من دواعى السرور أننى صاحبت الولد الشقى أبويا الجميل محمود السعدنى فى رحلة المنفى التى بدأت فى عام 1974 وانتهت فى عام 1982، خلال هذه السنوات لف ودار السعدنى فى أنحاء عالمنا العربى واعترف وأقر أن أجمل المحطات وأكثرها جلبا للسعادة على النفوس وأشدها بهجة وأعظمها أثرا كانت هى المحطة التى قادتنا إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان هذا الأمر بالتحديد فى عام 1975، وأصل الحكاية أن السعدنى بعد أن سجنه الرئيس السادات وأكمل العقوبة كاملة اكتشف أنه ممنوع من الكتابة ومن الكلام ومن الظهور فى كل وسائل الإعلام، يومها قرر السعدنى الهروب فقد سجنه السادات عامين عقوبة له على صداقته بشعراوى جمعة ومحمد فائق. وقرر بعد ذلك أن يسجنه داخل الوطن بحرمانه من العمل الصحفى الذى هو الهواء الذى يتنفس به السعدنى ويعيش وساعده على الهرب صديق العمر المعلم عثمان أحمدعثمان، وقد سافر السعدنى إلى بيروت وزار طرابلس فى ليبيا ثم ذهب إلى عاصمة الضباب ليلتقى بالكاتب الكبير أحمد بهاء الدين الذي جمع السعدنى برجل كان له شأن كبير فى دولة الإمارات فى هذا الوقت وهو السيد أحمد خليفة السويدى وزير الخارجية، ثم الممثل الشخصى للشيخ زايد بن سلطان بعد ذلك وعندما جلس السعدنى وسط بهاء والسويدى فاجأه الأستاذ بهاء متسائلا: إزاى أحوالك يا محمود وكيف تقضى أوقاتك فى لندن؟ ضحك السعدنى وهو يقول: أحوالى عال العال، أما أوقاتى فأنا أصحو من نومى متوجها إلى نوادى القمار أنفق فيها حصيلة الثروة التى تركتها لى الست الوالدة وهى الثروة التى لا تتبدد أبدا.. هنا اندهش أحمد خليفة السويدى وصمت وعندما غادر السعدنى اللقاء اقترب السويدى من بهاء ليسأله: أنت قلت إن السعدنى فى حالة أزمة.. كيف يكون كذلك وهو يتنقل بين أندية القمار من الصباح حتى المساء ليلعب بالثروة التى تركتها له والدته؟! وهنا يرسم الأستاذ بهاء ابتسامته الشهيرة ويقول للشيخ السويدى: هذه هى طريقة السعدنى فى عرض أزمته وبعدها وجه للسعدنى دعوة للزيارة وتذاكر سفر من لندن إلى الإمارات تحديدا فى أبوظبى وفى خلال أيام كانت المدارس تستقبلنا بدون أى تعقيدات واكتشفنا هناك أن التلميذ يتقاضى مرتبا شهريا مجزيا لتشجيعه على الدراسة، وأنه يتسلم مرتين زيا مدرسيا أحدهما للصيف والآخر للشتاء، وأن هناك رعاية صحية شاملة لكل التلاميذ من الابتدائى حتى الثانوى، وقد كنا فى الصف الأول الثانوى فى مدرسة أبوظبى الثانوية للبنين، وكان الطريق حول المدرسة بالكامل عبارة عن صحراء جرداء لا أثر فيها يدل على وجود حياة، وكانت أبوظبى عبارة عن أربعة شوارع حمدان وإلكيترا والكورنيش وخليفة، وهى شوارع عامرة بالبناء، ولما كانت الثانوية هى أعلى مرحلة طلابية فقد كان الشيخ زايد يقوم بزيارة للطلبة مرة أو مرتين فى العام ويحرص على حضور حفلات التخرج، وحدث أن همس أحدهم فى أذن الشيخ زايد بأن يقوم بمنح الطلاب الوطنيين فقط الوجبات الغذائية ويمنعها من بقية الطلبة توفيرا للنفقات وتمييزا للطالب الإماراتى.. هنا انتفض الشيخ فى وجه هذا المسئول ضيق النظر والأفق ونهره قائلا: كيف تقبل أن يأكل طفل بينما يكتفى زميل له بالنظر إليه؟! وقرر الشيخ زايد الرجل العروبى القومى الأصيل أن يحصل كل تلميذ وطالب علم من أى بلد عربى على نفس المميزات التى توفرها الدولة لأبناء دولة الإمارات، وهكذا فتح الشيخ زايد بلاده لتكون حاضنة وجاذبة لأبناء العروبة، الجميع مرحب به، ولذلك كان هناك طلاب من سوريا وفلسطين والأردن واليمن والسودان ومصر، لكن أبناء مصر بالذات كانوا الأكثر عددا، وهكذا أيضا كان الأساتذة فقد توجهت وزارة التربية والتعليم فى الإمارات إلى مصر من أجل الاستعانة بأكبر عدد ممكن من الأساتذة ليقوموا بتدريس العلوم لطلبة الإمارات، حيث إن للهجة المصرية مكانة محببة فى قلوب أبناء الإمارات بفضل أثر الفنون والآداب والموسيقى والغناء فى نفوس العرب أجمعين، ولم يكن الشيخ زايد من هذا الصنف من الزعماء الذين يلجأون للشعارات البراقة أو الخطب الرنانة، ولكنه كان يقوم بدور عروبى وقومى دون رغبة فى استثمار الأمر إعلاميا فكانت دولة الإمارات العربية المتحدة على أهبة الاستعداد دائما لمساعدة أى شقيق عربى يقع فى أزمة أو تحل به كارثة ولا يمكن لأحد أن ينسى وقفة الشيخ زايد بن سلطان مع مصر شعبا قبل حكومة وحكومة قبل رئيس إبان حرب أكتوبر المجيدة، سواء بالمال أو بالمعدات، ونحن لا ننسى أبدا أن المعدات التى استخدمت فى هدم جدران خط بارليف استوردتها خصيصا لنا دولة الإمارات العربية بتكليف من الشيخ زايد الذى لم يتوقف دعمه عند المعركة.. أبدا.. فالعكس هو ما حدث فقد كان الشيخ زايد سخياإلى أقصى حد مع مصر فقرر المشاركة بفاعلية فى إزالة آثار ما خلفته الحرب، وهنا ينبغى أن نذكر بالخير مواقف زايد العظيمة إلى جانب مصر عندما ذهب النادى الإسماعيلى بقيادة ابن الإسماعيلية البار عثمان أحمد عثمان فى جولة خليجية من أجل اللعب مع منتخبات وأندية دول الخليج وتخصيص دخل كل المباريات لصالح إزالة آثار العدوان يومها رافق السعدنى الكبير -رحمه الله- بعثة النادى الإسماعيلى التى لاقت كل حفاوة وترحاب من قبل الشيخ زايد، وكان ذلك بعد نكسة 7691 بأعوام قليلة، يومها قال الشيخ زايد للسعدنى: لقد ساعدتنا يا أستاذ محمود فى عزل الشيخ شخبوط من الإمارة فقد كان بخيلا لم يصرف فلسا واحدا من دخل النفط على إمارة أبوظبى، ساعتها اندهش السعدنى وقال للشيخ زايد: كيف؟ فأجابه الشيخ زايد: بهذا المسلسل الإذاعى الشهير الشيخ «لعبوط» وبالفعل كان السعدنى قد ألف مسلسلا للإذاعة فى الستينيات اسمهالشيخ «لعبوط»، لكنه لم يكن يقصد شخصا بعينه ولا حتى الشيخ لعبوط، لكن المسلسل ساهم فى نجاح عملية إزاحة الشيخ شخبوط.
وأعود إلى مساهمة الشيخ زايد بعد ذلك عندما تحررت مدن القناة عام 1973 عندما قام الشيخ زايد بتحمل فاتورة إعادة بناء مدن القناة الثلاث وعلى رأسها الإسماعيلية، حيث انشقت الأرض التى طالها الخراب والدمار عن أحياء سكنية راقية تحيطها حدائق غناء توافرت فيها أسباب العيش الرغيد لأبناء المدينة الجميلة الذين تحملوا أعباء العدوان فى عام 1967، وكانت عروس مدن التعمير هى مدينة الشيخ زايد فى الإسماعيلية، والتى لايزال أهلها يذكرون بالخير الأيادى البيضاء لهذا الزعيم العربى الذى خلد اسمه وذكراه فى قلوب أهل مصر، ولعلنا إذا ألقينا نظرة على المدن الجديدة فى بر مصر سنجد مدنا كثيرة تحمل اسمه فى أكتوبر وبقاع أخرى من أرض مصر، والشىء المثير للدهشة أن حب مصر وعشق ذرات ترابهاكان فيروسا نبيلا انتقل إلى كل الذين عملوا مع الشيخ زايد ومنهم الرجل الذى قدر له أن يشغل منصبا رفيعا وهو منصب رئيس الديوان السيد على الشرفا الذى من شدة عشقه لمصر تزوج من بين أهلها واستثمر أمواله فيها واستعان بأهل مصر فى أعماله سواء فى مصر أو فى خارجها.. وأعود إلى أيام الدراسة الجميلة التى عشتها فى أبوظبى فأذكر أننى خرجت فى نهاية العام بمادتين أولاهما الرياضة الحديثة وكانت مادة ثقيلة رذيلة والثانية العلوم، وكانت معقدة فى حاجة إلى رأس له قدرات هائلة على الحفظ.. وحدث أن غادرنا أبوظبى وعدنا بعد 3 أشهر من أجل أداء امتحان الملحق والشىء العجيب أننى استعنت بسيارة أجرة للوصول إلى المدرسة وباءت كل محاولاتنا للوصول بالفشل، فقد انشقت الأرض عن ناطحات سحاب فشر نيويورك ونيومانهاتن.. عمران سبحان الذى صور وكور شىء ليس له مثيل فى الكون، لقد تمدد البلد وانتشر العمار ونشأت أسواقومولات تبهر الناظرين، لقد سحرتنى أبوظبى بجمالها ودلالها لدرجة أنستنى الامتحان، وبعد جهد طويل عثرنا على مدرستنا التى كانت وسط الصحراء فقط ومنذ 3 أشهر لا غير فإذا بها يحيطها عمران وحياة وصخب وضجيج وأسواق وزحام وخضرة.. لقد حقق الشيخ زايد بن سلطان معجزة بحق وحقيق ولم يبخل على بلاده فكان سخيا فى العطاء خلق درة فوق جبين الخليج ومفخرة له وهى تلك المتلألئة المنيرة الجميلة الجاذبة للبشر المحبة للحياة، دولة الإمارات العربية المتحدة التى لها فى قلوب المصريين أعظم المنازل بفضل هذا الرجل العظيم.
والذى لاتزال كلماته ترن فى أذنى عندما قال: إن البترول العربى ليس أغلى من الدم العربى، وبالفعل فقد كان الراحل العظيم يعلى شأن العروبة والإسلام فوق كل اعتبار، وقد ترك لأبنائه ثروة لا تقدر بثمن هى بالتأكيد أعظم عشرات المرات من ثروة النفط، إنها المروءة والشهامة والنخوة والنبل وهى ثروة لا تنضب أبدا.. نسأل الله تعالى أن يشمل برحمته هذا الزعيم العربى زايد بن سلطان كما كان رحيما وعطوفا بأبناء هذه الأمة.