دلالة آياته إما قطعية وإما ظنية، نصوص القرآن جميعها قطعية من جهة ورودها وثبوتها ونقلها عن الرسول إلينا، أي نجزم ونقطع بأن كل نص نتلوه من نصوص القرآن، هو نفسه النص الذي أنزله الله علي رسوله، وبلغه الرسول المعصوم إلي الأمة من غير تحريف ولا تبديل ، لأن الرسول المعصوم كان إذا نزلت عليه سورة أو آيات أو آية بلغها أصحابه وتلاها عليهم وكتبها كتبة وحيه، وكتبها من كتب لنفسه من صحابته منهم عدد كثير وقرأوها في صلواتهم، وتعبدوا بتلاوتها في سائر أوقاتهم، محفوظة في صدور كثير من المسلمين، وقد جمع أبو بكر الصديق بواسطة زيد بن ثابت، وبعض الصحابة المعروفين بالحفظ والكتابة هذه المدونات وضم بعضها إلي بعض، مرتبة الترتيب الذي كان الرسول يتلوها به ويتلوها به أصحابه في حياتهم وصارت هذه المجموعة وما في صدور الحفّاظ هي مرجع المسلمين في تلقي القرآن وروايته. وقام علي حفظ هذه المجموعة أبوبكر في حياته، وخلفه في المحافظة عليها عمر، ثم تركها عمر عند بنته حفصة أم المؤمنين، وأخذها من حفصة عثمان في خلافته ونسخ منها بواسطة زيد بن ثابت نفسه، وعدد من كبار المهاجرين والأنصار عدة نسخ أرسلت إلي أمصار المسلمين. فأبوبكر حفظ كل ما دونت فيه آية أو آيات من القرآن حتي لا يضيع منه شيء، وعثمان جمع المسلمين علي مجموعة واحدة من هذا المدون ونشره بين المسلمين حتي لا يختلفوا في لفظ ، وتناقل المسلمون القرآن كتابة من المصحف المدون، وتلقيا من الحفّاظ أجيالا عن أجيال في عدة قرون. وما اختلف المكتوب منه والمحفوظ، ولا اختلف في لفظة منه صيني ومراكشي ولا بولوني وسوداني، وهذه ملايين المسلمين في مختلف القارات منذ ثلاثة عشر قرناً ونيف وثمانين سنة يقرءونه جميعا لا يختلف فيه فرد عن فرد، ولا أُمّة عن أُمّة، لا بزيادة ولا نقص ولا تغيير أو تبديل أو ترتيب تحقيقا لوعد الله سبحانه، إذ قال عز شأنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9). وأما نصوص القرآن من جهة دلالتها علي ما تضمنته من الأحكام فتنقسم إلي قسمين: نص قطعي الدلالة علي حكمه، ونص ظني الدلالة علي حكمه. فالنص القطعي الدلالة: هو ما دل علي معني متعين فهمه منه ولا يحتمل تأويلا ولا مجالاً لفهم معني غيره منه، مثل قوله تعالي: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ } (النساء:12)، فهذا قطعي الدلالة علي أن فرض الزوج في هذه الحالة النصف لا غير، ومثل قوله تعالي في شأن الزاني والزانية: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } (النور: 2)، فهذا قطعي الدلالة علي أن حد الزني مائة جلدة لا أكثر ولا أقل، وكذا كل نص دل علي فرض في الإرث مقدر أو حد في العقوبة معين أو نصاف محدد. وأما النص الظني الدلالة: فهو ما دل علي معني ولكن يحتمل أن يؤول ويصرف عن هذا المعني ويراد منه معني غيره مثل قوله تعالي: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} (البقرة:228)، فلفظ القرء في اللغة العربية مشترك بين معنيين يطلق لغة علي الطهر، ويطلق لغة علي الحيض، والنص دل علي أن المطلقات يتربصن ثلاثة قروء، فيحتمل أن يراد ثلاثة أطهار، ويحتمل أن يراد ثلاث حيضات، فهو ليس قطعي الدلالة علي معني واحد من المعنيين، ولهذا اختلف المجتهدون في أن عدة المطلقة ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار. ومثل قوله تعالي: {حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ الْمَيتَةُ} (المائدة:3)، فلفظ الميتة عام والنص يحتمل الدلالة علي تحريم كل ميتة ويحتمل أن يخصص التحريم بما عدا ميتة البحر، فالنص الذي فيه نص مشترك أو لفظ عام أو لفظ مطلق أو نحو هذا يكون ظني الدلالة، لأنه يدل علي معني ويحتمل الدلالة علي غيره.