طفل يبحث عن «لقمة» وآخر يبحث عن «لعبة».. وكلاهما يبحث فى كوم زبالة. قطط بشرية صغيرة لم تجد ما تأكله فخرجت تبحث عما يسد جوعها لكنها للأسف لم تجد غير صناديق القمامة كى تحوم حولها أو تعبث بما وقع خارجها. بمخالب صغيرة رأيته ينبش وبقدم عارية وجدته يتحسس طريقه بين أكوام القمامة وبنظرة ثابتة نظر لى وقال «أنا جعان»!! شعور مختلط ما بين الاشمئزاز والعطف والحزن ولكن عندما نظرت إلى عينى هذا الطفل فاجأنى بنظرة لوم قد سبقنى فى الرد عليها. وظلت هذه النظرة معى معلقة بذهنى وكنت كلما صعدت درجة سلم تذكرت هذا الطفل الذى يتهاوى فى بئر الفقر والمرض والحرمان. عشرات من الأطفال يبدأون يومهم وهم يحملون فوق ظهورهم أكياسا لجمع القمامة بدلا من حقائبهم المدرسية، تكاد تخرج صرخاتهم خافتة فلا تجد من يسمعها وحتى إن سمعها أحد أغلق أذنيه ليعود صداها إليهم مرة أخرى ثم يقضون يومهم نهشا فى هذه الأكياس بحثا عما ينفعهم ليأكلوه أو ليعودوا به كاملا إلى «المعلم الكبير» ويأخدوا اليومية. فرأيت أطفالا تعرت أقدامهم كما تعرت نفوس من سرحوهم.
سمعت مثل غيرى عن هؤلاء الأطفال ولكن فى السابعة صباحا وأنا فى طريقى إلى المترو وكعادة الشارع فى هذا الوقت من قلة الحركة «والكلام» شاهدت هذا النموذج الذى قطع الصمت وقطع معه الحركة فتوقفت.. صراخ هبة الطفلة ذات الخمس أعوام مع أختها الأصغر وهما يتقاتلان وسط الزبالة على علبة كولا لتشرب قليلا مما تبقى بها وما أن لاحظتنى والدتهما حتى صرخت فى ابنتها وقالت سيبيها لأختك ياهبة ولم تبال الأم كثيرا بوجودى كما لم تبال بنبش صغارها وسط الزبالة واضعين أصابعهم فى أفواههم وكأنهم يلعبون وسط الخضرة. وتساءلت بداخلى عن السبب هل هو الجهل أم الإهمال أم أن هناك سببا أدعى وأهم من ذلك ألا وهو الفقر والحاجة وربما الموت جوعا.
∎ التطهير بزجاجة «سبرتو»
تكررت الحالات والأسباب.. حتى رأيت زكريا10 سنوات طفلا يبدو عجوزا شاحب الوجه ممزق الملابس يحمل على ظهره جوالا كبيرا يكاد يقسم ظهره من ثقل ما يحمله خارجا من شارع بورسعيد فسرت وراءه قليلا حتى وصل إلى صندوق للقمامة يقف فيه أخوه الأصغر هانى كما ناداه ليحمل عنه الجوال ويتولى فرزه، فوجدته يفرغ ما بداخله من أكياس بسرعة ومهارة ليأخذ زجاجات البلاستيك والكرتون والورق ثم يلقى بالباقى فى الصندوق وهنا قاطعته عن عمله ليحكى لى عن عالمه، فقال: «أنا باشتغل فى المهنة دى وأنا عندى خمس سنين وكنت باخرج مع أبويا الصبح بدرى فى عز البرد ننقض الزبالة فى الشارع ونأخذ إللى إحنا عايزينه ونتاجر فيه ولحد دلوقتى أنا وإخواتى الثلاثة كلنا شغالين فى نفس الكار بس موزعين المناطق يعنى أنا واخد التحرير وعابدين والسيدة وأخويا التانى إمبابة والدقى وبعد ما نفرز الزبالة بياخدها والدى ويبيعها للتجار وبيراضينا ب10 جنيه فى اليوم لكل واحد»، وبينما كان يتحدث فقد أصيب أخوه زكريا فى يده وهو يخرج الزبالة من أكياسها فأسرع إلى البقالة المجاورة لنا وتعجبت هيجيب إيه من البقال؟ ووجدته قادما وهو يحمل زجاجة «سبرتو» وعندما سألته فى عفوية هتعمل بيها إيه؟ قال عشان أطهر الجرح وأضاف قائلا: أسوأ حاجة فى شغلنا ده الإبر اللى الناس بترميها من غير غطا.. ولكنى تركته قبل أن يبدأ عملية التطهير.
∎ «قطة» تحب الفراولة
6سنوات هو عمر الطفل رضا عبد الفتاح والذى تواجد فى سوق الخضار بشارع سليمان جوهر بالدقى لا ليبيع ولا ليشترى إنما ينتظر من يلقى بثمرة قد أصابها العطب ليحملها فى كيسه الأسود ويجلس منتظرا الأخرى، حتى عندما أعطيته واحدة سليمة قال لى «مش عايزها لأن طعمها بيكون غير إللى أتعودت عليها. وأنت متعود على إيه؟ كل يوم بعد المدرسة أعدى على السوق من غير حد ما يعرف وآخد الفاكهة إللى الناس بترميها وأكلها.
- وفين مامتك؟ ماما بتشتغل دادة فى المدرسة بتاعتى بس هى بتتأخر فبارجع البيت لوحدى وساعات تقوللى أستناها وأرجع معاها.. وأنت بتحب إيه؟ بحب الفراولة قوى!!
∎ خمسة أعقاب سجاير بجنيه
سمير عواد10 سنوات أسمر البشرة (لا أعرف من حرقة الشمس أم من غبار السنين) يبحث فى كوم قمامة مجاور لأحد المقاهى عن شىء محدد فى البداية لم أعرف ما هو لكنى انتظرت حتى انتهى واضعا شيئا فى جيبه ثم انصرف واقتربت منه وسألته ولكنه لم يبد اهتماما حتى أعطيته جنيهين فقال لى «أنا باجمع أعقاب السجاير وبابيعها لأصحابى الخمسة بجنيه».
- وهى دى شغلانتك؟ لأ أنا زبال (تحت السن القانونية) ثم ضحك وقال: جوز أمى بواب وهو إللى خرجنى من المدرسة وقاللى هشغلك شغلانة كويسة تجيب كل يوم زبالة العمارة وتفرزها من غير ما ترمى أى حاجة واليوم بجنيه وكنت باخد الأكل اللى فى الزبالة وأديه لإخواتى من غير ما يعرف علشان كان بيضربنى لما أعمل حاجة من وراه.
- وكنت بتلاقى إيه تاكله؟ سكان العمارة بيرموا أكل كتير يعنى مثلا بواقى الرز والمكرونة والعيش وساعات ألاقى برتقانة نصها سليم آخده وأرمى الباقى.
- وبتعمل إيه باقى اليوم؟ بنسرح أنا وأخويا الكبير عند محلات الأكل ولما بيخرجوا حاجة فى الزبالة بنجرى ناخدها.
∎ أطفال «سريحة»
ومن العمل الفردى إلى «سريحة» المعلم، كما قال أحمد فتحى 9 سنوات: أنا باخرج كل يوم من البيت الساعة 6 قبل الناس ما تصحى وأخد معايا كيس بلاستيك وبلف فى الشوارع على أكوام الزبالة وأدور فيها على أكل بايت وساعات بلاقى بواقى سندويتش أو بيضة مسلوقة وأحسن حاجة لقيتها «قطر» لعبة بس كان مكسور لكن صلحته وأختى الصغيرة بتلعب بيه.
- وفين أهلك؟ أمى بتخرج بدرى بتبيع مناديل عند المترو.
- ووالدك؟ أمى قالت لى أنه مسافر! وأنت بتشتغل إيه؟ أنا صبى معلم زى أصحابى ننزل نجمع العيش والبلاستيك وعلب ال«كانز» من الزبالة فى أى مكان واللى يجمع أكثر بياخد أكثر وكيلو العيش بجنيه والبلاستيك 2جنيه. مش خايف من الأمراض؟ أنا كنت مش خايف لكن فى واحد صاحبنا مات من 3شهور وقالوا أنه مات.
∎ اللقمة الحلال
ومن نابشى القمامة إلى حامليها فى صناديقهم البلاستيكية الخضراء يطوفون بها الشوارع، يرتدون زيا موحدا فيما يسمى «يونيفورم» (حتى تكتمل الوجاهة) إلا أن تجاعيد وجوههم التى تفنن الزمن فى رسمها قد أفسدت الزينة وكشفت حقيقة هؤلاء البسطاء، ولن أطيل عليكم فى الوصف ولكن إليكم عم محمد أحمد الرجل العجوز الذى أراه كل يوم ببدلته الزرقاء الممزقة حاملا مقشته دافعا أمامه عربة الزبالة بعد أن علق بها تشكيلة من الأكياس التى صنفها على حسب ما تحويه فهذا عيش مكسر وهذه زجاجات بلاستيكية وأخرى زجاج مكسور يعمل فى صمت حاملا «أمتعته» من مكان لآخر وهكذا.. ولكن أردت أن أعرف إلى أين ينتهى قائد هذه العربة؟ فمشيت وراءه حتى انتهى إلى مكب للنفايات يلقى به ما حمله ليبحث عن مكان آخر وهنا تحدثت معه. كنت فينك ياعم محمد من ثلاثة أيام؟ فقال لى كنت تعبان فى البيت. ولا فى الإضراب؟ هكذا سألته. فابتسم وهكذا رد، إضراب إيه إحنا ملناش فى الكلام ده إحنا ناس غلابة عايزين نعيش بس وطول عمرنا جنب الحيط، وعندما سألته عن الأكياس المعلقة بعربته قال دى نعمة ربنا الناس بترميها وإحنا ناخدها نبوسها وناكلها. وبتلاقى ايه فى الزبالة؟ اللقمة الحلال! ثم تركنى وهو يدفع عربته بعيدا معتذرا ليكمل عمله قبل نهاية اليوم حتى لا يتعرض للخصم.
∎ «من صفيحة القمامة غذاء لأطفالها»
سيدة تبلغ من العمر حوالى أربعين عاما تقف أمام صفيحة القمامة ممسكة بكيس أسود تجمع به بقايا الطعام من داخل الصفيحة، اقتربت منها لأسألها عما تفعل فقالت: لدى أطفال صغار ينتظروننى بالمنزل جياعا، حاولت كثيرا أن أبحث عن عمل يتوافق مع ظروفى الصحية لكننى لم أجد، وبما أن هذا الشارع هو شارع تجارى يتميز بكثرة المطاعم والمحلات التجارية فإن كثيرا من فضلاتهم تصلح لأن تسد رمق أطفالى الصغار، لذا أتناول أنا قشر البرتقال لأسد به جوعى دون أن أؤثر على ما جمعته لأطفالى، كما أننى أسعد كثيرا عندما أجد بقايا طبخة أو أكلة منزلية مربوطة داخل كيس لأن الجميع يلقى بفضلاته مباشرة إلى السلة ولا يتوقع أن يأكلها أحد من بعده.