يحلو لنا أحيانا أن نتكلم عن الزمن الجميل ونقصد به ذلك الزمن الذي مضي، وكأن هناك مرحلة في الزمن ذاته تتصف بأنها جميلة،وأنها ذابت واختفت في المجهول. الواقع أن لكل منا زمنه الجميل، ولعل هذا الزمن ليس له وجود في الواقع بل هو موجود بداخلك أنت، أي أنك في وقت ما امتلأت بأن الواقع كله جميل، ولعل السبب في ذلك علي حد تفسير الشاعر الشابي، إنك كنت أنت نفسك جميلا. غير أن نزار يكتشف أرضا جديدة في حياة البشر، وهي أن الحب هو المصدر الأول للجمال وليس العكس، فأنت تتعلق بفكرة ما أو بشخص ما، ليس لأنه جميل، بل هو جميل لأنك تحبه.. قولي أحبك، فبغير حبك لا أكون جميلا. أريدك أن تدقق قليلا في ملامح هؤلاء الذين يحبون عملهم وينجزون فيه إنجازا كبيرا، استعرض في ذاكرتك صور هؤلاء الذين كافحوا من أجل قضايا سامية، أليست الصفة الأولي لهم هي الجمال، وفي المقابل، ألا نقول أحيانا عن بعض الناس إن وجهه عليه غضب ربنا؟ فإذا كان الله سبحانه وتعالي هو الخير الأسمي، فلابد أن غضبه يتبدي في أشد القبح قبحا، يالبؤس هؤلاء الذين ارتسم غضب الله علي وجوههم. قد تظن العمر أعواما تطول أو تقصر ولكن صدقني، العمر لحظة واحدة، إنه هذه اللحظة التي تقرأ فيها هذا المقال تري بماذا يحلم أطفال هذا الزمن؟ الإجابة عن هذا السؤال ربما أعطتنا فكرة عن إنجازات المستقبل، أما جيلي فقد كانت الأحلام تحتل بداخله مساحات شاسعة، كنا نكتب بالحبر مستخدمين الريشة، وكان لها سن ذو لون ذهبي غير أنها كانت مصنوعة من معدن رخيص، تغمسه في الحبر وتكتب به عدة كلمات فينثني، تحاول أن تعدله فيأبي، ولكي تطوعه تتصور نفسك حدادا، وتخلع الغطاء الزجاجي عن اللمبة نمرة خمسة ثم تقترب به من النار فينعوج أكثر، وفي النهاية تضيع الليلة ويستولي عليك النوم فتنام مفزوعاً خوفاً مما ينتظرك في الغد من عقاب علي الواجب الذي لم تؤده. في هذا الموقف يمتلئ فؤادك بحلم واحد هو أن تحصل علي قلم حبر، وهو ما كنا نسميه قلم أبنوس. من الأخبار التي كنا نتناقلها في دهشة وحسد.. مش الواد فلان أبوه جاب له قلم أبنوس. وظهر القلم الجاف، وهو من أرخص و أعظم اختراعات العصر، في عام 1965 سافرت إلي بوخارست، وفي الشارع كانت الأطفال ترحب بنا وتقدم لنا الورود، ثم تتكلم معنا بلطف وكأنها تطلب شيئا، مددت يدي لطفل بقطعة عملة معدنية فرفضها في أدب، قال لي صديقي الذي يعرف اللغة الرومانية: هو يطلب منك قلم جاف.. وضاعت الدول الشيوعية، فعندما تتوافر لديك الصواريخ النووية وأطفالك يستجدون الأقلام البلاستك من السياح فلابد أن يخسف الله بك الأرض. التكنولوجيا جعلت حياة البشر أكثر سهولة وأكثر سخافة أيضا، قضي الإيميل علي انفعالات البشر الجميلة، إنه لا يسمح لك بالغياب عن الآخرين، ولا يسمح لهم بالغياب عنك، ذلك الغياب الذي يعطيك ذلك الإحساس الممتع بالقلق.. يا تري فلانة عاملة إيه دلوقت؟ .. يا تري جوابي وصل لها؟.. متي ترد..؟ هي لن ترسل الرد علي عنوانك بالطبع، بل علي أحد البقالين، ومنه ليد فلانة.. وفلانة هذه هي أنت... وتسأل محاولا إخفاء قلقك: هو البوسطجي ما عداش النهار ده يا عم عبده..؟ لأ.. لسه.. ويستولي عليك الغم. وتجلس علي المقهي القريب تستمع لعبد الحليم حافظ.