«مصر بين دستورين» عنوان أحدث كتب الزميل الكاتب الصحفى «رشاد كامل»، الكتاب يحكى وقائع وملابسات دستور سنة 1932 الذى كان بحق «دستور الأمة» ثم كيف ضاق به الملك فؤاد لأنه يحد من سلطاته، حتى ألغاه رئيس الوزراء إسماعيل صدقى باشا سنة 1930 واخترع بدلا منه دستورا على مقاس الملك أصبح معروفا بدستور صدقى باشا. لم تسكت «الأمة» على اغتيال الدستور، وقاومت بكل الوسائل دستور الاستبداد والطغيان، وشارك فى معركة الدستور كل طوائف الأمة: مسلمين وأقباطا، رجالا ونساء وتلامذة، الصحافة والقضاء، العواجيز والشباب.
يقع الكتاب فى 380 صفحة ويصدر عن دار «ميم» قسم النشر والتوزيع لشركة «إم. جرافيك إنترناشيونال»، وقام بتصميم الغلاف الفنان «مودى حكيم» وهو واحد من أبرز أبناء مدرسة «روزاليوسف - مجلة صباح الخير» فى مجال الإخراج الصحفى والفن التشكيلى.
زميلنا «رشاد كامل» خص «الصبوحة» ببعض الفصول قبل صدور الكتاب كاملا خلال أسابيع.
«صباح الخير»
لم يتورع «إسماعل صدقى باشا» أن يفعل كل شىء وأى شىء فى سبيل قمع معارضيه من أهل السياسة إلى أهل الصحافة، ومن الرجال إلى النساء أيضاً!
حتى المرأة لم تسلم من بطش وعسف وجبروت «صدقى باشا» بل وصل الأمر به وبحكومته إلى اعتقال النساء لأول مرة فى تاريخ مصر وهو ما لم تجرؤ أن تقوم به سلطات الاحتلال الإنجليزى نفسها طوال وجودها على أرض مصر!
لقد شاركت المرأة فى مظاهرات الغضب ضد «صدقى باشا» وحكومته، وفى إحدى المظاهرات التى شهدتها القاهرة وحسب شهادة مصطفى أمين نفسه فقد «قتل 16 شخصاً بينهم ثلاث نسوة وطفل»، وأمرت الحكومة بعدم تشييع جنازة القتلى ومعاملتهم شأن المحكوم عليهم بالإعدام.
لقد نسى أو تناسى «صدقى باشا» ما حدث قبل ثمانى سنوات وكان ذلك فى عام 1922 بعد أسابيع قليلة من إعلان تصريح 28 فبراير الشهير، وبدأ التفكير فى تشكيل الوزارة، والحكاية يرويها «إبراهيم عبدالهادى باشا» فى مذكراته التى نشرتها مجلة «روزاليوسف» على حلقات ابتداء من 3 مايو سنة 1928.
كان منصب وزير الداخلية ثم رئاسة الوزراء من أهم المناصب التى شغلها «إبراهيم عبدالهادى باشا» قبل ثورة يوليو 1925. يقول إبراهيم عبدالهادى باشا:
لما ظهر فى الأفق أن «عبدالخالق ثروت باشا» عزم على تأليف الوزارة قابله وفد من عشرين سيدة من عقيلات كبار رجال مصر مستنكرات ما يشاع فأكد لهن أن وطنيته تأبى عليه تشكيل وزارة فى الظروف الحاضرة.
ثم قابل نفس الوفد «إسماعيل صدقى باشا» وكانت من بينهن حرمه فأكد لهن بدوره بأنه لا يقبل أبداً تشكيل وزارة فى الظروف الحاضرة.
والمعنى الواضح فى السطور السابقة أن «صدقى باشا» كان من سعة الأفق والذكاء والتحضر «خريج مدرسة الفرير الشهيرة» أن يقابل ويستمع لخيرة نساء مصر بل يستجيب لما طلبن منه!! وإذا كان صدقى باشا قد اشتهر بأنه عدو الشعب، لكنه فى الواقع لم يكن أبداً عدواً للمرأة، بل كان محباً وعاشقاً له صولات وجولات.
قال عنه الصحفى الكبير «حافظ محمود»« إنه عاش إلى سن السبعين وهو فارس من فرسان العاطفة، لكن الأخطر من ذلك هو ما حرص الزعيم «مصطفى النحاس» على روايته فى مذكراته عن صدقى باشا أيضاً سنة 2391 وكانت مناسبة الحديث هو ما تناقلته الأوساط المالية والتجارية حول كورنيش الإسكندرية وأن صدقى باشا حصل على رشاوى مالية كبيرة مقابل إرساء تشييد الكورنيش لمقاول إيطالى! وهو ما دعا النحاس باشا إلى أن يكتب قائلاً: «وليس بجديد على «صدقى» ما يقال الآن فإن تاريخه القديم والحديث مملوء بالمآسى والمخازى والحوادث المالية والأخلاقية، وأن التاريخ يعيد نفسه فإن «سعداً» فصل «صدقى» من عضوية الوفد المصرى لفضيحة أخلاقية ارتكبها فى باريس، وكلفت «سعداً» مبلغاً من المال الذى أعد للجهاد، اضطر «سعد» أن يدفعه حتى يتحاشى فضيحة لو نشرت على الملأ لأصابت «الوفد» الناشئ للدفاع عن قضية مصر بعد الحرب العالمية فى الصميم».
وإذا عدنا إلى التاريخ البعيد إلى ما قبل الحرب العالمية لرأينا أن صدقى فصل من الوزارة لجريمة أخلاقية تسببت فى حادث انتحار لسيدة من بنات مصر لاتزال قصتها مع «صدقى» تزكم الأنوف وتؤذى الأسماع إلى الآن!!».
وما لم يذكره «النحاس باشا» فى مذكراته روته «د. صفاء شاكر» فى كتابها عن صدقى باشا والذى كان وقتها وزيراً للأوقاف فى وزارة «حسين رشدى باشا» الثانية التى شكلها فى 19 ديسمبر سنة 1941 فتقول:
«وبالرغم من هذا النشاط المكثف لصدقى باشا بوزارة الأوقاف فقد أعفى من منصبه فى مايو 5191 والحقيقة إنه لم يشر فى مذكراته إلى أسباب إعفائه من مركزه إلا أن اقصاءه لم يحدث على الإطلاق لأسباب سياسية»!
فقد أرسل صدقى خطاباً إلى رئيس الوزراء ضمنه استقالته، ولما عرض «حسين رشدى» هذه الاستقالة على السلطان «حسين كامل» وافق عليها فى الحال وأصبح صدقى باشا محروماً من دخول سراى عابدين إلى أن توفى السلطان!
وخلاصة الحادث إنه كان طرفاً فى فضيحة مع ابنة «يحيى باشا إبراهيم» فى عوامته بإمبابة، وقد آثرت ابنة يحيى إبراهيم الانتحار على مواجهة الفضيحة، فتناولت السم عقب التحقيق معها فى قسم عابدين وإطلاق سراحها على إثره».
ولعل المذهل فى هذه الواقعة البالغة الخطورة هو ما جاء فى كتاب الباحث والكاتب الأستاذ «محمد سيد كيلانى» واسمه «السلطان حسين فترة مظلمة فى تاريخ مصر» إذ يقول:
ومن العجيب أن إسماعيل صدقى مشى مع المشيعين فى موكب جنازتها، ولما علم السلطان «حسين» بهذه الحادثة دعا إليه إسماعيل صدقى ونهره وقال له: أنت داعر، وقيل ركله وأمر بإقالته!
وكتب صدقى باشا يقول فى نص استقالته: «شعرت بأننى لست حائزاً للرعاية التى تعودتها من عظمة السلطان، وقد حاولت نفى المزاعم الفاسدة التى وجهت إلىَّ فلم أتمكن من ذلك، لهذا رأيت مع الأسف أن أقدم استقالتى من منصب وزير الأوقاف».
لم تشهد مصر انتخابات فاضحة وفادحة وصادمة مثلما جرى فى انتخابات «إسماعيل صدقى باشا» فى منتصف مايو سنة 1931.
اجتاح الغضب كل مصر قبل وأثناء وبعد هذه الانتخابات التى لم يحدث لها نظير فى تاريخ الانتخابات المصرية!
وكانت النساء فى مقدمة من سددن فاتورة ما جرى فى تلك الأيام!
وصفت صحيفة الأهرام فى عددها 51 مايو ما حدث بقولها: «فى الوايلى اقتصر الأمر حتى الساعة الحادية عشرة على مظاهرات طلاب مدرسة فؤاد الأول، ووقفت بعض السيدات فى شرفة أحد المنازل يهتفن هتافات مختلفة ويدعون المارة للاشتراك فى المظاهرات والحض على مقاطعة الانتخابات فى هذه الدائرة.
وبقيت الحالة على ما هى عليه حتى صدر أمر باقتحام المنزل، وأنزلت السيدات إلى القسم، وكان عدد كبير منهن من كرام العائلات، حرم «حسن نبيه المصرى بك»، وحرم «على باشا فهمى»، و«وحيدة ثابت»، وكريمة على سالم بك، وحرم على بك زيتون، وحرم إبراهيم بك نور الدين، وليزة ميخائيل مقار.
وفى هذه الأثناء اشتد هياج الجمهور وهجم على القسم يريد إخراجهن فتصدت القوات للمهاجمين، وأعملت فيهم العصى وقبضت على عشرة منهم.
ولم يكن ما حدث فى طنطا إلا صورة لما حدث فى القاهرة من اشتراك السيدات الوفديات فى الحض على مقاطعة الانتخابات مما أدى إلى القبض على عشرين منهن: روحية خطاب، منيرة المحلاوى، قدرية البهى خطاب، مغارى عجمى، زهرة عبدالعزيز جلال، درية إسماعيل الملوانى وأخريات.
ومنع أهاليهن من الاتصال بهن، وفى العاشرة من صباح اليوم التالى تألفت مظاهرات فى بعض الشوارع وفى ميدان الساعة حيث كانت السيدات المعتقلات مشرفات عليهم من نوافذ الاستراحة المحتجزات فيها ويلوحن لهم بالمناديل، ولما استشعر رجال البوليس بهذه الحالة صعدوا إلى الاستراحة وقفلوا هذه النوافذ ثم أخذوا فى تفريق هذه المظاهرات.
وتضمنت مذكرات «مصطفى النحاس باشا» زعيم الوفد بعض تفاصيل ما جرى من اعتداء «الحكومة الصدقية» على نساء مصر فيقول فى مذكراته:
نظم عدد كبير من عقيلات المصريين مظاهرة احتجاج خرجت من بيت «حرم أبوأصبع» من الجيزة وضمت عدداً كبيراً من أكرم الأسر وكبار السيدات البارزات فى المجتمع منهن: «شريفة هانم رياض» وحرم إسماعيل سرهنك باشا، وحرم إسماعيل حب الرمان بك ولجنة السيدات الوفديات، وعدداً من الصحفيات البارزات وعلى رأسهن منيرة ثابت وإستر ويصا وبلسم عبدالملك وعقيلات أعضاء الوفد والهيئة الوفدية.
وسارت هذه المظاهرة من الجيزة تخترق شوارعها وهى تهتف يحيا الوفد ورئيسه، ودستور الأمة والحياة النيابية، وتستنكر الحكومة وأساليبها، وتعلن سخطها على الجرائم التى ارتكبها رجال الإدارة والتى ارتكبوها فى الانتخابات المزورة، وخرج مدير الجيزة وحكمدارها وقوة كبرى من البوليس تحاول أن تمنع المظاهرات، ولكنهم لم يستطيعوا وأسقط فى يد مدير الجيزة وأخذ يضرب أخماساً فى أسداس وشعر بأن الزمام قد أفلت من يده وأن المظاهرة لو خرجت من اختصاصه ووصلت إلى القصر الملكى أو وزارة الداخلية فستكون العاقبة وخيمة.
ويمضى النحاس باشا قائلاً: فاتصل بمدير الأمن العام وهو ابن شقيقة «صدقى» وأستأذنه فى أن يضرب المتظاهرات بالرصاص حتى يتفرقن، ولكن «أحمد كامل» مدير الأمن قال له:
انتظر حتى آخذ رأى الباشا!!
ودخل على «صدقى» وأخبره الخبر، فاضطرب وهاج هياجاً شديداً وثار فى وجه ابن أخته وقال له: - أتريد أن تأتى أنت ومدير الجيزة لنا بمصيبة جديدة، ألم يكف ما نحن فيه من مشاكل وأزمات حتى تأتى مظاهرة السيدات فوق البيعة، قل لمدير الجيزة أن يحاول بأى طريق غير طريق إطلاق الرصاص فض هذه المظاهرة.
وخرج «أحمد كامل» وعاد بعد قليل وهو يقول إن المدير أعيته جميع الحيل ولم يستطع أن يقاوم غضب السيدات، فسكت «صدقى» كأنه يحاول أن يجد حلاً لهذه المشكلة، وأخيراً قال:
- قل للمدير الغبى بدلا من أن نطلق الرصاص، حاصرهن فى حديقة الأورمان، حتى إذا ما اجتمعن سلط عليهن خراطيم المياه حتى تتبلل ثيابهن ويحاولن أن ينشغلن بإصلاح ملابسهن، وعندئذ تكون القوات قد سدت جميع المنافذ ولا تسمح بالخروج إلا لواحدة واحدة، وبين الواحدة والأخرى عشر دقائق على الأقل، ونفذ المدير الهمام أوامر سيده !!
وظلت السيدات محاصرات فى حديقة الأورمان طيلة اليوم، ولم تخرج آخر واحدة منهن إلا عند غروب الشمس، لكن هذه المظاهرة كان لها وقع قوى على صدقى وعلى سادته ومؤيديه. جانب آخر من الصورة يرويه الأستاذ الكبير «مصطفى أمين» فيقول:
وأمر صدقى باشا بالقبض على السيدات ووضعن فى أقسام البوليس فى السجون المخصصة للعاهرات والنشالات رغبة فى الحط من شأن السيدات المتظاهرات، وإذا «بصفية زغلول» أم المصريين تذهب بنفسها إلى قسم بوليس السيدة زينب وتصر على البقاء فى القسم مع زميلاتها المتظاهرات.
وعندما علم الشعب بأن أم المصريين موجودة فى قسم البوليس هاجت الناس وتجمعت أمام القسم تريد اقتحامه، وخشى رجال الأمن أن ينفجر الموقف فأسرعوا بالافراج عن السيدات المقبوض عليهن، وثارت ثائرة الرأى العام لأن السلطات الإنجليزية العسكرية أثناء ثورة 9191 لم تجرؤ على القبض على السيدات المصريات فى المظاهرات، بينما فعل «صدقى باشا» هذا فى عهد الاستقلال.
ويروى «مصطفى أمين» هذه الواقعة المهمة والتى بطلتها السيدة «روزاليوسف» وأيضاً المجلة فيقول:
كان أسلوب التابعى الساخر يجعل حكومة «صدقى باشا» موضع سخرية الرأى العام، وكان هذا الأسلوب اللاذع يضايق «إسماعيل صدقى» الذى كان يحب أن تظهر حكومته أمام الجماهير فى صورة مهيبة محترمة يرهبها الشعب فلا يجرؤ أحد على الانقضاض عليها..
وحدث مرة أن التقى بالتابعى، فلم يلمه على النقد ولا على السخرية وإنما قال له: إن مصوركم الكاريكاتورى يرسم وجهى قبيحاً، بينما أن وجهى أجمل من وجه النحاس باشا. إن حديث «صدقى باشا» للأستاذ «التابعى» يكشف عن أحد جوانب شخصية صدقى باشا حيث وصفته د. عفاف لطفى السيد بأنه كان جذاباً ومثقفاً ومتحدثاً لبقاً، كان يأسر أصدقاءه وأعداءه على حد سواء، ولم يكن يؤمن كثيراً بأى شىء سوى رغبته فى الوصول إلى السلطة.
ومن هذه الملاحظات إلى هذه القصة التى كانت بطلتها السيدة «روزاليوسف» ويرويها الأستاذ «مصطفى أمين» فيقول:
استقبل صدقى باشا ذات مرة السيدة «روزاليوسف» وقد ذهبت إليه تحتج أن البوليس يحاصر المطبعة التى تطبع مجلتها.
وقابلها «صدقى باشا» بلطف وظرف وأدب واحترام وقال إنه سعيد بلقائها وأنه سيأمر البوليس فوراً أن يفك الحصار عن المطبعة!
وخرجت السيدة «روزاليوسف» سعيدة بهذه المقابلة، وبعد خروجها اتصل صدقى باشا «بأحمد كامل بك» مدير الأمن العام وقال له:
فكوا الحصار فوراً عن مطبعة مجلة روزاليوسف.
ثم سكت قليلاً وقال: طبعا بعد أن تصادروا جميع نسخ مجلة «روزاليوسف» التى تم طبعها!
ولم تكن روزاليوسف - كما يقول مصطفى أمين - تطلب فك الحصار عن المطبعة، وإنما كانت تريد فك الحصار عن النسخ المطبوعة من مجلة «روزاليوسف».
ولم تكن السيدة «روزاليوسف» ومجلاتها العديدة وحدها فى الميدان، بل كان هناك أيضاً السيدة «هدى شعراوى» رائدة المرأة العربية الحديثة ومجلتها «المصرية» التى صدرت ابتداء من فبراير سنة 1952