كنت أسمع جاري يصرخ في زوجته: «مش عاوز دوشة.. أنا راجع تعبان من الشغل وعندي صداع»، وعندما يرن الهاتف يصرخ: «إوعي يكون حد من الشغل.. أنا في البيت.. يعني في الراحة.. يعني مش عاوز أتكلم في الشغل».. وعرفت رجالاً وسيدات يعد العمل والوظيفة بالنسبة لهم عذابًا مقيمًا يكرهونه ولا يفكرون فيه ولا يتحملون الحديث عنه بعد مغادرة مقار أعمالهم، وعندما كنت أسأل ببراءة: «لهذا الحد تكرهون العمل وتكرهون التفكير فيه؟». كان الرد عادة: «عمل إيه.. ده مجرد أكل عيش (بلا قرف)». ولأنني تعلمت منذ البداية أن العمل (شرف) فلم أتصور أنه (قرف) لقد ولدت وتربيت في بيت يعلو المدرسة التي يملكها ويعمل بها أبي وجدي وإخوتي، فأنا (أسكن) داخل العمل والمدرسة هي سكني وملعبي ومهدي وكان حديث الليل والنهار حول المدرسة وما بها من الحكايات وتختلط حياتنا بأصوات التلاميذ وجرس المدرسة ويهدأ الجو بالمدرسة صيفًا ونحن إلي عودة (الدوشة) فلقد تعودنا علي أن (الدوشة) جزء مهم من (معاشنا اليومي) ويبدو أن الارتباط مخرج المرسح بالدوشة ومكانها تحول عندي إلي (عقدة دائمة - أعني مزمنة) فلقد أدركت مدي غرامي بالأماكن التي أستقر بها فأحبها وأتعود عليها وأكره أن أفارقها ولقد سموني رجلاً (بيتوتيا)، وبما أني اعتبرت أن المسرح هو بيتي الذي أمضي فيه الجزء الأكبر من عمري فلقد عشقت المسارح التي (حبوت فيها هاويا) مثل المسرح القومي، ونضجت علي خشباتها مثل مسرح الجمهورية ودار الأوبرا الخديوية المحترقة ومسرح محمد فريد الذي ضاع ومسرح الزمالك... لكن «غرامي القاتل» هو المسرح الذي نال أكثر من ربع عمري وهو مسرح الطليعة بالعتبة الذي يمثل لي «قطباً جاذباً» رغم ما عانيته في إدارته من قلق وتوتر لكنها جاذبية الأمكنة أولاً ثم إنه المكان الذي ترعرت فيه إنتاجات من صنعي وصنع الآخرين ومثلت لنا وجوداً وازدهاراً وإثبات وجود في ساحة المسرح، أصبح المكان هو البيت والعمل هو حديث الصباح والمساء لا يتوقف الانشغال أو الكلام عن المسرح. ومأساة فنان المسرح أنه «هوائي عاطفي - طفل الفؤاد» يقع بلا تفكير في غرام المكان فيعشقه ويتعذب من أجله ومأساة العمل المسرحي أنه عمل يقوم علي «علاقات شاسعة» بين مجموعة من عشاق الفن يقعون في غرام المهنة ويرتبطون بحبها في تفان مرضِ وربما يصبح مزمناً فنلاحظ «تماسك» أفراد طاقم مسرحية من المسرحيات تماسكاً إنسانياً ثرياً للغاية وتكاد المجموعة لا تطيق مغادرة المكان أو أن يتفرق الشمل وعندما تطول فترة التدريب ويستمر العرض لشهور تتأصل تلك العلاقات إلي أن يأتي القدر «ليوقف» العرض والحياة ويمزق تحالف الجماعة ويأتي يوم الرحيل وتتدفق الدموع وتعلو كلمات الوداع إنه الفراق لحين لقاء آخر قد لا يتم العمل المسرح نسخة من الميلاد والموت» ولذا تنجح الفرق المسرحية عندما تستقر أحوال أسرتها داخل البيت الواحد وتستقر أحوالها إبداعاً وعطاءً ويتأجل قرار «الهدم والتفريق والإبعاد». وكم من قصص عاطفية ربطت بين فرق مسرحية عريقة وجديدة دمرها قرار «إداري غليظ الحس» يمزق التكوين الإنساني المتكامل مثل هدم المسرح العالمي ومسرح الحكيم والمسرح الحديث بعد ذلك ومثل قرارات النقل التعسفي من فرقة وكأنه التهجير والتشريد. يا سلام - كانت أيام وباقٍ كلام