجرد وحش كاسر يخرج لك فى الأحلام ليثير رعبك».

قلت للتركية الحسناء: لا أعتقد من شكلك الخارجى أن من يحيا معك تحت سقف واحد يمكن أن يخاف شيئاً، أنوثتك فارهة يمكنها أن تحوِّل كل طفل إلى رجل لينال من ثمار شجرتك الناضجة، ويكاد الرجل أمامك أن يتحول إلى طفل لأنه يتمنى الدخول إلى عالم الأمان الوثير فى أحضانك.

قالت التركية وهى تضحك: أنت عربى المزاج، حسّى الرغبات، تحلم بالزواج من أربع نساء ولا تستطيع، لكن عليك أن تعيش فى أمريكا قليلاً وستجد رجولتك قد تيبست وصارت خاوية المعنى، قلت: أنا لا أنكر أننى عربى المزاج، ولا أنكر أننى أعشق النساء كثيراً، إننى أحب المرأة حتى أذوب فيها فلا أجد نفسى، ولم أفعل شيئاً فى حياتى تقريباً إلا من أجل حب امرأة. عملت فى الصحافة لأنى أحب امرأة، فهمت فى السياسة لأنى أحب امرأة أعدت اكتشاف إيمانى كمسلم لأنى أحب امرأة، أطير الآن إلى أمريكا لأن قلبى امتلأ بالشروخ، لأنى أحب امرأة، وسوف أدخل مستشفى لإجراء فحوص طبّية، وأعرف كم حفر الحب فى قلبى من أخاديد الشيخوخة، فكيف تجعل أمريكا من رجولتى شجرة يابسة خاوية المعنى؟ أنا لا أصدق ذلك! قالت: ما دمت لم تحضر إلى أمريكا لتعيش إلى الأبد فلا تغضب واطمئن، لن تتيبس رجولتك، إن أمريكا «تخصى» رجالها، وتمنع الإناث فيها من الخصوبة، وتعيش على حرف مقصلة اسمها الدولار، إن الدولار هو السيّد والملك والبيت والحلم وهو الذى يجعل كل شىء فى الحياة مرغوباً فيه، وهو الذى يحوّل كل رغبة إلى دنيا فاسدة الطعم.

انتبهت إلى صورة المرأة التى على الشاشة فى فيلم «عين الإبرة»، إنها تدق باب العشيق بإصرار، فقد امتلكت اليقين ب أنه رجل مكتمل الرجولة وتعرف إنها أنثى مكتملة الأنوثة، ويجب أن تتحد الأنوثة والرجولة ليأتى طفل جديد إلى الحياة، تسترجع الأنثى شريط حياتها، تذكر ليلة الزفاف جيداً: كانت فرحانة لأنها تتزوج طيّاراً من قرية، لم تفكر يوماً أنه سيدخل الحرب ويأتيها على كرسى متحرك وعلى صدره وسام بطولة، ولا يعرف كيف يذهب إلى الحمّام بمفرده، يسترجع الجاسوس شريط حياته: ففى نفس ليلة الزفاف هذه كانت ألمانيا تنتظر منه تقريباً رسالة بالراديو عن تحركات الطيّارين فى هذه المدينة الإنجليزية الصغيرة، كان يحب ألمانيا ويكره إنجلترا رغم أنه إنجليزى الجنسية، لقد جاء إلى الدنيا كطفل لأسرة إنجليزية تعمل فى السلك السياسى، وعندما ذهب أبوه إلى ألمانيا ليعمل، كان الطفل الصغير قد أودع مدرسة ألمانية داخلية، هناك شرب حب ألمانيا ضد العالم، وعندما كبر لم يكن له حق الاختيار، فقلبه ومشاعره ألمانية الصناعة بحكم التربية، رغم أن الجنسية هى إنجليزية بحكم الميلاد، لذلك لم يكن هناك مفرّ من أن يكون جاسوساً، مع امتزاج الجسدين نكتشف أن فكرة الخيانة الزوجية لم تكن اختياراً للزوجة، ونكتشف أن فكرة خيانة الوطن لم تكن اختياراً للجاسوس، فالإنسان غالبا ما يبدو كمسألة الحساب الناتجة من ظروف متشابكة، وعلى الإنسان أن يقاوم حل المسألة بأسلوب الخيانة، لكن أحياناً لا يوجد هناك مفر.

لم تملك المرأة الجميلة القدرة على طلب الطلاق من الزوج المشلول فاختزنت أنوثتها إلى أن انفجرت نداءات الهرمونات الأنثوية، طالبة حق الارتواء من نهر رجولة لا تعرف أن صاحبه جاسوس.

ولم يملك الرجل الجاسوس أن يقاوم فى طفولته غباء والده الذى ألقاه فى مدرسة داخلية يتلقى فيها أفكاراً ترحل بقلبه بعيداً عن حب الوطن، لذلك خان قلبه الوطنَ وتحرَك جسده على مسرح الخيانة ليكون الجاسوس المفضل لدى هتلر شخصياً، ويهدى كل الخراب، وعبر لقطات الفيلم نعلم أن هذا الجاسوس هو أهدى هذه المرأة ذلك الزوج العاجز، فعندما كانت تعيش مع عريسها أيام الزواج الأولى، كان الجاسوس هو من أرسل معلومات وصور لمطار، سيطير منه «العريس بعد أيام الزواج الأولى» وما أن يطير العريس بطائرته حتى تبدأ ألمانيا فى قصف المطار، فيصاب الرجل بالعجز الجزئى، ويحيا مشلولا.

أتعجب من تمزق النفوس التى تلمع على الشاشة ونحن فى الطائرة، الجاسوس هو الرجل الذى لم يجد امرأة فى الدنيا يمكن أن تعطيه الحنان والجسد كما تعطيه هذه الإنجليزية الحسناء، أقول لرفيقة الرحلة التركية الحسناء: إن هذا الرجل مسكين ولسوف يقتلونه فى آخر الفيلم برصاصة كإنسان لا لزوم له رغم أن مجتمع إنجلترا هو الذى أنجبه، هذه المرأة التى خانت زوجها رمز لإنقاذ بريطانيا من جاسوس، ولسوف تحمل فى قلبها الحزن على الرجل الوحيد الذى اعترفت له أنه أسعدها جسديًّا، قالت التركية الحسناء: ما تراه على الشاشة الآن هو ما يحدث لك لو انبهرت بأمريكا أكثر من اللازم، حينها تصبح كارهاً لبلادك، عبداً لهم، تحتقر نفسك مرة لأنك عشت فى بلاد فقيرة، وتحتقر نفسك أكثر لأنك تعيش فى مجتمع لا يسمح لك بالتنفس بعيداً عن الخوف، إنهم يمزجون الهواء هناك بالخوف، تماماً كما حدث مع زوجى، قلت: آسف، استغرقنى الفيلم قليلاً، ولم أسألك هل طّبق زوجك نصيحة الطبيب النفسى؟ هل دعا رئيسه الذى كان يرعبه إلى الغداء؟ قالت: نعم فعل ذلك.

والمأساة أن زوجة هذا الرئيس كانت تشكو من الفراغ العاطفى الشديد، ووجدت فى زوجى شيئاً مميّزا، اكتشفت فيه أنه إنسان عاطفى و له مشاعر فياضة، وأن زوجها مجرد رجل قاسٍ يجمع الدولارات فقط، ولأنها هى صاحبة الشركة التى يعمل زوجها مديراً لها، لذلك بدأت رحلتها العاطفية مع زوجى أنا، وتساءلت باندهاش: زوجة الرجل المرعب تعشق زوجك الخائف؟! فقالت التركية الحسناء بأسى شديد: نعم، حدث ذلك، كنت قد علّمت زوجى كيف يقرأ الشعر، كنت قد علّمت زوجى كيف يحكى حكايات ألف ليلة وليلة، كنت أحاول خلال رحلة خوف زوجى أن أقدم له العون الإنسانى بأن أقرأ التراث الأدبى الشرقى، واستخدم زوجى هذه القراءات فى إغراء زوجة رئيسه المرعب، وكانت نتيجة طلاق زوجة رئيسه، وهجر زوجى لىّ، إن الأمر صار مأساة حقيقية، وكابوساً مرعباً بالنسبة لىّ. وجاءنى رئيس زوجى بعد أن أصبح مفصولاً من الشركة يطلب منى أن أدخل معه فى «مشروع عاطفى» حتى ننتقم لأنفسنا، طبعاً كان القرف قد ملأنى من المسألة كلها فطردته، وعندما بلغ زوجى مسألة طردى لرئيسه السابق أجزل لىّ التعويض عن الطلاق وهذا ما جعل قرفى يزداد أكثر وأكثر، وأصبحت ثرية وحيدة، وأعيش فى نيويورك، لذلك قررت أن أزور أكثر بلدان العالم أصالة.

كنت أريد أن أزور أى بلد يحتفظ بعطر الزمن القديم للغاية، لذلك زُرت صنعاء اليمن وعدت من صنعاء إلى باريس وأنا الآن فى طريق عودتى إلى نيويورك التى يسمّونها التفاحة العفنة.

قلت: انظرى إلى الشاشة، المرأة العشيقة هى التى ترشد البوليس إلى الجاسوس، ومن اكتشف أنه جاسوس هو زوجها المشلول، إنها سوف تعيش مع هذا الزوج لتتزود بأحلام مغامرتها مع الجاسوس، ها هو البوليس يقتل الجاسوس بالرصاص.

انتهى الفيلم.

ضحكت التركية الحسناء كثيراً وهى تقول: يبدو أنك تحب السينما، ألا تعرف أن السينما هى أوهام دفعت فيها أنا وأنت ثمانية دولارات؟

قلت: هل أصبحت نظرتك إلى الفن أنه وهمٌ لقاء نقود؟ هل أصبحت تكرهين الأدب بعد أن غادرك زوجك إلى امرأة أخرى؟

قالت بعصبية: لا أنا لا أنظر إلى الفن على إنه وهمٌ، إننى أعرف إنه تركيز لخبرات آخرين، لكن ألمى من تجربتى لا يجعلنى أنسى أبدا ما حدث لى، إن ألمى من الفنون التى أراها، فأنا أولاً عشيقة لا تجد عاشقاً، وأنا ثانية جاسوسة لا أجد من يأخذ منى معلومات سواء عن أمريكا أو تركيا، وأنا ثالثاً مقتولة بتجربة طلاقى، وأنا رابعاً أحيا فى داخلى مع رجل مشلول هو زوجى الهارب الخائن، وأنا خامساً لا أعرف ماذا أفعل بحياتى، أخشى أن يمر العمر دون أن أنجب وأنا الآن فى الثالثة والثلاثين، وأخشى أن أتزوج من جديد فينهب الرجل الجديد ثروتى التى أخذتها تعويضاً عن الطلاق، لقد بعت زوجى لقاء منزل بمائة وثمانين ألف دولار وأخذت منه تعويضاً قدره مائتى ألف دولار دفعتها زوجته الجديدة كما تشترى أنت علبة سجائر من سوبر ماركت.

قلت: وماذا تفعلين فى يومك العادى؟

قالت: أبداً، اتفقت مع دار للترجمة وأترجم لهم أى شىء من التركية إلى الإنجليزية، وتقدمت بطلب للعمل فى مبنى الأمم المتحدة وأعتقد أننى سأجد الوظيفة فى انتظارى لأنى أجيد الإنجليزية والتركية.

قلت: إذاً إن حياتك ممتلئة؟

قالت: أنا الثور الذى يبدو امرأة من الخارج، لكنه يبحث عن ساقية، هذه هى الحقيقة.

أهتزت الطائرة بعنف من مطبّ هوائى غير تقليدى، أضيأت لنا إشارات ربط الأحزمة ومنع التدخين.

قالت: هل تخاف الموت؟

قلت: أذكر أن واحداً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما رأيت يقيناً أشبه بالشك إلا الموت»، أنا لا أخاف الموت ولكنى أشك فى أنه سوف يحدث لىّ، كل الذى حدث أننى تذكرت حقيقة أمريكية تتعذب بها أوروبا.

قالت: ما هى هذه الحقيقة التى تتعذب بها أوروبا وأصبحت تملكها أمريكا؟

قلت: إنها المادة التى كان يجب أن يتم صنع الطائرة منها، إنها مادة التيتانيوم، يخيّل إلىّ أنهم صنعوها من الألومنيوم العادى الثقيل الوزن، ولم يستخدموا بعد مادة التيتانيوم الخفيف الذى يمكن أن يتحمل العواصف الجوّيّة والمطبّات الهوائية.

قالت: وهل تملك معلومات عن الطائرات وصناعتها؟

قلت: لا، أنا شهدت فقط احتجاج الجنرال ديجول على إنجلترا لأنها رضخت قليلاً لشروط أمريكا وحاولت التخلى عن فكرة إنتاج طائرة الكونكورد الأسرع من الصوت، والتى تقطع المسافة الآن من باريس إلى نيويورك فى ثلاث ساعات. سمعت هذه «الخناقة» الإنجليزية الفرنسية الأمريكية فى قصر الإليزية.

قالت: وهل دخلت قصر الإليزية؟

قلت: نعم، ولكنى لم أؤخذ بالكراسى أو التحف.

قالت: ألم تدهشك رؤية ديجول، هذا المحارب الذى صنع معجزة فرنسا المعاصرة؟

قلت: أنا عربى، وفى ديسمبر من عام 1963 لو أنت سألت أىّ إنسان عربى عن ديجول أو كنيدى أو نيكسون أو ويلسون، أو أىّ رئيس دولة من دول العالم لقال لك: «إن رئيس الدولة، أىّ دولة، هو إنسان يأكل ويشرب وينام وتنكّد عليه زوجته أو يغضب هو مع أولاده»، كان ديجول بالنسبة لىّ رجلاً عادياً، قرر الاعتراف بالهزيمة أمام ثورة الجزائر، فأعلن استقلالها، وهو بالنسبة لىّ هو إنسان مهزوم من شهداء عرب لا يتذكرهم الآن أحد.

قالت: أنت لا تهتم بمدى عظمة رؤساء الدول من صنعوا تغيرات جوهرية فى بلادهم.

قلت: نعم، أنا أعامل رؤساء الدول على أنهم بشر يديرون آلة جهنمية من المصالح المتشابكة، وكل رئيس دولة هو موظف له مصالح وينتظر علاوة، والعلاوة ليست نقوداً، وإنما نفوذ، إنها رحلة الإنسان إلى طمع آخر غير طمع المال أو الفساد، إنه طمع التواجد على القمة.

قالت: لكن الجنرال بوكاسا كان رئيس دولة وكان على رأس بلد!

قلت: بلد من الجياع، لذلك كنسه التاريخ كما تكنس المرأة بيتها بالمكنسة الكهربائية، ومضى يبيع جواهر التاج الذى صنعه عند أغلى مصمّمى المجوهرات فى باريس، مضى يبيعه وكأنه تاجر صور عارية يخاف أن يراه أحد، وهو الآن سجين فى بلاده بعد أن جاع فى فرنسا.

قالت: ما علينا، ما هى قصة المواد التى تُصنع منها الطائرات، وما دخل ذلك باهتزاز الطائرة الذى حدث الآن؟

قلت: إن ديجول فرنسى أولاً، أوروبى ثانيا، ينتمى إلى المعسكر الغربى ثالثاً، وكان يضع رأسه برأس أكبر رئيس دولة فى العالم وهى أمريكا، ويرى أن أمريكا تنقصها الأصالة، تماماً كما تنقص روسيا القدرة على التفهم العميق لمشاكل العالم، لذلك حاول ديجول أن يقدّم فرنسا كبديل لكلٍّ من أمريكا وروسيا معا، لكن فرنسا هى البديل الذى يعيش أسير التاريخ القديم، إن ديجول لم ينس نابليون وهو يتخذ قراراته، وإن كان قد نسى أن الثورة الفرنسية قد هدّمت نظاماً بأكمله وأقامت نظاماً جديداً، لذلك كان النظام الناتج من الثورة الفرنسية قادراً على سبيل المثال على تقديم «القلم الرصاص» للعالم أجمع باكتشاف جديد، لذلك حاول ديجول تقديم إنجاز آخر، فكان إنتاج طائرة الكونكورد من مادة الألمونيوم العادية، وهذا يعنى أنها طائرة جديدة جدًّاً، لكنها لن تبقى فى السوق طويلاً، عكس الطائرات الأمريكية، إنهم يصمّمون الآن طائرات لتعمل لمدة ثلاثين سنة ومن مادة التيتانيوم.

قالت: لعنك الله، ما هى مادة التيتانيوم هذه؟

قلت: إنه معدن عربى المزاج يرتّبونه فى قائمة العناصر المهمّة فى المرتبة التاسعة، وهو معدن غير نادرً كالذهب أو الفضة أو حتى النحاس، لا، إنه متوفّر جدًّاً فى كندا وأستراليا رغم اكتشافه بواسطة قسيس إنجليزى وعالِم نمساوى، وتجدين قصة هذا المعدن فى كتاب لرجل فرنسى رأس تحرير مجلة الإكسبريس، وهو جان جاك سرفان شرانيير. وترجمه إلى العربية مفكّر مصرى قضى خمس سنوات فى سجون مصر، وقضى نحبه فى انفجار مبنى إحدى المجلاّت فى بيروت أثناء الصراع الدامى هناك إنه المفكر المصرى العربى إبراهيم عامر، وفى هذا الكتاب يمكنك معرفة رحلة صناعة طائرات القرن الواحد والعشرين، فمادة التيتانيوم دخلت من باب صناعة الصواريخ ، حيث يساعد هذا المعدن على تخفيض الحرارة الناتجة عن احتكاك الطائرة بالهواء، كما أنه لا يفسده لكنه معدن متعب جدًّاً فى السيطرة عليه، لكنه ينتصر على مشكلة هامّة فى صناعة الطائرات وهى سخونة جسم الطائرة، ويمكن أن يُصنع منه أجنحة ذات طابع هندسى يجعل الطائرة تطير كالصاروخ ثم تهبط كطائرة عاديّة. وهكذا صنعوا منه أتوبيس الفضاء المسمّى كولومبيا.

قالت: وما دخل ديجول بذلك المعدن؟

قلت: لقد اكتشف أن فرنسا تستطيع أن تملك قنبلة ذرّيّة، لكن ليس لديها إمكانيّات مادية ولا نظام من الإدارة المعاصرة يمكّنها من صنع طائرة الكونكورد من هذا المعدن الراقى.

قالت: وهل استطاعت أمريكا أن تستخدمه فى صناعة طائرات البوينغ؟

قلت: أمريكا قد تبدو لك من الخارج «عبيطة» كزوجك الذى يترك امراة جميلة مثلك من أجل امرأة ثرية، لقد قارن زوجك بين مكسبه من الحياة معك فوجدها حياة فقيرة مادّيًّاً وإن كانت غنية زوجيًّاً، فسرق منك هذا الثراء الروحى وباعه لامرأة ثريّة بالفعل، وهكذا تفعل أمريكا مع معدن التيتانيوم.

قالت: لابد أن التيتانيوم هذا ساحر المعادن، لدرجة أن هناك دولة تستطيع استخدامه ودولة لا تستطيع ذلك.

قلت: ألم أقل لك إنه معدن يشبه العرب؟ إنه يتفاعل تقريباً مع جميع الأجسام المعروفة، ولذلك يمكن أن يعتبره الإنسان السطحىّ مجرَّد معدن بلا قيمة، وعندما «يسخن» أكثر من اللازم يبدأ بالاتحاد مع الأكسجين والنيتروجين والهيدروجين، إنه يعشق الامتزاج بغيره من المواد. إنه مجنون عشق لذلك أخذته أمريكا وحوّلته إلى غاز بأن رفعت درجة حرارته إلى ثمانمائة درجة، وخفضتها مرة أخرى بدمجه بغاز الماغنسيوم حتى أصبح كالإسفنجة. بعدها تمّ طحن هذه الإسفنجة إلى مسحوق، وبعد ذلك بدأ استخدامه فى صناعة أجسام الصواريخ عابرة القارات، وبدأت تُصنع منه سفن الفضاء كما بدأت تُصنع منه أيضاً طائرات تكاد تتفوّق على طائرات البوينج.

قالت: ولكن لماذا تشبّه هذا المعدن بأنه عربى المزاج بحيث يبدو من السطح بلا قيمة لكنه آخر الأمر قادر على اجتياز الفضاء؟

قلت: نحن الآن مصهورون بنيران الصداقة العربية الأمريكية، نرجو التعاون، وإلا؟

قالت: وإلا ماذا؟

قلت: لا تخافى، فلن نلقى بأنفسنا فى أحضان السوفييت، ولكن الانصهار كما تعرفين مع الفشل يؤدى إلى ضياع القيمة. لكن الانصهار رؤية خاصة للمستقبل قد يحوِّل المعدن العربى الرخيص ظاهريًّاً إلى قوة لا يستهان بها، قوة لن تقهر العالم، ولكنها سوف تنقذ الغرقى فى مستنقع هذه الدنيا.

قالت: أنت ترى إذاً أن العرب هم صناع سفينة نوح القادمة؟

قلت: لا أشك فى ذلك رغم هذا اليأس والتفتت والحكايات التى تسمعينها، إن كان ما تسمعينه هو ألف ليلة وليلة جديدة، قد يستمتع العالَم بدفء قصصها أو يسخر منها، لكن فى النهاية تظل ألف ليلة وليلة هى التى تثير خيال كل كاتب فى العالم، ومضت الثمانى ساعات ووصلنا إلى نيويورك، إلى مطار كيندى. فوجئنا بإعلان تليفزيونى، إنه يصوّر إنساناً يعوم بكل ملابسه تحت الماء وفى يده دولار يريد أن يستثمره فيظل يعوم حتى يجد البنك المناسب الذى يقدّم له أكبر سعر للفائدة.

قالت التركية الحسناء: ما رأيك فى هذا الإعلان؟

قلت: لاحظى أن الرجل يشبه زوجك بعد أن سرق منك ثروتك الغنيّة وباعها إلى المرأة الثريّة، إنه يسبح تحت الماء مختنقاً.

قالت: أنت بالنسبة لى كنز جديد.

هنا قررت ألا أرضخ لنزوة الامتزاج بهذه المرأة.

هنا قررت أن تكون هذه المرأة صديقة لىّ فى أيام نيويورك التى أعرف فيها من الأصدقاء الكثير. وكان صديقى د. فؤاد بشاى أستاذ جراحة التجميل للوجوه فى انتظارى بالمطار.

أخذتُه بالأحضان وسألنى: من أين أتيت بهذه المرأة الفارهة؟

قلت له: نيويورك لم تبخل على بامرأة فى طريقى من باريس إلى نيويورك.

ولم يكن فؤاد يعرف أننى أدير معركة أخرى بينىّ وبين هذه المرأة، معركة اكتشاف نيويورك بعيون إنسان وحيد يعقد صداقة مع امرأة وحيدة فى نيويورك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.