لعلها المرة الأولي التي يستند فيها جمال مبارك في كلمته أمام مؤتمر الحزب الوطني، يوم الأحد، إلي ثلاثة من أهم معالم الفكر المصري الحديث.. ورواد الإصلاح.. وبيارق التنوير.. ولعلها المرة الأولي التي يعود فيها سياسي في مثل موقع أمين السياسات إلي هذه الخلفية الفكرية وهو يتحدث عن مواصفات الدولة المدنية الحديثة.. التي تسعي مصر إلي تعزيزها.. استيحاءً من تراثها الرائع.. ووسطيتها التي تكثف عليها تراب التطرف. لقد تحدث جمال مبارك في الكثير.. في أمور ومجالات مختلفة.. لكن هذا الاستناد إلي ظهير مصر العقلي العظيم.. متمثلاً في كل من رفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عبده وطه حسين يستوجب وقفة.. ويفرض تحليلاً.. خصوصاً أن الرأي العام اعتاد من السياسيين ألا ينحوا إلي هذا الاتجاه وهم يخاطبونه حتي في تلك الأمور التي تتعلق بالتنوير ومحاربة التطرف ومواجهة الانعزال. استناد جمال مبارك في خطابه إلي العظماء الثلاثة كان موفقاً تماماً.. ومتسقاً للغاية مع المشروع الراغب في تعزيز (الدولة المدنية الحديثة) تلك التي تقوم علي المساواة والمواطنة والتنوير وعدم خلط السياسة بالدين.. ولعلها فرصة طيبة لكي نستعيد بعض مجدنا ونجلي عنه ما حاول البعض أن يغطيه بفكر سقيم وعقل لا يوائم العصر. الثلاثة، العظماء، ينتمون إلي أجيال مختلفة، تواصلت والتحمت رسالتها من مرحلة إلي أخري، لكل منهم مشروعه الذي سعي إلي ترسيخه بجهد خاص، يقوم علي اكتساب العلم وإعمال العقل وتطوير الثقافة والتواصل مع الجديد، والمناداة بمشروع حقيقي متكامل، وقد ارتبطوا جميعاً بمؤسسة العلم، وكانوا من أنصاره والداعين إلي إصلاحه، بل بذلوا جهوداً في سياق هذا.. بقيت محفورة بأسمائهم.. وظلت تنسب إليهم. رفاعة رافع الطهطاوي، الأزهري، حافظ القرآن، المطلع علي علوم العصر من خلال الابتعاث، المنسوبة إليه أفضال تأسيس عديد من مدارس مصر المعاصرة، الألسن والمحاسبة والإدارة، والذي استن أعمال ترجمات العلوم العصرية خصوصاً الرياضيات والطبيعة والطب في معاهد مصر، واحد من أهم جسور مصر إلي ثقافة العالم.. والداعين إلي العصرية في وقت مبكر وقبل أن تدفع العولمة بتيارها الجميع أمامها. محمد عبده، الأزهري أيضاً، والمصري الأصيل، العالم الجليل، والفيلسوف الذي لم يدرج في صفوف الفلاسفة، المصلح الديني العظيم، والمفتي الذي وضع قواعد مبكرة للاجتهاد الموائم للعصر، والمجتهد الذي وقف ضد تيارات التكلس في المؤسسة الأزهرية، وصاحب الريادة في تيار ضم الزعيم سعد زغلول من أجل تطوير التعليم واللحاق بالعصر، ورفيق كفاح جمال الدين الأفغاني، وعلم النهضة ومحرر العقل. طه حسين، عميد الأدب العربي، الأزهري الثالث، والأبرز في عصره وربما حتي الآن، المكافح والممثل لقيمة إنسانية عظيمة، والسابح ضد التيار، والمختلف منذ عشرينيات القرن الماضي مع تيارات جامدة، والمبتكر للأفكار، صاحب الشعر الجاهلي، والمتصل بعمق مع الحضارة الأوروبية، والمتبني لرؤية انتماء مصر إلي الحضارة المتوسطية، مجتهد آخر، كان ولم يزل حتي وهو في قبره خصماً للتطرف ومجدداً عظيماً ومؤثراً. إن استيحاء واحياء العظماء الثلاثة في خطاب سياسي هو في حد ذاته قيمة مهمة.. في زمن صار فيه ما ينبغي أن يكونوا رواد العلم مجرد أصوات تردد بلا إبداع، وتنبري للمسائل العامة بدون اجتهاد، وتهادن التطرف، وتردد الشعبويات، ولا تقود الثقافة، هو أمر حيوي ومهم.. وتكون له أهميته الأكبر إذا اقترن بما هو أبعد من مجرد الإشارة إليهم.. عملية استيحائهم وإحياء تراثهم لابد أن تكون شغلاً شاغلاً في مهمة ثقافية متنوعة وطموحة تقترن بها محاولات السياسة لتعزيز مواصفات الدولة المدنية الحديثة. ذلك أن المدنية هي في الأساس عمل ثقافي قبل أن تكون عملاً سياسياً.. وهي مهمة علمية قبل أن تكون مهمة قانونية.. هذا لا ينفي ذاك.. وتلك لا تنفي هذه.. لكن في الأصل كانت المهمة هي العقل.. وأعتقد واثقاً أن هذا سوف يكون من أولويات عمل السياسات بطريقة أو أخري. الموقع الالكتروني : www.abkamal.net البريد الالكتروني : [email protected]