تعرضنا في الحلقة السابقة إلي إعلان برجنيف الزعيم السوفيتي أمام الحزب الشيوعي السوفيتي كيف أن التهديد والتحذير القوي الذي أرسلته موسكو في يونيو 1967 إلي الرئيس الأمريكي جونسون وإلي إسرائيل والذي قرنته بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل قد أدي بالفعل إلي وقف الهجوم الإسرائيلي علي سوريا والذي أصبح يهدد باحتلال العاصمة السورية نفسها. المؤرخون في ذلك الوقت لم يتوصلوا إلي رأي مرجح هل بالفعل كان التهديد السوفيتي هو العامل الرئيسي في وقف تقدم الهجوم الإسرائيلي أم لا، وهل يماثل ذلك بالموقف الذي اتخذته موسكو تجاه العدوان الثلاثي «البريطاني الفرنسي الإسرائيلي» علي مصر عام 1956 والذي هددت فيه باحتمال قصف لندن وباريس بالأسلحة النووية، وهل كانت موسكو تعني ذلك بالفعل أم أنه مجرد تهويش. كمعاصر لهذه الفترة الحرجة أقول بكل وضوح إنه لا يمكن انكار الدور السوفيتي في مساعدة القاهرة ودمشق في هذه الأيام الحرجة، فبالرغم من حسابات موسكوالعالية في إدارة الصراع والتنافس السوفيتي الغربي، فإن القاهرة ودمشق كانتا مكشوفتين لعدوان إسرائيل والتي كانت تستطيع مواصلة عدوانها، ولولا خشية الرئيس جونسون وواشنطون لاحتمالات نشوب صراع قد يخرج عن نطاق السيطرة مع موسكو فضلا عن إدراكها أن حليفتها إسرائيل قد تمادت أكثر من اللازم لما أمكن تحقيق هذا «الضغط» الأمريكي علي إسرائيل وبدون ذلك ما كانت إسرائيل تأبه لتحذيرات موسكو ولكنها بالفعل كانت مدينة للولايات المتحدة. ولا يجب أن ننسي هنا إسرائيل كانت قبل يومين «أي في 8 يونيو» قد قامت بقصف السفينة الحربية الأمريكية ليبرتي عمدا التي كانت بالقرب من العريش وقتلت أكثر من ثلاثين بحارا أمريكيا دون أن يجرؤ جونسون علي إدانة هذا العمل الموجه ضد الولاياتالمتحدة. هذه القضية لا تزال مثارة حتي اليوم من قبل بحارة السفينة الأمريكية وعائلات الضحايا الذين يعيبون علي دولتهم خضوعها للابتزاز الإسرائيلي وهو ما سنتعرض لها بإذن الله في مقالات قادمة. هذه السفينة للعلم كانت تساعد إسرائيل في التشويش علي الرادارات المصرية، ولكن إسرائيل قصفتها عندما أيقنت أنها سجلت تقدمًا إسرائيليا في سيناء أكثر مما كان متفقا عليه مع واشنطون. الآن نتطرق إلي موضوع آخر مرتبط بأزمة وتطورات عدوان عام 1967، من المعروف الروابط الرسمية الوثيقة التي كانت تربط مصر بيوغوسلافيا وتزعمها مع الهند وإندونيسيا إنشاء حركة عدم الانحياز فضلا عن الروابط الشخصية الحميمة بين الرئيس عبدالناصر والرئيس تيتو رئيس يوغوسلافيا الذي كان ينظر إليه كزعيم وطني مكافح قاد بلاده ضد احتلال النازي في ملحمة بطولية وأنشأ دولة يوغوسلافيا الحديثة التي كانت تجمع أطيافا مختلفة تحت سقف واحد وبوفاته بدأت الصراعات الداخلية تنمو حتي انتهت بانهيار الدولة اليوغوسلافية في الدول العديدة التي انفرطت عنها. وكانت يوغوسلافيا في عهده مثالا للدولة الوطنية، فبالرغم من أنه كان شيوعيا إلا أن موقفه المستقل عن موسكو كان يضرب به المثل علي الاستقلالية وعدم الخضوع لأي ضغوط وكانت بعض أفعاله تثير غضب موسكو كثيرا. ولذلك فإن عبدالناصر وتيتو وجدا أنهما متقاربان في التفكير والأيديولوجية في نفس الوقت. وأتذكر من خلال عملي في وزارة الخارجية المصرية أنني لم أشهد تعاونا وتشاورا بين الدبلوماسيين المصريين واليوغوسلافيين والهنود كما شهدته خلال هذه الحقبة من تاريخنا. ولا يمكن أن أنسي أيضا أن تيتو خلال أيام من حرب أكتوبر 1973 سارع بتزويد مصر بعدد كبير من الدبابات سحبها من الجيش اليوغوسلافي نفسه وجعل من أراضي بلاده معبرا رئيسيا للأسلحة السوفيتية لمصر. من الأرشيف اليوغوسلافي السري - رئاسة الجمهورية - نجد محضر مقابلة الرئيس تيتو مع السفير حمدي أبوزيد سفير مصر في بلجراد يوم 30 مايو 1967 أي في خضم تطور الأزمة قبل العدوان بخمسة أيام.. نقل السفير المصري تحيات الرئيس عبدالناصر إلي الرفيق الرئيس «كان ذلك أسلوب التخاطب في الدول الشيوعية التي ألغت الإلقاء واستبدلتها بكلمة رفيق تعبيرا عن المساواة بين الجميع» وأعرب عن شكره لما قدمته يوغوسلافيا من مساعدات لمصر وأبلغه أن وزير الحربية المصري طلب بصفة عاجلة عندما كان في موسكو المساعدات السوفيتية التي وعدت بها «يقصد هنا زيارة شمس بدران وزير الحربية المصري لموسكو». أجاب السفير ردا علي السؤال من تيتو أن الوضع قد تحسن بعض الشيء وأن الحكومة المصرية طلبت من مجلس الأمن الدولي عقد اجتماع، لأنها تعتقد أن المصدر الرئيس للأزمة يجب ألا يتم البحث عنه في خليج العقبة «الذي أغلق أمام الملاحة الإسرائيلية» ولكن في العمليات العدوانية ووجود إسرائيل نفسها. وتعتزم مصر أن تنقل إلي مجلس الأمن كل المشاكل التي تراكمت منذ 1949، مضيفا أن الامبرياليين لا يضعون في اعتبارهم مدي التضامن بين الدول العربية لأنهم يعتقدون أنه يمكن عزل مصر التي تلقت مساعدات من كل الدول العربية فيما عدا ليبيا «لم تكن ثورة الفاتح في ليبيا بقيادة معمر القذافي قد وقعت بعد وإنما كان ذلك خلال العصر الملكي الذي كان مرتبطا بالغرب وكانت في بلاده قاعدتان عسكريتان الأولي هويلس التابعة للولايات المتحدة والأخري بريطانية». أشار السفير إلي أنه بالرغم من تحسن الوضع، إلا أن الخطر لم يزل كلية إذ إن الولاياتالمتحدة لا تزال تصر علي حرية الملاحة في خليج العقبة، والدول الغربية لها مواقف متعددة ففرنسا الآن محايدة وهو ما أشاد به الرئيس عبدالناصر في مؤتمره الصحفي وهو يريد فقط أن تكون الولاياتالمتحدة محايدة. ويشير المحضر إلي أن الرئيس تيتو رغب أن يعرف عما إذا تم بالفعل إغلاق خليج العقبة وهو ما أجاب عليه السفير بالايجاب مشيرا إلي أن إحدي ناقلات البترول التي يعتقد أنها ترفع العلم الليبيري حاولت أن تمر عبر مضايق تيران ولكن المدفعية المصرية أطلقت تحذيرا لها مما جعلها تستدير وتعود أدراجها، وأضاف أن المشكلة الفلسطينية ستضم أيضا في العرض الذي ستقدمه مصر إلي مجلس الأمن. في الحلقة المقبلة نستأنف مقابلة الرئيس اليوغوسلافي تيتو مع السفير المصري في بلجراد والتي تعرضت إلي موضوعات مختلفة.