كف الفتي المشاغب إدريس علي عن اللعب فوق جبال النوبة، ملأ الدنيا بحديثه عن المبعدين والمفسدون، وأعجبه مكانه كواحد ضد الجميع، ولكنه فجأة، لملم حاجياته، ورحل، تاركا فراغا حقيقيا لا يعلم إلا الله من قد يشغله. في أول أيام عيد الأضحي الماضي، ود "عم إدريس" كما كان يحلو لي أن أناديه، أن يخرج، كان يود أن يقضي يومه بطريقة مختلفة، مع صديق مختلف، وقد كنت هذا الصديق الذي قضي معه اليوم، وقد بدأنا يومنا في العاشرة صباحا، وهو توقيت مبكر نسبيا، بدت معه منطقة وسط البلد وكأنها عادت لفترة الخمسينيات، وليست عام 2010، ما أضفي علي لقائنا وقع مختلف. تحدث عن أمور كثيرة، عن أطبائه الذين ينصحونه بالكف عن التدخين، بينما هو لا يستطيع، عن روايته القادمة "المفسدون" عن الشباب الذي لم يعد كما كان، عن الغلاء، وهؤلاء الذين يمتلكون كل شيء بينما لا يملك غيرهم أي شيء. في حديثه، وانتقاله بين الموضوعات، والأفكار، شعرت كأني مع فتي في العشرين من عمره، لا رجل في السبعين، صارحني بأنه هو نفسه كان البطل في روايته "اللعب فوق جبال النوبة"، كان هو ذاك الفتي الصغير الشقي، الذي يراه الجميع شيطانا، ويحاولون قمعه طوال الوقت، أخبرني بتلك الفتاة الشمالية الرقيقة، البيضاء التي جاءتهم في أسوان، وأحبها بينما كان لم يزل طفلا، وتحدث عن تلك العادات والأفكار التي قتلت حبيبته، حكي عن الأشرار بلسان طفل يبغض الشر والسوء، ويندهش لوجودهما في الحياة من الأساس. لفتني خلال لقائنا شيء مميز، ذاك الرقم الذي كان ينتظر منه مكالمة، سألته هو لمن؟ فقال: لصديق، جاءني في مرة ولم يجدني، فترك لي رسالة ورحل، رجل تعجبه أعمالي وما كتبت، ويريد أن يراني، وقد قررت أن أراه اليوم، قلت له: ولكنك لا تعرفه، ولم تره، وقد تنتظره طويلا فقال: لا بأس، يكفي أنه معجب بما أكتب، سأنتظره حتي يأتي فقد احترمني وجاءني، كيف لا أحترمه وأنتظره؟ إدريس الأب لم يكن إدريس علي أبا عاديا، كان مختلفا كل الاختلاف، رآه فريق حيادي أكثر من اللازم، ورآه فريق آخر أبا كما ينبغي للآباء أن يكونوا، بناته الاثنتان كانتا ضمن الفريق الثاني، حكي عن الأولي قائلا: هي حبيبة قلبي، كانت تعمل في مجال السياحة، كانت ماهرة، أراد أحد العرسان أن يخطبها، ورغم اعتراضي، قلت لا بأس، ودعوتها لأن تجلس معه وتعرفه عن قرب، وحين وجدته يلزمها بضرورة ارتداء النقاب، وعدم الخروج، وألا تراني، بعد الزواج إلا قليلا، فجاءتني تقول، لا يمكن أن أتزوج هذا الشخص أبدا، وفي مرة تالية جاءتني تخبرني بأن زميلها معجب بما أكتب، ويريد التعرف علي، ثم بعد عام من هذا جاءني الفتي يطلب يد ابنتي، لم يكن غني كمن سبقه، ولكنه كان إنسانا كما ينبغي أن يكون، فلم أطالبه بالكثير، ولم أثقل عليه، ولازال حتي اليوم يحترم احترامي له، ويقدر ابنتي كما يقدر والدها. وعن ابنته الثانية أخذ يحكي قائلا: ابنتي الثانية شاطرة، مجتهدة، تفني نفسها في العمل، وتتقنه إلي حد بعيد، وأتمني أن تكون سعيدة في حياتها بقدر سعادتها في عملها. إدريس المشاغب ولد إدريس علي عام 1940 في قرية قرشة، بمدينة أسوان، وقد بدأ الكتابة في سن متأخرة بسبب ظروف حياته الصعبة، ونشر أول قصة له في مجلة صباح الخير عام 1969، وكانت باكورة أعماله القصصية "المبعدون" عام 1985، أما روايته الأولي فكانت "دنقلة" التي صدرت عام 1993، وكانت تلك الرواية بمثابة صرخة احتجاج علي واقع الحياة في بلاد النوبة الجديدة بعد بناء السد العالي، لفتت إليه الأنظار، وأثارت النقاش بشأن النوبة وأهله. وكانت الهيئة المصرية العامة للكتاب قد أعادت نشر روايته "اللعب فوق جبال النوبة" مؤخرا، ومن المنتظر أن تثير روايته القادمة نفس القدر من الجدل والجلبة، الذي أثارته روايته الأخيرة «الزعيم يحلق شعره» إدريس في عيون الأصدقاء الروائي والناشر مكاوي سعيد، قال عنه: كان إدريس رجلاً جميلاً، وكاتبًا مبدعًا، وسوف تصدر روايته "المفسدون" عن دار "الدار" بمعرض الكتاب القادم، وقد كنت معه قبل أربعة أيام، وقد رأي غلاف الرواية، وأثار إعجابه، كما رأي البروفة الأخيرة، في لقائه الأخير معنا كان يشعر بالوحدة، فجاء إلي مقهي البستان، وجلس مع مجموعة من الأصدقاء هم الشاعر إبراهيم عبدالفتاح، والفنان التشكيلي محمد صلاح، وفتحي سليمان الذي كان معجبا به، للغاية، حتي أنه أنشأ له مجموعة خاصة به علي موقع الفيس بوك، بها صورة، معلومات عنه وعن كتبه وقصة حياته، ما أسعده كثيرا. الأديب يحيي مختار، أحد أقرب أصدقاء الراحل إدريس علي، تحدث عن صديق العمر قائلا: كان إنسانًا به براءة الطفولة، والكثير من النقاء، وفي نفس الوقت كان إنسانا موهوبا موهبة عميقة، ورائعة، يكفي أنه ربي نفسه بنفسه، وعلم نفسه، بنفسه، لم يدخل مدرسة، ولا كلية، ولكنه اجتهد وثقف ذاته ثقافة طيبة، فجاءت موهبته في الإبداع سواء علي مستوي القصص أو الروايات، وأعماله الروائية دليلا علي هذه الموهبة ك"النوبي"،و "دنقلة"، و" وقائع غرق السفينة"، و"انفجار جمجمة"، و"تحت خط الفقر" أعمال طيبة وفارقة، وعلامة في القص المصري والعربي، إضافة إلي أنه رمز من رموز الإبداع النوبي، والثقافة النوبية، خسرناه حقا. وعلي مستوي الصداقة، فقد كان إنسانا مخلصا في صداقته، حبيب صديقه، مستعد لأن يفديه بنفسه، وبروحه، وأن يخوض معارك أصدقائه كأنها معركته، يحبهم كأنهم شخصه، يؤثرهم علي نفسه، حظيت معه بصداقة و علاقة إنسانية، ودعابة مستمرة وروح سامية، وجمال حقيقي، فقدته حقا، وترك فراغا كبيرا في حياتي، لا أستطع أن أصفه، ولا أدري كيف سأكمل مشوار حياتي بدون إدريس علي.